حالة من الترقب والحيرة والخوف من المجهول تسود الشارع المصري في الأيام الماضية؛ خوفاً من زيادات هائلة في أسعار السلع والخدمات بدأت بشائرها تظهر بشكل واضح في الأسواق، بجانب التقارير المتعددة عن اضطرار الحكومة المصرية إلى تخفيض قيمة الجنيه المصري أمام العملات الأجنبية وما سوف ينتج عن ذلك من ارتفاع جديد في الأسعار وزيادة التضخم ووصوله إلى معدلات قد لا يحتملها كثير من أفراد الطبقة المتوسطة في مصر.
زاد من حالة الاضطراب التزام الحكومة والجهات الرسمية المصرية الصمت تجاه التقارير الغربية التي تتحدث عن خفض قريب في قيمة الجنيه المصري، وتركت الساحة أمام الإعلاميين المحسوبين على الأجهزة الأمنية لتحذير المواطنين المصريين من موجة غلاء فاحش قادمة نتيجة تأثر الاقتصاد المصري بتبعات الأزمة العالمية نتيجة الحرب الروسية الأوكرانية والعقوبات الغربية على روسيا.
وكان لافتاً في هذا السياق فيديو تم تداوله على نطاق واسع واستُقبل بشكل ساخر، للإعلامي عمرو أديب يطالب فيه المصريين بالاستغناء عن البيض الحيوي "الأورجانيك" والاكتفاء بالبيض العادي، خصوصاً أنهما يتساويان في الطعم حين يتم قليهما مع البسطرمة! أو الاكتفاء بشراء كمية بسيطة بدلاً من شراء كرتونة كاملة (الكرتونة 30 بيضة).
معاناة مصر بدأت قبل الحرب وتفاقمت بعدها
باحث اقتصادي بمركز حكومي للدراسات لخَّص في تصريحات لـ"عربي بوست" الموقف بمصر، فقال إن هناك مشكلة تتمثل في نقص السيولة من العملات الأجنبية بالبنك المركزي المصري وبالتالي في البنوك العاملة بمصر، وهي مشكلة بدأت في مارس/آذار من العام الماضي، حين أقدم النظام المصرفي في مصر على إطلاق حزمة تحفيز لمواجهة التأثيرات الاقتصادية لفيروس كورونا والتي تضمنت مساندة العملاء المتضررين من الأزمة وتقديم حزم للتحفيز، وتوفير ضمانات الائتمان، والحفاظ على سيولة كافية في النظام المصرفي، والحفاظ على استمرارية العمليات المصرفية وسير العمل في البنوك، وضمان استمرارية عمل نظم الدفع بكفاءة وفاعلية وأمان لتدفق الأموال وإجراء التسويات بين البنوك داخلياً وخارجياً.
يضيف أن هذه الإجراءات تسببت في تناقص الاحتياطي الدولاري بالبنك المركزي إلى أقل من 37 مليار دولار، ورغم زيادة الاحتياطي خلال الشهور التالية ووصوله إلى 40.9 مليار دولار تقريباً فإن المشكلة تفاقمت مجدداً في بداية العام الحالي مع إعلان عدد من البنوك الغربية وعلى رأسها المصرف الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي، عن رفع سعر الفائدة على الودائع بداية من مارس/آذار الحالي، ثم زاد الطين بلة اندلاع الأزمة الروسية-الأوكرانية التي خلَّفت آثاراً اقتصادية كارثية على العديد من دول العالم ومنها مصر.
ويلخّص الباحث معاناة مصر من الأزمة الروسية-الأوكرانية بقوله إن لها شقين: الأول خاص بارتفاع أسعار أغلب السلع التي تستوردها مصر من الخارج سواء البترول أو القمح وحتى المعادن والأغذية، إلى جانب الحاجة لسداد أقساط وفوائد الدين الخارجي التي تبلغ 17.9 مليار دولار للدين متوسط وطويل الأجل حسب البيانات الرسمية، والشق الثاني يتمثل في انخفاض العائدات المتوقعة من السياحة التي خسرت مصر الكثير منها بسبب أزمة كورونا، ثم تعرضت لمحنة حقيقية بعد اندلاع الحرب في أوكرانيا نتيجة أن السياح الروس والأوكرانيين كانوا يمثلون- بحسب تقديرات غير رسمية- نحو 40% من إجمالي عدد السياح الأجانب لمصر، بتدفقات نقدية تتراوح بين مليار وملياري دولار سنوياً، إلى جانب تأثر الصادرات المصرية إلى الخارج وتباطؤ حركة الشحن البحري والجوي بشكل عام والتي ستؤثر بشكل مؤكد في عوائد قناة السويس خلال الفترة المقبلة.
كل ما سبق تسبب في تفاقم العجز بميزان المعاملات الجارية، الذي يقيس الفارق بين العوائد الداخلة للدولة من الصادرات والاستثمارات، والمدفوعات للواردات وخلافه، حيث زاد العجز من 14.2 مليار دولار في عام 2020، إلى 14.8 مليار دولار في الشهور التسعة الأولى من العام الماضي، وسط توقعات بأن يكون قد ناهز حاجز 20 مليار دولار بنهاية العام الماضي.
أزمة سيولة
كيف تؤثر تلك الأزمة على البنوك وكيف يتعامل معها البنك المركزي؟! يجيب مصدر بالبنك المركزي المصري عن السؤال فيقول لـ"عربي بوست"، إن هناك ما يمكن وصفه بالانخفاض غير المريح للسيولة من العملات الأجنبية بالفعل، لكن البنك المركزي قام بعدة إجراءات فعالة لمنع تفاقم الوضع، كان أولها ترشيد سحب العملات الأجنبية من البنوك المحلية عبر عدة إجراءات، منها ضرورة الإبلاغ عن المبلغ المراد سحبه قبل 48 ساعة في حالة المبالغ الكبيرة التي لا تقل عن مليون دولار، ثم قام "المركزي" تالياً بوضع إجراءات جديدة لعملية الاستيراد؛ لوقف التصرفات العشوائية التي تغرق الأسواق المحلية ببضائع ضعيفة الجودة وفي الوقت نفسه تمثل ضغطاً هائلاً على الدولار في السوق المصرفي المحلي، مضيفاً أن النتيجة كانت جيدة بارتفاع الاحتياطي النقدي، حيث بلغ في شهر يناير/كانون الثاني الماضي 40.9 مليار دولار.
لكن هناك تقارير إعلامية ذكرت أن الدين الخارجي الخاص بالمصرف المركزي المصري وحده بنهاية سبتمبر/أيلول الماضي، بلغ 24.9 مليار دولار، من مجمل الدين الخارجي الذي بلغ 137.4 مليار دولار حسب آخر بيانات معلنة، ليمثل دين المصرف المركزي الخارجي نسبة 61% من الاحتياطيات.
وعن التقارير الغربية التي تؤكد قرب خفض قيمة الجنيه المصري وآخرها تقرير بنك الاستثمار جي.بي مورغان، الذي قال نصاً: "نتوقع أن تكون هناك حاجةٌ الآن على الأرجح إلى خفض سعر الصرف"، مقدراً أن الجنيه المصري حالياً أعلى من قيمته بأكثر من 15%، قال المصدر إن تقارير من هذا النوع تبقى مسألة أو اقتراحات نظرية، حيث يقوم مُعد التقرير بدراسة وبحث الوضع الاقتصادي وفقاً لما يملكه من أرقام عن أداء الاقتصاد المصري، ويستعرض الاحتمالات المتاحة لعلاج القصور الذي يراه ثم يقترح أفضل الحلول من وجهة نظره، لكن تبقى هذه التقارير مجرد اقتراحات وتوصيات غير ملزمة للحكومة المصرية، وقد لا تكون مُلمة بتفاصيل الوضع الاقتصادي على الأرض، مؤكداً أن هناك أكثر من سيناريو تدرسه الحكومة في الوقت الحالي غير خفض قيمة الجنيه، منها الاقتراض من البنك الدولي أو صندوق النقد الدولي.
وكذلك رفع سعر الفائدة على السندات وأذون الخزانة؛ من أجل جذب المستثمرين الأجانب مجدداً، وأخيراً خفض محدود لقيمة الجنيه لن يزيد على قروش، لأنَّ خفض القيمة المغالى فيها سيمثل ضغطاً غير مقبول على أسعار السلع والخدمات التي بدأت في الارتفاع من الآن نتيجة سلوكيات التجار غير المنضبطة، وهذا الارتفاع سيكون له مردود سياسي بالتأكيد على الشارع المصري.
1.9 مليار دولار خرجت من مصر منذ بداية الحرب وتوقعات بخروج 15 ملياراً!
كثرت التكهنات والشائعات حول قيام مستثمرين أجانب بإخراج مليارات الدولارات من مصر منذ بداية الحرب الروسية-الأوكرانية، ويعلّق مصدر بالبورصة المصرية على هذه التكهنات في تصريحات لـ"عربي بوست"، فيقول إن المعلومات الموثقة حتى هذه اللحظة تفيد بقيام المستثمرين الأجانب ببيع ما قيمته 1.9 مليار دولار من أدوات الدين المصرية الممثلة في السندات وأذون الخزانة، وذلك منذ بداية الحرب حتى الآن، مشككاً فيما ذكرته وكالة رويترز التي كانت قد رصدت تخارُج الأجانب من سندات حكومية بقيمة ثلاثة مليارات دولار منذ بداية الحرب حتى الثاني من مارس/آذار الجاري.
ونقل تقرير إعلامي عن المحلل الاقتصادي عبد النبي عبد المطلب، إن "هناك توقعات بخروج 15 مليار دولار كان يستثمرها الأجانب في أذونات الخزانة؛ نظراً إلى سعيهم للحصول على مزيد من الربح في دول أوروبية والولايات المتحدة"، وذلك من إجمالي حجم الاستثمار في أدوات الدَّين المصرية الذي انخفض في الفترة من أغسطس/آب من عام 2021 حتى نهاية العام، من 33 مليار دولار إلى ما دون 25 ملياراً.
وعن الأسباب التي دفعت المستثمرين الأجانب إلى البيع، قال المصدر إن هناك أسباباً متنوعة، أبرزها خوف المستثمرين من تقلص قيمة حيازاتهم إذا اضطرت مصر إلى خفض قيمة عملتها، وهو أمر تكرره العديد من التقارير الغربية، خصوصاً تقرير بنك الاستثمار "جي بي مورغان" الذي يصدر مؤشراً للأسواق الناشئة، وللمصادفة كانت مصر قد عادت للانضمام إليه في بداية العام الحالي (2022)، ليكون أول تقاريره عن مصر هو ذلك الذي توقع فيه أن تتجه القاهرة لخفض قيمة الجنيه، مدفوعةً بالضغوط المالية التي تواجهها.
سبب آخر هو قيام مصرف الاحتياط الفيدرالي الأمريكي برفع سعر الفائدة، مما يغري المستثمرين بالتحول إلى هناك، نتيجة انخفاض المخاطر مقارنة بالأسواق الناشئة ومنها مصر، التي كانت تعوّض ارتفاع المخاطر بوجود فارق كبير في سعر الفائدة، كما أن هناك تقارير عن نية بنوك مركزية في عدة دول أوروبية رفع سعر الفائدة؛ لتعويض التضخم الناتج عن العقوبات الاقتصادية التي فرضتها دول الاتحاد الأوروبي على روسيا، وتركت آثارها على اقتصادات هذه الدول.
وعن الحلول التي يمكن أن تلجأ إليها الحكومة المصرية لوقف نزيف مبيعات أدوات الدين، قال إن أكثر الحلول عمليةً خفض قيمة العملة المحلية أمام الدولار؛ لطمأنة المستثمرين الأجانب في أدوات الدين الحكومية مثلما حدث بعد تحرير سعر الصرف في 2016، وهناك حل آخر هو رفع سعر الفائدة رغم محاولة وزارة المالية المصرية مقاومته، لكن يبدو أنه لن يكون له بديل، وسيكون الكلام في الفترة المقبلة عن نسبة الرفع وليس المبدأ، حيث رفضت الوزارة عطاءات بنكية لتغطية طروحات أدوات دين حكومية، بسبب ارتفاع أسعار الفائدة المقدمة من البنوك والتي تراوحت بين 14.5% و17.5%، بينما كانت تبلغ الفائدة على آخر طرح لأدوات الدين 8.25% فقط.
غياب الحكومة عن المشهد، والإعلام الموالي يتصدى لمخاوف الشارع المصري
مثلما ذكرنا يمثل الغياب الكلي للحكومة والمسؤولين الرسميين عن توضيح موقف الاقتصاد المصري والرد على ما يتردد عن اضطرار أو نية الحكومة تحريك سعر صرف الجنيه بخفضه ونسبة الخفض إذا تم إقراره، علامة استفهام كبيرة في الشارع المصري، خصوصاً مع استمرار الارتفاع غير المبرر في أسعار أغلب السلع، حيث بدأت العديد من المخابز رفع سعر الرغيف بنسب تتراوح بين 25 و50% بخلاف العديد من السلع الأخرى، خصوصاً المرتبطة بالقمح (تستورد مصر ما نسبته 80% من روسيا وأوكرانيا من إجمالي وارداتها من القمح سنوياً)، حيث ارتفعت أسعار الدقيق والمكرونة واختفت سلع أخرى من الأسواق انتظاراً لارتفاع أسعارها.
ومقابل الصمت الحكومي تصدَّى الإعلام الموالي، للشائعات حول خفض قيمة الجنيه وارتفاع أسعار السلع، كما تم توزيع تعليمات لكل مقدمي البرامج المحسوبين على الأجهزة الأمنية للبدء بحملة للتمهيد لارتفاع الأسعار في مصر مثلما ارتفعت في كل دول العالم، بحسب هؤلاء الإعلاميين. كما تطرق آخرون مثل أحمد موسى في برنامجه على فضائية "صدى البلد"، لإبراز جهود الدولة في السيطرة على الأسعار، التي أرجع ارتفاعها إلى جشع التجار.
وكان اللافت تركيز العديد من التقارير في الصحف والفضائيات المصرية على الحملات الحكومية لمحاربة الاحتكار، والقبض على التجار المحتكرين، والإعلان عن تغليظ عقوبات من يُضبط منهم، ونشر تقارير يومية عن قيام حملات التفتيش الحكومية بمصادرة مئات الأطنان من السلع المخبأة في مخازن بعض التجار انتظاراً لارتفاع أسعارها.
وتصدى إعلاميون آخرون للرد على التقارير الغربية التي تتوقع خفض قيمة الجنيه المصري، معتبرين أن الإعلام الغربى يقود حملة شرسة ضد "الجنيه المصري" بعدما ترك الدول التي تدور الحرب على أراضيها، وتفرغ فقط للحديث عن مصر ووضع الجنيه المصري، والاقتصاد المصري، دون مؤشرات أو دلائل حقيقية تكشف النتائج التي وصلوا إليها غير تخويف المستثمرين وزيادة حالة الهلع والفوضى التي ظهرت في الأسواق خلال الأيام الماضية.
في الوقت نفسه نظم البعض من المحسوبين على اللجان الإلكترونية حملات على مواقع التواصل الاجتماعي تحت عنوان "مع بعض على الحلوة والمُرَّة"؛ للتخفيف من غضب المواطنين من ارتفاع الأسعار التي لم يعد بمقدور كثير من أبناء الطبقة المتوسطة تحمُّلها، لكن هذه الحملة قوبلت بسخرية، حيث تهكم البعض قائلاً: "كأن السنوات الماضية كانت حلوة حتى نتحمل المرة حالياً!".
كما ظهرت حملات على مواقع التواصل تحت عنوان "خلّيها تعفن"؛ لحث المواطنين على مقاطعة السلع التي يرتفع سعرها بشكل مغالىً فيه.