كشفت وثائق سرية لرئاسة الجمهورية في فرنسا، أن الرئيس الأسبق الجنرال شارل ديغول، كان على اطلاع بجميع تفاصيل "مجزرة باريس"، التي راح ضحيتها عشرات الجزائريين في العاصمة الفرنسية باريس، في 17 أكتوبر/تشرين الأول 1961، وذلك على عكس الرواية الرسمية التي ظلت تنكر علم السلطات الفرنسية بالحادث.
إذ لم يتم الاعتراف رسمياً بـ"مجزرة باريس" الدموية، التي وقعت قبل 60 عاماً، إلا في عهد الرئيس الفرنسي السابق فرانسوا أولاند، الذي حمَّل الشرطة الفرنسية عام 2012 مسؤولية المجزرة البشعة التي شهدتها شوارع باريس، لكن دون أن يعترف بمسؤولية الدولة الفرنسية.
حيث كشف تحقيق نشره موقع "ميديابارت" (Mediapart) الفرنسي، الإثنين 6 يونيو/حزيران 2022، أن الوثائق السرية لرئاسة الجمهورية التي اطلع عليها، تثبت أن الرئيس الأسبق الجنرال شارل ديغول والإليزيه قد عرفا كل شيء وبسرعة كبيرة، عن الجريمة.
كما أوضح الموقع الفرنسي أن الرئيس الفرنسي الأسبق شارل ديغول، طلب في رسالة مكتوبة أن تتم محاكمة "المذنبين"، ولكن "مجزرة باريس"، التي راح ضحيتها عشرات الجزائريين، بقيت بلا عقاب مطلقاً، لا قضائياً ولا سياسياً.
الموقع أشار إلى أن غموضاً كبيراً أحاط بقصة مذبحة 17 أكتوبر/تشرين الأول 1961، وهي جريمة دولة لا تزال تطارد الذاكرة الفرنسية الخاصة بالجزائر حتى يومنا هذا، مع أن الوقائع معروفة، وهي أن مظاهرة للجزائريين، الذين احتجوا سلمياً في باريس، على حظر التجول العنصري الذي فرضته عليهم السلطات، قمعتها الشرطة بوحشية غير مسبوقة؛ ما أسفر عن مقتل العشرات، وإلقاء بعضهم في نهر السين.
غياب رد فعل من حكومة شارل ديغول
حسب الموقع الفرنسي؛ فإن السؤال الذي أثاره المؤرخان، جيم هاوس ونيل ماكماستر، في كتابهما "باريس 1961″، هو "عدم وجود أية إشارة إلى ردود الفعل على المستويات العليا من الحكومة" بخصوص "مجزرة باريس".
حتى إن ديغول ووزراءه لم يتطرقوا لهذا الحدث في مذكراتهم، كما أن الوصول إلى الوثائق الأساسية للمجزرة في الرئاسة ووزارة الخارجية ووزارة الداخلية لا يزال محظوراً"، وفق الكاتب.
تمكن موقع ميديابارت، بفضل الفتح الجزئي للأرشيفات العامة بمرسوم تم توقيعه في نهاية ديسمبر/كانون الأول 2021، من الاطلاع على العديد من الوثائق في رئاسة الجمهورية، تثبت اليوم أن الجنرال ديغول عرف كل شيء وبسرعة كبيرة، عن مسؤولية الشرطة عن الجريمة وحجمها.
كما أن تعليقاً بخط يده على وثيقة بالإليزيه، يظهر أنه طالب بمعاقبة الجناة بعد "مجزرة باريس"، وطلب من وزير داخليته روجر فراي، التدخل لمواجهة الخطر الشديد المتمثل في تجاوزات قوى النظام.
مع ذلك، يشير الموقع الفرنسي، إلى أنه لم يحدث شيء، ولم تتم إدانة أي شرطي على الإطلاق، بل إن موريس بابون، مدير الشرطة الذي أشرف على المجزرة وغطى عليها، بقي في منصبه. كذلك الوزير روجر فراي.
وذهبت الجريمة بلا عقاب مطلقاً، لتتلاشى تدريجياً من الذاكرة الجماعية، لولا استمرار بعض المؤرخين والمحافظين والنشطاء والصحفيين في البحث عن الحقيقة.
وثائق تكشف حقائق جديدة عن "مجزرة باريس"
تحقيق الموقع الفرنسي قال إن هناك وثيقتين تم الاحتفاظ بهما في موقع للأرشيف الوطني، تلقيان الضوء الآن على هذا الجانب المظلم من القصة.
الأولى عبارة عن مذكرة موقعة بالأحرف الأولى من اسم برنار تريكو، مستشار الجنرال ديغول للشؤون الجزائرية والشؤون القانونية في الإليزيه، ويعود تاريخها إلى 28 أكتوبر/تشرين الأول 1961، وفيها كتب تريكو: "أبلغني مدير مكتب حافظ الأختام أن المدعي العام لمحكمة استئناف باريس، والمدعي العام بمحكمة السين، جاءا لتحذيره من خطورة الإجراءات القانونية المتبعة بعد وفاة عدد من المسلمين الذين عثر على جثثهم بعد المظاهرات الأخيرة".
أضاف المستشار أن "هناك 54 قتيلاً، أغرق بعضهم وخنق بعضهم وقتل آخرون بالرصاص، وقد فتحت إجراءات قضائية بالمناسبة، من المحتمل أن تؤدي إلى استجواب بعض ضباط الشرطة للأسف"، مشيراً إلى أن وزير العدل، برنارد شينوت، من مؤيدي الخط المتشدد ضد جبهة التحرير الوطني الجزائرية.
أما الوثيقة الثانية، فهي للمستشار برنارد تريكو نفسه أيضاً، وتحمل ملاحظة على الهامش بخط يد الجنرال ديغول، وهي موجهة لرئيس الجمهورية بتاريخ السادس من نوفمبر/تشرين الثاني 1961.
تقول الوثيقة، في فقرتها الأولى، إنه تم "اكتشاف جثث عدد من المسلمين الجزائريين في منطقة باريس منذ 22 أكتوبر/تشرين الأول"، وأبلغ المسؤول الكبير رئيس الدولة أن "الادعاء ليست لديه عناصر كافية لدعم المتابعة".
كما أضاف أن "السؤال الذي يعرض نفسه على الحكومة هو: هل سنكتفي بترك الأمور تأخذ مجراها، وفي هذه الحالة من المحتمل أن تتعثر، أم أن على وزير العدل ووزير الداخلية إبلاغ القضاة وضباط الشرطة القضائية المختصة أن الحكومة تريد أن يلقى الضوء على الموضوع".
موريس بابون "جزار باريس"
كان موريس بابون هو رئيس الشرطة في باريس الذي كان وراء "مجزرة باريس"، وأمر على الفور بجمع 7 آلاف من رجال الشرطة، و14 ألفاً من شرطة مكافحة الشغب؛ لتفريق المظاهرة، بحجة أن منظميها لم يحصلوا على موافقة قانونية، وفقاً للمؤرخ جان لوك أينودي في كتابه "معركة باريس".
تم إصدار الأوامر لسد جميع الطرق المتجهة إلى باريس، وأغلقت محطات المترو والقطار، وتم القبض على عدد هائل من المتظاهرين قُدر بـ11 ألف شخص، كان منهم جزائريون ومغاربة وتونسيون ومهاجرون من جنسيات أخرى أيدوا الجزائريين في مطالبهم.
ورغم الانتشار الكثيف للشرطة الفرنسية في جميع ميادين العاصمة وشوارعها الرئيسة؛ نجحت 3 مسيرات احتجاجية في الخروج بعد الثامنة مساءً، فانطلقت المظاهرة الأولى من جسر "نويي" باتجاه ميدان "الإيتوال"، وتحركت الثانية من ميدان "أوبرا" إلى ميدان "الجمهورية"، والثالثة من ميدان "سان ميشال" إلى شارع "سان جيرمان دو بري".
وعلى الرغم من أن جميع هذه المظاهرات كانت سلمية تماماً؛ إلا أن الشرطة الفرنسية فتحت النار على المتظاهرين في عدد من شوارع باريس وضواحيها، مثل شارع سان ميشال، وحي سان سيفرين؛ ما أدى إلى سقوط عدد كبير من الضحايا الذين قدروا بـ200 شخص، فيما أشارت تقديرات أخرى إلى أن العدد وصل إلى 300، مع ذلك تدعي السلطات الفرنسية أن عدد ضحايا المجزرة لم يتجاوز الـ40.
لم تسلم النساء والأطفال وكبار السن من العنف الذي شهدته العاصمة باريس في تلك الليلة؛ فقد هاجمت الشرطة جميع الموجودين في المظاهرات، مخلفة مئات الجرحى على قارعة الطرق في شوارع باريس وأزقَّتها، وقُدر عدد الجرحى الكلي بـ7 آلاف.
أما أولئك الذين نجوا من الموت وقبعوا في السجون؛ فقد عانوا من التعذيب، فيما اختفى قرابة 800 شخص آخرين أُلقِي بهم في قنوات المياه القذرة، وفي نهر السين، الذي قيل إن لونه أصبح أحمر قانياً.