باتت سلسلة جبال الكاربات العملاقة الممتدة غرباً عبر أوكرانيا وبولندا ملاذاً "آمناً" لعشرات الآلاف من الفارين من نيران القصف الروسي المتواصل بشكل يومي، بحسب ما أوردته صحيفة Washington Post الأمريكية، الأربعاء 16 مارس/آذار 2022.
بحسب الصحيفة ذاتها، ليس هناك مكانٌ آمنٌ بحق في جميع أنحاء أوكرانيا تقريباً، حتى إن الملاجئ الموجودة تحت الأرض ومنازل الأقارب والمدن البعيدة لم تسلم من القصف الروسي.
لكن المكان الوحيد الذي يعمه السلام الحقيقي ويُعتبر ملاذاً بحق في هذه الأيام، هو مكانٌ من صنع الطبيعة: المرتفعات العالية لجبال الكاربات الشرقية. إذ تتميز بخيوط كثيفةٍ وممتدة من أشجار الشوح الأبيض، المغطاة بالثلوج الطازجة، حيث تنتشر القرى التي تضخمت أحجامها مع فرار عشرات الآلاف إلى هناك.
حيث قالت ميروسلافا باتسيادي، الأم الشابة وأمينة مكتبة المدرسة، من مدينة بيلا تسيركفا التي تتعرض لقصفٍ شديد جنوب كييف: "شعرنا بالأمان بمجرد وصولنا إلى الجبال. إنه أمرٌ لا شعوري. لقد أصبح بإمكان ابنتي أن تخلد إلى النوم مرةً أخرى. لقد رأينا هنا أن الحياة يمكن أن تستمر".
إحساس صادق بالأمان
فيما تحدث الفارون إلى جبال الكاربات الأوكرانية عن إحساسٍ صادقٍ بالأمان عكس الملايين الذين فروا إلى مدن أوكرانيا الغربية، حيث تقطع أصوات إنذارات الغارات سكون الليل لساعات، ويذكّرك سيل الأشخاص الجدد بالدمار القاسي الذي خلّفوه وراءهم.
بينما قالت هانا ميلنيك (69 عاماً)، التي فرّت من مدينةٍ لأخرى قبل أن تصل إلى الجبال: "كنت أنام مرتديةً حذائي وسترتي منذ بدء الحرب، لأنني قد اضطر إلى الفرار في أي لحظة. لكنني ارتديت منامتي (ثوب النوم) في الليلة الماضية. ولم أتصور قط أنني سأبكي من السعادة لأنني ارتديت منامة في يومٍ من الأيام".
في حين ينام 600 من الواصلين الجدد الآن، بكل هدوءٍ، في قرية كريفوريفنيا غرب أوكرانيا، التي يقطنها عادةً نحو 1.300 شخص.
إخفاء الناس وإيواؤهم
يشار إلى أن سكان جزر الكاربات اعتادوا منذ قرون، على إخفاء الناس وإيوائهم. بدايةً باليهود الفارين من المذابح، ووصولاً إلى الأوكرانيين الفارين من جيش ستالين الأحمر. ولهذا فإن السكان المحليين هنا ينحدرون من تلك الموجات السابقة.
من جهته، قال فولوديمير هراموف (60 عاماً)، صهر هانا: "يجلب لنا جيراننا الحليب المغلي كل صباح. هذه هي طبيعة الأشخاص الطيبين الذين يعيشون هنا".
كان غالبية الواصلين إلى تلك الجبال العملاقة قد تركوا كل شيءٍ وراءهم. ولذلك فإن من لا يملكون المال يحصلون على إقامةٍ وطعامٍ بالمجان. ويُعوّضون ذلك بالمساهمة في جهود الحرب المحلية، عن طريق خياطة شِباك التمويه لنقاط التفتيش، وصنع زجاجات المولوتوف الحارقة، وتسخين قدور دامبلنغ البطاطا من أجل إرسالها إلى الصفوف الأمامية.
مظاهر الحرب
لكن الجميع هنا لا يتظاهرون بأن الحرب غير موجودة، رغم أنهم اتخذوا الجبال كملاذ. إذ تعيش المنطقة بالكامل في أعلى حالات التأهب، حيث تحولت الإدارة المدنية لإدارةٍ عسكرية. كما أصبح فاسيل بروفشوك، أعلى البيروقراطيين منصباً هنا في السابق، يرتدي الزي العسكري الآن.
بروفشوك أضاف: "لدينا أشخاصٌ ينامون في المدارس، والنزل، والمنازل الخاصة، والمباني الحكومية. ونأمل أن يجدوا بعض الراحة هنا".
تلك الراحة التي أشار إليها بروفشوك جاءت يوم السبت 12 مارس/آذار، في صورة كوبٍ من الشاي وكعكة شوكولاتة بالنسبة لفيكتوريا هلازوفا (80 عاماً)، وهي منتجةٌ سينمائية معروفة في كييف، ولديها 28 فيلماً تغطي العصر السوفييتي وعصر الاستقلال داخل أوكرانيا.
إذ زارت فيكتوريا قرية كريفوريفنيا للمرة الأولى قبل سنوات لتصوير أحد أفلامها. وفي الشهر الماضي، كانت على وشك الانتهاء من تصوير فيلمها الـ29، وهو وثائقيٌ عن طبيبٍ نفسي يعمل في شرقي أوكرانيا. لكنها اضطرت للفرار إلى محطة القطار مع سكان 56 من أصل 60 شقة في بنايتها بكييف.
فيما تُدرك فيكتوريا أنها قد لا تعود إلى منزلها مطلقاً. لكنها ما تزال داخل أوكرانيا على الأقل.
كما وجد هراموف أيضاً العزاء في فكرة أنه لم يهجر بلده رغم فراره من منزله.
وربما تجاوز هراموف سن التجنيد ببلوغه الـ60 عاماً، فإنه كان رجلاً عسكرياً ذات يوم، كما ينحدر من نسلٍ طويل من المتمردين ضد الإمبريالية الروسية.
حيث قضى والده وجدّه عقوداً داخل المعتقلات والسجون السوفييتية باعتبارهما من أعداء الدولة المزعومين. كما يفخر هراموف باستقلال أوكرانيا، ولهذا فهو يعرف كيفية حمل بندقية الكلاشينكوف للدفاع عنها. وعندما تحين اللحظة المناسبة؛ سيترك هانا في الجبال مع نساء وأطفال عائلاتهم، ثم يعود إلى الجبهة.
واستطرد هراموف قائلاً: "لن أرحل، لا يمكنني أن أرحل. يمكنهم أن يقولوا إنني لم أعد قادراً. لكنني قادرٌ على القتال. لقد عشت في الغنى، وسأعيش في الفقر. لقد عشت في السلام، وسأعيش في الحرب. ولن تتوقف الحياة".
حرب متواصلة
في غضون ذلك، دخلت الحرب الروسية-الأوكرانية أسبوعها الثالث؛ حيث تشتد رحاها يوماً بعد يوم، في ظل تمسّك طرفي النزاع بموقفهما، وسط تزايد أعداد القتلى بين الجانبين.
كانت روسيا قد أطلقت، فجر الخميس 24 فبراير/شباط 2022، عملية عسكرية في أوكرانيا، تبعتها ردود فعل غاضبة من عدة دول بالعالم، وهو الأمر الذي دفع عواصم ومنظمات إقليمية ودولية إلى فرض عقوبات مختلفة على موسكو، شملت قطاعات متعددة، منها الدبلوماسية والمالية والرياضية.
يعد هذا الهجوم الروسي هو الأكبر على دولة أوروبية منذ الحرب العالمية الثانية، ويُنذر بتغيير نظام ما بعد الحرب الباردة في أوروبا.
من جانبه، اتهم الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي موسكو بمحاولة تنصيب حكومة "دُمية" (تخضع لروسيا)، وتعهد بأن الأوكرانيين سيدافعون عن بلادهم ضد "العدوان".
شروط موسكو
في المقابل، تقول موسكو إن "العملية العسكرية تستهدف حماية أمنها القومي"، وحماية الأشخاص "الذين تعرضوا للإبادة الجماعية" من قِبل كييف، متهمةً ما سمتها "الدول الرائدة" في حلف شمال الأطلسي "الناتو" بدعم من وصفتهم بـ"النازيين الجدد في أوكرانيا".
يأتي ذلك في الوقت الذي تشترط فيه روسيا لإنهاء العملية، تخلي أوكرانيا عن أي خطط للانضمام إلى كيانات عسكرية بينها حلف شمال الأطلسي "الناتو"، والتزام الحياد التام، وهو ما تعتبره كييف "تدخلاً في سيادتها".
في حين لقي الآلاف مصرعهم في الحرب وشُرِّد الملايين حتى الآن.
كانت العلاقات بين كييف وموسكو قد توترت منذ نحو 8 سنوات، على خلفية ضم روسيا شبه جزيرة القرم الأوكرانية إلى أراضيها بطريقة غير قانونية، ودعمها الانفصاليين الموالين لها في "دونباس".