تجددت اتهامات فلسطينية لسلطات الاحتلال الإسرائيلي بسرقة أعضاء جثامين الشهداء المحتجزين لديها، وهي سياسة يقول مراقبون فلسطينيون إن دولة الاحتلال تنتهجها منذ عام 1948، في ظاهرة باتت تُعرف باسم "مقابر الأرقام".
وبحسب تقرير رسمي نشرته وزارة الإعلام الفلسطينية الإثنين 18 أبريل/نيسان عام 2022، فإن الاحتلال الإسرائيلي يحتجز جثامين 105 شهداء في الثلاجات من إجمالي 256 شهيداً في "مقابر الأرقام".
والاتهامات بسرقة الأعضاء لم تكن وليدة اليوم؛ إذ ترفض تل أبيب الكشف عن مصير الجثامين التي بحوزتها على مدى عقود، وبحسب التقرير فهي تستغل تلك الأجسام كبنوك بشرية للأعضاء.
ولفت التقرير إلى أنه خلال السنوات الماضية نُشر العديد من الصور لشهداء تم الاحتفاظ بجثامينهم في ثلاجات الموتى لدى الاحتلال لفترات متفاوتة، وبعد تسليم تلك الجثامين لذوي الشهداء، "اتضح أنها تفتقد بعض الأعضاء، وظهرت عليها خياطات جراحية توحي بأنه قد تم شقها لاستئصال أعضاء".
ما يجدد التساؤل الصادم فيما إذا كان الاحتلال الإسرائيلي يستغل جثامين الشهداء لحصاد الأعضاء البشرية ويستخدمها في علاج مواطنيه وجنوده؟
تأكيد الاتهامات وفق شهادات أطباء إسرائيليين
اعترفت إسرائيل في وقت سابق بأن علماء الأمراض والأطباء لديها ينتزعون الأعضاء من القتلى الفلسطينيين وآخرين، وذلك دون موافقة عائلاتهم أو أي إخطار رسمي بالأمر.
وهي ممارسة زَعَمت أنها انتهت في التسعينيات، ومع ذلك لا تزال تتجدد كلما تحفَّظَت سلطات الاحتلال الإسرائيلي على جثامين الشهداء والضحايا بعد أية تطورات وامتنعت عن تسليمها لذويها.
التصريحات التي أقرت بتورط الأطباء الإسرائيليين في عمليات حصاد الأعضاء غير الشرعية فجّرها الرئيس السابق لمعهد الطب الشرعي بدولة الاحتلال، في أعقاب اتهامات أثارتها صحيفة سويدية عام 2009 أفادت فيها بأن إسرائيل تقتل الفلسطينيين من أجل استخدام أعضائهم- وهي تهمة نفتها إسرائيل ووصفتها بـ "معاداة السامية" في مناسبات عدة، بحسب صحيفة Times Of Israel الإسرائيلية.
سرقوا الجلود والقرنيات وصمامات القلب!
ظهرت القصة بشكل رسمي بادئ الأمر في مقابلة مع الطبيب يهودا هيس، الرئيس السابق لمعهد أبو كبير للطب الشرعي بالقرب من تل أبيب، مع نانسي شيبر هيوز، أستاذة الأنثروبولوجيا في جامعة كاليفورنيا-بيركلي التي أجرت دراسة عن أبو كبير.
المقابلة التي أجريت مع المسؤول الإسرائيلي عام 2000، ونشرتها الصحيفة السويدية باستوكهولم Aftonbladet. تم بثها أيضاً عبر القناة الثانية الإسرائيلية، وجاء فيها اعتراف أن المتخصصين في أبو كبير قاموا بالفعل بـ"حصاد" جلود وقرنيات وصمامات القلب والعظام في التسعينيات من جثامين الفلسطينيين والعمال الأجانب علاوة على جثامين جنود ومواطنين إسرائيليين توفوا في ظروف مختلفة. وتمت تلك العمليات في كثير من الأحيان دون أي إفصاح رسمي أو بإذن من الأقارب وذوي الموتى باختلاف جنسياتهم.
وأكد الجيش الإسرائيلي للبرنامج آنذاك تورطه بالفعل في تلك الممارسات، لكنه في ذات الوقت زعم أن مثل تلك الأنشطة توقفت قبل عقد الألفينات ولم تعد تتكرر، طبقاً لـ CNN.
لكنها الرواية التي ينفيها الجانب الفلسطيني اليوم، مجدداً اتهاماته لإسرائيل بانتهاجها من خلال سياسات التحفظ على جثامين شهدائه المستمرة حتى الآن.
الصحيفة السويدية نقلت عن فلسطينيين آنذاك أيضاً قولهم إن القوات الإسرائيلية بعد احتجازها لجثامين شباب من الضفة الغربية وقطاع غزة أعادت جثثهم إلى عائلاتهم بأعضاء مفقودة.
"اضطررنا لإغلاق أجفانهم بالغراء"
في المقابلة، وصف هيس الذي تمت إقالته عام 2004، كيف لجأ أطباؤه لإزالة القرنيات من الجثث التي استغلوها كبنوك بشرية، ومن بينها جثامين الشهداء الفلسطينيين.
وقال، وفقاً لموقع NBCNews: "كنا نضطر إلى غلق الجفون بالغراء"، وذلك لكي لا يتم افتضاح السرقة.
وأضاف: "لم نكن نأخذ القرنيات من العائلات التي عرفنا أنها ستفتح جفون جثامين ذويها الموتى بحوزتنا".
بعد الكشف عن هذا الكم من التفاصيل في المقابلة لأول مرة عام 2004، تم فصل هيس من منصب رئيس معهد الطب الشرعي بسبب مخالفات تتعلق باستخدام الأعضاء هناك؛ إذ اتُّهم باستغلال 125 جثة في حصاد الأعضاء دون تصريح.
ومع ذلك أسقط المدعي العام الإسرائيلي التهم الجنائية ضد الطبيب، حيث واصل هيس عمله ككبير أخصائيي علم الأمراض في المعهد قبل أن يتقاعد لاحقاً من العمل الطبي.
بنوك الجلود والسرقة بشكل "بارع"
في كتابها "على جثثهم الميتة"، كشفت الطبيبة الإسرائيلية مئيرا فايس المزيد حول قضية سرقة أعضاء الشهداء الفلسطينيين، وذكرت أنه في فترة ما بين عام 1996 و2002 عملت فايس في معهد أبو كبير للطب الشرعي في تل أبيب لإجراء بحث علمي، وهناك رأت كيف كانت تتم سرقة الأعضاء، لا سيما من الفلسطينيين.
وبحسب تصريحات فايس، الخبيرة الإسرائيلية في علم الإنسان أو الأنثروبولوجيا، قالت: "خلال وجودي في المعهد شاهدت كيف كانوا يأخذون أعضاء من جسد الفلسطيني، ولا يأخذون في المقابل من الجنود الإسرائيليين".
وزادت في كتابها أنهم كانوا يأخذون قرنيات، وجلوداً، وصمامات قلبية من الجثامين، وهو الأمر الذي لا يمكن للأشخاص العاديين غير المتخصصين في مجال الطب والتشريح من الانتباه لحدوثه.
لافتة إلى أن الأطباء الإسرائيليين كانوا يلجأون إلى وضع قشور بلاستيكية بدلاً من القرنية لكي لا تنكشف العملية لاحقاً، كما كانوا يستأصلون الجلود من الضحايا من الظهر بحيث لا تعرف عائلة الضحية بالأمر عند استلام جثته من سلطات الاحتلال.
وتابعت في كتابها الصادر عام 2014 أن الجيش الإسرائيلي سمح للمعهد الطبي بأبو كبير بإجراء تشريح على كل جثمان فلسطيني، ورافق التشريح إجراء لاستئصال الأعضاء، استخدمها بنك الجلد وبنوك الأعضاء الأخرى في عمليات الزراعة والأبحاث وفي تعليم الطب.
إسرائيل تتصدر في زراعة الأعضاء، لكن على حساب من؟!
مديرة بنك الجلد الإسرائيلي، ملكا شآووت، قالت بدورها في تحقيق تلفزيوني سابق بثته القناة العاشرة الإسرائيلية في مارس/آذار عام 2014، إن احتياطي إسرائيل من "الجلد البشري" وصل إلى 170 متراً مربعاً في ذلك الوقت.
هذا المخزون من الجلد البشري في "بنك الجلد الإسرائيلي"، أنشئ عام 1985، ولطالما أثار مخاوف من اعتماد الاحتلال على جثث الشهداء الفلسطينيين والعمال الأجانب الذين عادة ما يكونون من دول إفريقية، في الحصول على "قطع غيار بشرية".
وقد تحول "بنك الجلد الإسرائيلي" إلى أكبر بنك جلد في العالم، على الرغم من أن عدد سكان إسرائيل أقل كثيراً من الولايات المتحدة الأمريكية، كما أن البنك الإسرائيلي أنشئ بعد 40 عاماً من إقامة "بنك الجلد الأمريكي"، بحسب صحيفة العربي.
لكن المفارقة هنا أن إسرائيل تحتل المرتبة الثالثة في رفض سكانها التبرع بالأعضاء؛ حيث تحتل المرتبة الـ18 عالمياً في زراعة القلب، والمرتبة الثالثة في رفض التبرع بالأعضاء.
سياسة التحفُّظ على جثامين الشهداء
وعلى مدار عقود، تحرص سلطات الاحتلال الإسرائيلي على الاحتفاظ بجثث الشهداء الفلسطينيين منذ العام 1948 وتمتنع عن تسليم جثثهم لذويهم دون أسباب، أو دون إقرارات مسبقة من الأهالي بالامتناع عن تشريح الجثث. من هذا المنطلق تم إعداد مقابر يطلق عليها الفلسطينيون "مقابر الأرقام".
يتخذ الاحتلال هذه السياسة كوسيلة لابتزاز وتخويف الفلسطينيين أو كورقة تفاوضية. وفي عام 2008 أوقفت سلطات الاحتلال انتهاج التحفُّظ على جثامين الشهداء، ولكنها عادت إلى ممارستها كآلية ضبط وعقاب، بقرار من الحكومة الإسرائيلية بتاريخ 13 أكتوبر/تشرين الأول 2015.
وبينما كان جيش الاحتلال يُفرج عن جثامين شهداء الضفة الغربية بسهولة أكبر نسبياً، كانت شرطة الاحتلال تفرض شروطاً قاسية على تسليم الجثامين من حملة الهوية المقدسية مثل اشتراط الدفن الفوري بعد تسلّم الجثمان وحظر التشريح، وتسليمه بعد منتصف الليل وبحضور عدد محدود من الناس.
لكن علاوة على جريمة الاحتلال وسرقة الأرض، والقتل والاستهداف المباشر، يُعد احتجاز جثامين الشهداء وعدم الكشف عن أماكن المفقودين مخالفة لمعاهدة لاهاي 1907 المتعلقة بقوانين الحروب وأعرافها.
كما تُعد مخالفة لاتفاقية جنيف الأولى في المادة 17 التي تلزم الدولة المحتلة بتسليم جثامين الشهداء لذويهم ودفنهم مع المحافظة على كرامتهم وفقاً لمعتقداتهم الدينية.