تحول مقر السلطة الفلسطينية في مدينة رام الله، خلال الأيام الأخيرة إلى مزار لوفود أوروبية رفيعة المستوى، كان الغرض منها -وفقاً للتصريحات الصحفية- مناقشة مسألة عودة الدعم الأوروبي للسلطة الفلسطينية بعد توقفه في العامين الأخيرين، قبل أن يعود هذا الدعم بعد مخاض طويل من اللقاءات والزيارات المتبادلة.
وتم في رام الله يوم الثلاثاء 21 من يونيو/حزيران 2022 توقيع اتفاق بين السلطة الفلسطينية والاتحاد الأوروبي بموجبه سيتم الإفراج عن الموازنة المخصصة للأراضي الفلسطينية لعام 2021 بقيمة 224 مليون يورو.
لكن يبدو أن وراء عودة التمويل هذه أكثر مما هو معلن. فقد اتضح أن الأوروبيين ناقشوا مسألة الاستثمار في حقول الغاز الفلسطيني الذي تسيطر عليه إسرائيل، تمهيداً لتصدير الغاز للقارة الأوروبية مقابل شراء صمت السلطة الفلسطينية وعدم إبداء التحفظات عن الاتفاق الثلاثي الذي وُقع بين مصر وإسرائيل والاتحاد الأوروبي، والذي يقضي بنقل الغاز من إسرائيل إلى مصر لتسييله ثم تصديره إلى دول الاتحاد الأوروبي، كجزء من خطة أوروبا لتقليل الاعتماد على موارد الطاقة من روسيا.
عودة الدعم الأوروبي مقابل شراء الصمت الفلسطيني
كشف مصدر مطلع في الرئاسة الفلسطينية لـ"عربي بوست" أن التحركات الأوروبية الأخيرة كان عنوانها الطاقة والموارد الطبيعية، وما أثير من مسائل تمت مناقشتها مع المسؤولين الفلسطينيين تتعلق بعودة الدعم المالي الأوروبي، وإنقاذ السلطة من خطر الانهيار، والوقوف بوجه السياسات الإسرائيلية الأخيرة في القدس التي تقوّض حل الدولتين، وقد أبدى الأوروبيون تفهماً لهذه المطالب، الذين وعدوا بالعمل على دعم السلطة في هذه المواقف.
وأضاف: "هذا السخاء الأوروبي كان مشروطاً بأن تلتزم السلطة بميثاق دول غاز شرق المتوسط، وألا تعترض على أي تحركات تجري في المنطقة في ملف الطاقة، وتحديداً ما يتعلق ببدء عمليات التنقيب واستخراج الغاز الطبيعي من حقل مارين قبالة سواحل غزة، وحقل رنتيس غرب رام الله".
وأوضح أن المقابل هو تعهّد أوروبي بالضغط على إسرائيل بتخصيص جزء من كميات الطاقة والغاز الطبيعي من هذه الحقول لمحطات توليد الكهرباء في جنين وغزة بسعر تفضيلي، وأن الاتحاد سيكون ضامناً وراعياً لهذا الاتفاق.
المصدر ذاته ذكر أن تعهّد الأوروبيين للسلطة بإجراء تسوية للتوصل إلى اتفاق يُنهي أزمة الديون المتراكمة على السلطة الفلسطينية، وتحديداً تلك المتعلقة بالكهرباء التي تقترب فاتورتها الشهرية من 90 مليون شيكل (25 مليون دولار)، ودعم السلطة في خطط التنمية وبرامج الإصلاح الاقتصادي، مقابل عدم إثارة السلطة لملف حقوق الطاقة في المناطق الخاضعة لها، كون الظرف الاستثنائي الذي تعاني منه أوروبا يتطلب منها البحث عن منافذ جديدة لتعويض النقص الذي خلفه تقليص روسيا لكميات الغاز الطبيعي الموردة لأوروبا دون إثارة أزمة سياسية مع الدول المعنية".
وفود مكوكية وتحركات أوروبية لافتة في رام الله
كان أبرز اللقاءات التي جرت بين المسؤولين والأوروبيين ومسؤولي السلطة الفلسطينية في مقر المقاطعة في رام الله، هو لقاء رئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون دير لاين، برئيس الوزراء الفلسطيني محمد اشتية في 16 من يونيو/حزيران 2022، تلتها بعد ساعات قليلة زيارة لرئيس الوزراء الإيطالي ماريو دراغي لرام الله.
فيما أجرى رئيس السلطة محمود عباس في 13 من الشهر الجاري زيارة مطولة لمدة ثلاثة أيام لقبرص اليونانية، المقر التأسيسي لمنتدى غاز شرق المتوسط (EMGF)، حيث التقى خلالها بالرئيس القبرصي نيكوس أناستاسياديس، وهي زيارة توصف باللافتة، كون توقيتها جاء بعد إشاعات عن تردي الوضع الصحي للرئيس أبو مازن في الأيام الأخيرة، دفعته لإلغاء العديد من الاجتماعات واللقاءات المدرجة على جدول أعماله في تلك الفترة، كان من بينها اختصار مداخلة للرئيس في مؤتمر وثائق الملكيات والوضع التاريخي في القدس الذي عقد في رام الله، وشارك به الرئيس في مداخلة هاتفية رغم أن جدول المؤتمر كان مخطط أن يحضر الرئيس للمشاركة فيه.
على الجانب الآخر تزامن هذا التحرك الدبلوماسي الأوروبي في المنطقة، مع مشاركة السلطة الفلسطينية في الاجتماع الوزاري لدول منتدى غاز شرق المتوسط الذي استضافته القاهرة في الـ16 من الشهر الجاري، بحضور كل من إسرائيل والاتحاد الأوروبي وإيطاليا والأردن وقبرص اليونانية، الذي خلُص إلى اتفاق وموافقة الأطراف المجتمعة على بدء العمل بتصدير الغاز من إسرائيل إلى القارة الأوروبية.
يكتسب منتدى غاز المتوسط أهمية استراتيجية في معادلة الطاقة في العالم، وظيفته من جهة خدمة مصالح إسرائيل الاقتصادية، ومنحها مكانة استراتيجية في سوق الطاقة، وثانياً دمجها في المنطقة والتجسير بينها وبين العالم العربي.
ويبرز الحضور الفلسطيني في التحركات الأوروبية والإسرائيلية الجارية الآن في مسألة الطاقة، كونها عضواً مشاركاً ورئيسياً في منتدى غاز شرق المتوسط، وهذا يتطلب من فلسطين أن تكون مواقفها المعلنة متوافقة مع سياسات المنتدى؛ لأن تعارض سياسات دول الأعضاء حول توزيع الحصص قد يعيق ويؤخر أي إجراء من شأنه تصدير الطاقة والغاز الطبيعي إلى الخارج، كما أنه قد يثير أزمة سياسية قد تعيق أي اتفاق لتصدير الطاقة بين دول المنتدى.
حقول الغاز الفلسطيني
ويوجد في فلسطين أول الحقول المكتشفة للغاز الطبيعي في شرق المتوسط، وهو حقل مارين، قبالة سواحل غزة، والذي يخضع لسيطرة إسرائيلية، منذ اكتشافه في عام 1999، ويضم الحقل 1.1 تريليون قدم مكعبة من الغاز الطبيعي، وهي كميات في حال استثمارها من شأنها أن تغطي احتياجات السوق المحلي لمدة 25 عاماً، وتدر دخلاً سنوياً على السلطة ما بين 250-300 مليون دولار.
على الجانب الآخر وتحديداً في الضفة الغربية يعتبر حقل "رنتيس" المكتشف حديثاً غرب رام الله، أبرز موارد الطاقة الخاضع لسيطرة إسرائيلية، ويمتد الحقل على مساحة 432 كيلومتراً مربعاً، 60% من مساحته تقع في المناطق الفلسطينية، ويضم الحقل قرابة 2.5 مليار برميل نفط، ونحو 182 مليار قدم مكعبة من الغاز، تقدر عوائده الاستثمارية بنحو 155 مليار دولار.
جعفر صدقة، محرر الشؤون الاقتصادية في وكالة الأنباء الفلسطينية الرسمية "وفا"، قال لـ"عربي بوست" إن الموقف الفلسطيني الرسمي حتى هذه اللحظة يشير إلى إهمال غير مبرر لحقوق الغاز في الضفة وغزة؛ لأن استمرار الصمت في ظل ما يجري من اتفاقات ثنائية بين دول المنتدى والقارة الأوروبية، بالتزامن مع تحركات إسرائيلية لبدء عمليات الاستخراج من حقل مارين ورنتيس، سيعني إقراراً بتنازل فلسطيني عن هذه الحقوق، فكلما تأخر الوقت وبدأ تنفيذ الاتفاقيات على الأرض، لن يصبح للموقف الفلسطيني من حقوقه في موارده الطبيعية أي معنى.
وأضاف: "يكتسب الحضور الفلسطيني في المنتدى صفة قانونية كونها دولة تضم آباراً للنفط والغاز الطبيعي، كما تكتسب فلسطيني حضوراً في هذا المنتدى، يجعل رفضها لأي اتفاقات ثنائية بين إسرائيل والدول الأعضاء في المنتدى موقفاً متقدماً يضمن لها حقوقها لاحقاً، ويعيد تسليط الضوء على سرقة إسرائيل لمواردنا الطبيعية، إلا أن حقيقة ما جرى في الأيام الأخيرة هو أن السلطة رأت أن اعتراضها على هذه الاتفاقيات قد يكلفها خسارة دول صديقة كمصر والأردن ودول الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة، لذلك قبلت الصمت تجاه ما يجري من اتفاقات، مقابل التمسك بالوعود الأوروبية بالضغط على إسرائيل للتخفيف من ضغوطها على الفلسطينيين".