على مساحة المنطقة البحرية المتنازع عليها بين لبنان وإسرائيل، برز تطور كبير باستقدام الأخيرة سفينة يونانية لإنتاج الغاز الطبيعي المسال وتخزينه "إنرجان" إلى حقل كاريش، والتي يفترض تشغيلها للتنقيب عن الغاز الأشهر الثلاثة المقبلة.
لا يزال لبنان يحاول الالتزام بالمفاوضات التي تقودها الولايات المتحدة الأمريكية بوساطة مبعوث الرئيس الأمريكي لشؤون أمن الطاقة العالمي آموس هوكشتاين، وفي هذا الإطار وجه لبنان دعوة لهوكشتاين للمجيء إلى لبنان لاستئناف التفاوض والوصول إلى حلّ.
فيما توافق رئيسا الجمهورية ميشال عون والحكومة نجيب ميقاتي على دعوة الوسيط الأمريكي أموس هوكشتاين للحضور إلى بيروت للبحث في مسألة استكمال المفاوضات لترسيم الحدود البحرية الجنوبية والعمل على إنهائها في أسرع وقت ممكن، وذلك لمنع حصول أي تصعيد
في إطار ذي صلة، قررت الحكومة اللبنانية القيام "بسلسلة اتصالات دبلوماسية مع الدول الكبرى والأمم المتحدة لشرح موقف لبنان، وللتأكيد على تمسكه بحقوقه وثروته البحرية، واعتبار أن أي أعمال استكشاف أو تنقيب أو استخراج تقوم بها إسرائيل في المناطق المتنازع عليها، تشكل استفزازاً وعملاً عدوانياً يهدد السلم والأمن الدوليين، وتعرقل التفاوض حول الحدود البحرية التي تتم بوساطة أمريكية وبرعاية الأمم المتحدة، وفق ما ورد في المراسلات اللبنانية إلى الأمم المتحدة والمسجلة رسمياً.
حسابات عون وباسيل.. التنقيب عن الغاز
وفي ظل حالة التخبط التي تسود الواقع السياسي اللبناني على خلفية التنقيب الإسرائيلي، انتشرت خلال الساعات الأخيرة سلسلة تصريحات وضعت رئيس الجمهورية ميشال عون في موقف محرج وذلك من خلال رفضه المرسوم الرئاسي رقم 6433 والذي في حال جرى إمضاؤه سيسجل لبنان اعتراضه في الأمم المتحدة ويتوقف أي نشاط تنقيبي ريثما تنتهي عملية المفاوضات الجارية بين لبنان وإسرائيل برعاية أممية.
يقول مصدر حكومي رفيع لـ"عربي بوست" إن رفض رئيس الجمهورية الإمضاء على المرسوم يندرج في إطار مقايضة حقوق لبنان وثروته النفطية برفع العقوبات على رئيس التيار الوطني الحر جبران باسيل والذي يقوم بسلسلة لقاءات مع مسؤولين أمريكيين منذ فترة وعلى رأسهم المبعوث الأمريكي هوكشتاين؛ بغية التخلي عن خط 29 مقابل رفع العقوبات الأمريكية عنه في شهر أغسطس/آب المقبل بشكل تلقائي من خلال عدم تجديد سلة العقوبات المتعلقة به، الأمر الذي قد يدفعه إلى اللجوء راهناً إلى فتح جبهات سياسية جانبية لتمرير الوقت ريثما تتضح نوايا الإدارة الأمريكية تجاهه قبل الإقدام على اعتماد الخط 23 أو الخط 29 للحدود البحرية اللبنانية.
بالمقابل يشير المصدر الحكومي إلى أنه وبناءً على رأي هيئة التشريع والاستشارات رقم 87/2021 بتاريخ 17-2-2021 تستطيع حكومة تصريف الأعمال برئاسة نجيب ميقاتي الاجتماع فوراً لإقرار تعديل المرسوم 6433، إذ تؤكّد الهيئة أنّ "على مجلس الوزراء أن يجتمع بهيئة تصريف الأعمال وفقاً للمادة 64 من الدستور لأخذ القرارات اللازمة في حال الضرورة التي تستوجب العجلة الماسّة لاتّخاذ قرارات فوريّة في شأنها".
ويرى المصدر أن لا مؤشّرات حتى اللحظة إلى عقد جلسة طارئة لمجلس الوزراء توقف مسار الاعتداء على ثروة لبنان بعد وصول سفينة الإنتاج "إنرجين باور" إلى حقل كاريش لتبدأ عملية استخراج الغاز من الحقل المتنازَع عليه مع لبنان، وذلك بسبب تخوف رئيس الحكومة نجيب ميقاتي من عقد جلسة لا يحضرها فريق رئيس الجمهورية والذي يمثل ثلث الحكومة؛ ما يعني فقدان النصاب وتطيير الجلسة لمصلحة باسيل، ما يسبب فضيحة سياسية من العيار الثقيل.
القرار في عهدة ميقاتي..
وفي هذا الإطار يشير الباحث والمحلل السياسي ربيع دندشلي لـ"عربي بوست" إلى أن المرسوم 6433 لا يزال في أدراج القصر الرئاسي منذ سنة وأكثر دون توقيع من رئيس الجمهورية الذي بات الأمر في عهدته منذ بدأ المفاوضات بين لبنان وإسرائيل برعاية الأمم المتحدة وبوساطة أمريكية، يشدد دندشلي على أن ما فعله عون يصل لمرحلة التفريط بالسيادة الوطنية والثروة النفطية للبنان، وكل ما يحدث ينتهي لخلاصة واحدة أن التيار الوطني الحر ورئاسة الجمهورية هدفها من وراء أي ملف هو المقايضة على ملفات أخرى أو الوصول لثمن مقابل.
وهذا ما يبدو من خلال المساعي التي يبذلها رئيس التيار الوطني الحر جبران باسيل بمقايضة المرسوم 6433 والذي يعني العودة لقواعد الخط 29 أي بما يشمل حقل كاريش مقابل رفع العقوبات الأمريكية عنه في الصيف المقبل وهناك مسارات وفقاً لدندشلي تدل على ذلك عبر اللقاءات السرية التي أجراها باسيل مع الوسيط الأمريكي آموس هوكشتاين خلال المرحلة الماضية؛ وعليه يعتقد دندشلي أن هذا الأداء يدل أن الدولة والرئاسة فرطت بحقوق لبنان من خلال المماطلة والتسويف.
الجيش حذر سابقاً
بالتوازي تشير مصادر خاصة لـ"عربي بوست" إلى أن قيادة الجيش البحرية اللبنانية سلمت رئاسة الجمهورية ما طلبته من معلومات مفصلة تفيد بشأن وصول السفينة بالتاريخ والساعة والإحداثيات المرتبطة بها والمسافة الفاصلة عن الخط 29 بوصفه خطّاً تفاوضيّاً لم يتنازل لبنان عنه، لكنّه يفتقر إلى توثيقه عبر اعتماده وإيداعه الأمم المتحدة عبر توقيع المرسوم 6433 الملقى في أدراج رئاسة الجمهورية منذ سنة، فيما رئاسة الجمهورية تعاملت مع المعلومات العسكرية بتجاهل واضح ولم تتحرك سياسياً إلا بعد وصول الباخرة المسؤولة عن التنقيب للجانب الإسرائيلي.
رئيس الوفد المفاوض: كفى مهاترات ولنتحرك
في إطار متصل يقول رئيس الوفد التقني العسكري المفاوض حول الحدود البحرية الجنوبية، العميد بسام ياسين لـ"عربي بوست"، إن لبنان لم يكن لديه خيار آخر قانوني سوى تعديل المرسوم وإيداع الخط 29 لدى الأمم المتحدة، وذلك منذ أن أودع الجيش وزارة الدفاع كتاباً بالرقم 2320 تاريخ 4 /3 /2021 يتضمن لوائح إحداثيات الحدود الجنوبية الغربية للمناطق البحرية اللبنانية، والتي تظهر مساحة إضافية تعود للبنان.
وحول ما يمكن استدراكه يشير ياسين إلى أنه ومن هذه اللحظة الخطيرة مطلوب من لبنان الإسراع بمجموعة من التحركات عبر إرسال رسالة إلى الأمم المتحدة يؤكد من خلالها أن باخرة الإنتاج بوجودها فوق حقل كاريش تعتدي على السيادة الوطنية اللبنانية، كونها مناقضة لمضمون الرسالة التي أرسلها لبنان إلى الأمم المتحدة في فبراير/شباط 2022، ويعترف فيها رسمياً بنقل التفاوض من الخط 23 إلى 29، إضافة إلى توجيه إنذار لشركة "إينرجيان باور" يحمّلها فيه المسؤولية عن وجودها في بقعة متنازع عليها بين دولتين.
ويؤكد رئيس الوفد المفاوض على أن هذه الخطوات مطلوبة من لبنان فوراً، والوقت ليس بصالحه، فبمجرد بدء الاستخراج لن يعود الحقل متنازعاً عليه، خصوصاً أنه أصلاً تأخر في التحرك باعتبار أن الباخرة انطلقت من سنغافورة قبل شهر ونيف، ونحن تابعنا مسارها ونبهنا إلى خطورة الموقف وضياع الحقوق، ولم يتحرك أي مسؤول لبناني، لكننا اليوم أصبحنا أمام تحدٍّ أخلاقي، ويجب أن يتدخل لبنان بقوة لمنع ضياع حقوقه وثرواته الوطنية.
بالمقابل يقول ياسين إن رئاسة الجمهورية تقصي الوفد العسكري اللبناني المفاوض لحضور الاجتماعات التي تحصل في القصر الرئاسي لمواكبة الملف، وتحديداً الاجتماع الأخير الذي جرى في نهاية الشهر المنصرم عندما استقبل الرئيس عون في حضور السفيرة الأمريكية دوروثي شيا، القائد الجديد للقيادة الوسطى الأمريكية الجنرال مايكل كوريلا،وقال حينها من على منبر القصر الجمهوري عبارة: "لسنا موجودين بالمعادلة".
وعليه يختم ياسين لـ"عربي بوست" القول: إن هدف الإدارة الأمريكية وإسرائيل هو المماطلة وهدر الوقت، حيث إنه في علم التفاوض هناك البديل عن التفاوض، وهذا بالنسبة إلى اسرائيل ومن خلفها الوسيط الأمريكي أنه تضييع للوقت حتى يستخرج الغاز والنفط من حقل كاريش ويصبح لبنان تحت الأمر الواقع؛ وعندها لن تهمّهم العودة إلى المفاوضات، فسيتركون المنطقة بين الخط 1 و29 معلقة، وكاريش يخرجونه من المعادلة التفاوضية.
هل يقع الانفجار الكبير؟
وحول توقعات ما يمكن أن يجري ميدانياً يشير المحلل السياسي طوني عيسى إلى أنّ لبنان مضطر إلى الحسم بين خيارين:
الأول أن يتصدّى حزب الله لعملية الحفر عسكرياً، ولو أنّها محميَّة بقوات البحر والجو الإسرائيلية.
والثانية أن تؤدي عملية الحفر الإسرائيلية إلى تثبيت قواعد تفاوض جديدة بمرونة أكبر في المفاوضات، ما يتيح التوصّل إلى اتفاق واقعي. وهذا الأمر هو الذي يميل إليه لبنان الرسمي، بدعوته الموجَّهة إلى واشنطن لإرسال موفدها آموس هوكشتاين في جولة جديدة.
ويرى عيسى أن فرص الانفجار والانفراج متساوية. ولكن، من الممكن أن يكون التماسّ العسكري مبرّراً للدخول في مفاوضات جدّية، ووفقاً لعيسى فإن هناك رأياً يقول إنّ حزب الله وإيران مِن ورائه لن ينفّذ التهديد بضرب الحفّارة العائمة، لأنّ لبنان لا يمكن أن يتحمّل ردّاً إسرائيلياً قد يكون في حجم ضربة حرب يوليو/تموز 2006 التي دمَّرت البنى التحتية وأبقتها مشلولة لسنوات. لكنه ربما يوجِّه رسائله الساخنة من خلال مسيَّرات تخرق القبة الحديدية الإسرائيلية، وتكون لها مفاعيل عسكرية محدودة.
لكن هذا التماس العسكري بالإسرائيليين يمكن أن يفتح باب المفاوضات الجدّية بين لبنان وإسرائيل. وقد يتمكن فيها الوسيط الأمريكي من الضغط لإمرار طرحه القاضي بترسيم خطّ حدودي متعرِّج يتيح لإسرائيل الاستفادة من "كاريش" بكامله، مقابل استفادة لبنان من حقل "قانا" بكامله.
ويرى عيسى أنه وفي ظلّ عدم التفاهم في لبنان على خطّ واضح لـ"الحقوق" اللبنانية، بين الخط 23 والخط 29، سيكون هذا الطرح نقطة وسطى، ويحقق مكاسب هائلة للبنان داخل البلوك 72، الذي يُقدَّر أنّه بين الأغنى بمخزونات الغاز في إسرائيل.