تشهد الأسواق الفلسطينية موجة من التضخم الحاد في أسعار السلع التموينية، وبشكل خاص القمح الذي يستورد الفلسطينيون الجزء الأكبر منه من أوكرانيا، والتي توقفت عن التصدير بسبب الحرب الجارية مع روسيا، ما أثار المخاوف من اقتراب نفاد المخزون الاستراتيجي للقمح قبل حلول شهر رمضان القادم.
وارتفعت أسعار الدقيق بنسبة تجاوزت 40%، حيث قفز سعر كيس الطحين بوزن 60 كيلوغراماً لـ150 شيكلاً، أي ما يعادل (46 دولاراً)، في حين كان سعره في السابق عند مستوى 30 دولاراً، (سعر صرف الدولار مقابل الشيكل 3.25).
الأزمة لم تتوقف عند هذا الحد، فإلى جانب القمح ارتفعت أسعار السلع الأساسية كالأعلاف بنسبة 30%، والأرز بـ15%، والزيوت النباتية بـ25%، كما تأثرت أسعار اللحوم والدواجن التي ارتفعت أسعارها بنسبة 20% بسبب توقف إمدادات الأعلاف والبيض المخصب المعد للتفريخ الذي يعتمد السوق المحلي على الواردات القادمة من دول العالم التي باتت تتجه للتحوط خشية استمرار الحرب الدائرة في القارة الأوروبية.
مخزونات القمح لا تكفي
وينظر لارتفاع أسعار الدقيق كمصدر قلق بالنسبة للفلسطينيين، نظراً لأهميته الاستراتيجية كمصدر رئيسي للغذاء، إذ يقدر الاستهلاك السنوي منه بـ600 ألف طن، يتم تمويله من ثلاثة مصادر أساسية؛ الأول المساعدات الغذائية من وكالة الغوث وتشغيل اللاجئين "الأونروا" بمعدل 150 ألف طن سنوياً، وهذه الكمية مخصصة للاستهلاك المنزلي وليست لأغراض تجارية كالمخابز وغيرها.
أما المصدر الثاني فهو الاستيراد من دول العالم بمعدل يتراوح بين 400 – 450 ألف طن سنوياً، تقدر فاتورة الاستيراد السنوي منه بـ600 مليون دولار، وتقدر واردات القمح من أوكرانيا بـ40% من حصة الاستيراد السنوي، بجانب دول أخرى كالولايات المتحدة الأمريكية وأستراليا وإسرائيل، أما المصدر الثالث فهو الإنتاج المحلي من الزراعة الذي لا يتجاوز حجم الإنتاج السنوي منه 30 ألف طن، تكفي لسد احتياجات السوق المحلي لمدة 15 يوماً فقط.
وتفتقر فلسطين لوجود صوامع ومخازن استراتيجية للدقيق، ويقتصر الاحتياطي منه على المحال التجارية ومخازن الوكلاء التي تستطيع تغطية احتياجات السوق المحلي لفترة قصيرة تتراوح ما بين أسبوعين إلى شهر، وهو ما أثار المخاوف لدى الشارع من إمكانية استمرار هذه الأزمة مع اقتراب شهر رمضان.
غزة ومخاوف من أزمة المجاعة
سمير عليان، وهو أستاذ في إحدى المدارس الحكومية في غزة قال لـ"عربي بوست": "نعيش هذه الأيام في ظروف مشابهة للسنوات الأولى لفرض الحصار على غزة، حيث ارتفعت الأسعار بشكل جنوني خلال فترة قصيرة، كما تشهد الأسواق والمحال التجارية عجزاً واضحاً في سلع الدقيق والزيوت، حتى البيانات التي تصدر عن الحكومة ووزارة الاقتصاد التي تدعي أن لا أزمة حقيقية في توفر السلع الأساسية لم تعد مقنعة بالنسبة لنا، لأن الواقع على الأرض يخالف التصريحات الرسمية التي تهدف فقط لطمأنة الشارع ونزع فتيل القلق من المواطنين".
وأضاف: "أتقاضى من الحكومة راتباً شهرياً بمتوسط 400 دولار، وأعيل 6 أبناء، وكنت حتى وقت قريب أمول بشكل شهري احتياجات المنزل من الطحين والدواجن والسلع الغذائية الأخرى، ولكن بمستوى الأسعار الحالي لهذه السلع فلم يعد من الممكن توفير متطلبات الأسبوعين الأول والثاني من الشهر، وهو ما ينذر بأننا مقبلون على أزمة معيشية ستطال كل مناحي الحياة".
تأتي هذه الأزمة في وقت يعاني فيه سكان القطاع من ظروف اقتصادية وإنسانية بالغة الخطورة، فغزة لا تزال تواجه تحدياً سياسياً واقتصادياً يتمثل باستمرار التلكؤ الإسرائيلي في إعمار ما دمرته الحرب الأخيرة في مايو/أيار 2021.
إنسانياً، يعاني نحو 80% من سكان قطاع غزة من انعدام الأمن الغذائي، كما يعتمد 60% من المواطنين على المساعدات الغذائية التي تقدمها المنظمات الدولية والأممية أبرزها UNREA، ويصنف 60% من السكان تحت خط الفقر، و30% تحت خط الفقر المدقع، إضافة لأزمة البطالة التي تجاوزت مستوى 50%.
فيما كشف مصدر حكومي لـ"عربي بوست" أن "السلطات المصرية أبلغت تجار الدقيق في غزة بفرض حظر على تصدير القمح و5 سلع أخرى كالعدس والمعكرونة والفول الحصى والمدشوش لمدة ثلاثة أشهر، للحفاظ على المخزون الاستراتيجي خشية استمرار الحرب الدائرة بين روسيا وأوكرانيا".
وأضاف: "نعتمد على مصر في توريد هذه السلع بنسبة تزيد عن 60%، لذلك قد نكون أمام موجة حادة من ارتفاع أسعار هذه السلع الأساسية بصورة أكبر مما عليه الآن أو حتى نفادها من الأسواق خلال أقل من شهر، وحتى البديل الإسرائيلي فإنه غير مجدٍ من الناحية الاقتصادية، كون أسعارها لا تناسب مستوى الدخل في غزة، ولا يستطيع غالبية السكان شراءه".
السلطة في مواجهة الشارع
في الضفة الغربية لا يختلف الواقع كثيراً فرغم التطمينات الصادرة عن السلطة الفلسطينية بشأن مخزون السلع الرئيسية، إلا أن بوادر أزمات اجتماعية بدأت تظهر بشكل سريع في مدن كالخليل وبيت لحم، اللتين شهدتا مظاهرات احتجاجية، وإضرابات في القطاع التجاري بسبب ارتفاع مستوى الأسعار في السلع الأساسية والوقود وغاز الطهي.
وكان اتحاد مخابز محافظة بيت لحم قد دعا إلى إغلاق المخابز في المدينة ليوم واحد، احتجاجاً على ارتفاع أسعار الدقيق، لعدم ملاءمة تكلفة الإنتاج مع تكلفة البيع التي حددتها الحكومة، حيث تباع ربطة الخبز وزن 3 كيلوغرامات بـ7 شواكل (ـ2.5 دولار)، في حين يطالب الاتحاد برفع التكلفة لـ3.5 دولار لتتناسب مع مستوى الأسعار الحالي للدقيق وغاز الطهي.
ودفعت هذه الاحتجاجات السلطة إلى إلزام المخابز بخفض وزن ربطة الخبز عند مستوى 2600غم بنفس السعر، خشية من توقف المخابز عن العمل التي هددت باللجوء لقرارات تصعيدية ما لم تتحرك الحكومة للحفاظ على أسعار السلع.
صلاح هنية، رئيس جمعية حماية المستهلك قال لـ"عربي بوست" إنه "لا يمكن تقدير حجم الآثار المباشرة لأزمة توقف إمدادات الدقيق من أوكرانيا للسوق الفلسطيني على الأقل في هذه المرحلة، لأن هناك عوامل أخرى مرتبطة بالعلاقة التجارية التي تحكم السوقين الفلسطيني والإسرائيلي، فاتفاق أوسلو ينص على أن السوقين الفلسطيني والإسرائيلي يقعان في اتحاد جمركي واحد، وأي قرار تفرضه إسرائيل برفع نسبة الضريبة والجمارك سيطبق على الفلسطينيين".
وتابع: "نحن بدورنا نسعى لتخفيف آثار هذه الأزمة من خلال الضغط على الأطراف ذات العلاقة بتحمل مسؤوليتها في ضبط الأسعار ومنع أي احتكار للسلع، وتحمل تكاليف الفروقات بين الأسعار بطرق مختلفة كتخفيض نسبة الجمارك المفروضة على الواردات للسلع الأساسية أو تقديم إعانات للتجار لمحاولة تجاوز هذه الأزمة إلى حين البحث عن بدائل أخرى".
فلسطينيو الداخل الأكثر تضرراً بالأزمة
في إسرائيل سرعان ما ظهرت تداعيات الحرب في أوكرانيا على أسعار الدقيق، حيث أبلغت شركة شتيبل، أكبر مطاحن الدقيق في إسرائيل شركات المواد الغذائية والمخابز وشبكات البيع بالتجزئة، أنها قررت رفع أسعار الطحين بنسبة 18%، وقد تضطر إلى زيادة هذه النسبة إلى 50% في حال تأخر وصول إمدادات القمح من روسيا وأوكرانيا.
وتفاقم هذه الأزمة من الحالة الاقتصادية التي يعاني منها فلسطينيو الداخل، الذين سيكونون الأكثر تضرراً من موجة الارتفاع في أسعار السلع، نظراً لما يعانونه من حالة تمييز وتدمير ممنهج تمارسه الحكومة بحقهم، حيث يقع أكثر من 40% من المجتمع العربي تحت خط الفقر، وهو أعلى بـ3 أضعاف من معدل الفقر بالنسبة لليهود، كما يصنف 70% من المجتمع العربي بالطبقة الدنيا، و28% من الطبقة الوسطى، وأقل من 2% تصنف من الطبقة الثرية.