اختار التنازل عن جنسيته المصرية غير طواعية، فالبلاد التي عاش فيها خيّرته بين الحرية والجنسية، فاختار حريته بعد مسيرة نضال خاضتها زوجته الفرنسية سيلين شعث، واستطاعت تحريك المجتمع الدولي لإطلاق سراح رفيق دربها.
هو رامي شعث، الناشط الحقوقي الفلسطيني-المصري، الذي أطلقت السلطات المصرية سراحه بعد سنتين ونصف من الاعتقال في سجن طرة، بسبب ما تصفه بمواقفه الحقوقية ضد إسرائيل.
يتحدث رامي شعث، في لقائه الخاص مع "عربي بوست"، بعد أسبوعين من إطلاق سراحه وسفره إلى فرنسا، عن ظروف اعتقاله في مصره، وما عاشه وسط زنازين يقول إنها تعج بالمعتقلين السياسيين والمدافعين عن حقوق الإنسان.
وبعد نحو سنتين ونصف من الاعتقال في مصر، يحكي الناشط الحقوقي الفلسطيني المصري رامي شعث لـ"عربي بوست"، عن ملابسات اعتقاله وتفاصيل المرحلة التي قضاها بالسجن، كما يكشف عن الجهات التي كانت سبباً في اعتقاله، وحيثيات إجباره على التنازل عن جنسيته المصرية.
اعتقلتَ في الـ5 من يوليو/تموز 2019، في إطار حملة أمنية واسعة، هل يمكنك أن تحكي لنا حيثيات هذا الاعتقال؟
تم اعتقالي في 5 يوليو/تموز 2019، من بيتنا الساعة الـ12 والنصف صباحاً، إثر هجوم عدد ضخم جداً من القوات الأمنية معها اثنان من ضباط أمن الدولة، ولاحقاً بعد ربع ساعة من دخولهم، لحِق بهم لواء في جهاز أمن الدولة. كان عدداً كبيراً جداً من المسلحين الملثمين، طبعاً أنا ناشط سياسي وسلمي رفقة زوجتي في البيت، كان بإمكانهم أن يبعثوا بمخبر يلقي يقبض عليّ أو حتى عن طريق بعث استدعاء إلى القسم. قلت لهم: لماذا كل هذا الترهيب وكل هذه الأعداد الضخمة! لقد صادروا كثيراً من ممتلكاتي مثل الحواسيب والهواتف وكثيراً من الأوراق والكتب بدون إعطاء أي وثيقة لتحديد المصادرات، وبالطبع لم تكن في الأحراز ولم تُرد لي حتى بعد إخلاء سبيلي. بعدها تم تكبيلي ووضع عصابة على عيني وأخذوني إلى مبنى أمن الدولة في العباسية، وبقيت هناك ثلاثة أيام مكبلاً ومغطى العينين متوجهاً للحائط. أما زوجتي سيلين فتم اصطحابها في سيارة أخرى إلى المطار وظلت طوال الليل بالمطار إلى أن تم ترحيلها قسرياً صباحاً إلى فرنسا دون تهمة أو سبب قانوني.
ما التهم التي وُجهت إليك؟
دائماً ما تكون تهماً معتادة وهي الانضمام إلى جماعة إرهابية ونشر أخبار كاذبة، ومحاولة زعزعة الاستقرار وزعزعة ثقة المواطنين بالحكومة. وهي تهم سخيفة، وفي حالتي رفضوا أن يقولوا ما اسم الجماعة الإرهابية التي أنا متهم بالانضمام إليها. وأما عن نشر أخبار كاذبة على صفحات التواصل الاجتماعي فهي تهمة أكثر سخافة، لأني معروف بعدم امتلاكي طيلة حياتي أي صفحة على فيسبوك أو غيره من شبكات التواصل الاجتماعي، وكانت مفاجأة للمحقق الذي ارتبك في كيفية التعامل مع هذه الحقيقة. ولكن سأوضح لك أنه لم يتم التحقيق معي طوال فترة الاعتقال سوى عبر طرح أسئلة سطحية حول آرائي الشخصية في الأوضاع السياسية لمدة 45 دقيقة فقط خلال العامين ونصف.
صِف لنا كيف كانت ظروفك داخل السجن؟
أول ما وصلت إلى سجن طرة تحقيق، أخذوني إلى غرفة الإيراد وهي غرفة حقيرة، مساحتها ثلاثة وعشرون متراً مربعاً كما بقية الغرف، تضم نحو 32 معتقلاً، كانت ظروف حياة صعبة جداً، قضيت في غرفة الإيراد 37 يوماً. فكنا نحتاج أن نغير ملابسنا بالتناوب، وكذلك الأمر بالنسبة للنوم، كنت في العنبر 4 في طرة تحقيق وهو العنبر الذي يضم المتهمين بتهم ذات طابع مدني، كان هناك حقوقيون وصحفيون وناشطون من أشكال مختلفة، الوجه المشترك بينهم أن غالبيتهم شباب. من بين اللحظات السعيدة التي أحسست فيها بالأمل والمحبة، أنه في صباح اليوم الثاني، التقيت عدداً ضخماً جداً من المعتقلين في الطابور على باب غرفة الإيراد سمعوا أنني وصلت، أتوا ليشدوا على يدي وأخذوا يربتون على ذراعي تطييباً لخاطري، وقدموا لي كل الاحتياجات الضرورية، لأني لم أحمل معي أي شيء، طبعاً لا سجائر ولا مياه ولا ملابس أو أكل، لأن زيارات الأهل كانت ممنوعة في البداية، وطبعاً بدون رعاية الزملاء لي والتكافل بيننا كانت الصعوبة ستتضاعف، معظم الناس لم أعرفهم بشكل شخصي، لكن منهم من ارتبط بي وتعرف علي في مظاهرة، أو وقفة بالميدان في أثناء فترة يناير/كانون الثاني. وإما أشخاص حضروا معي اجتماعاً أو ندوة أو مؤتمراً أو إحدى قوافل دعم غزة، أو أحد أنشطة حملة المقاطعة، الزملاء في السجن حينها قدروا أني شخص التزمت بمبادئي حتى في فترة ما بين 2011 وما بعدها. للأسف بعض الناس غيّروا رأيهم واتجاهاتهم، أنا كنت سعيداً، لأني على الأقل بقيت متمسكاً بمبادئي.
هل يمكنك أن تسرد لنا بعض قصص المعتقلين الذين عايشتهم خلال فترة اعتقالك؟
تعرفت على مئات المعتقلين من السياسيين والناشطين والحقوقيين من كل المهن والتوجهات السياسية، وتعرفت على كثير من المواطنين العاديين البسطاء، غير المسيسين. وكل من قابلته لم يرتكب جرماً أو اقترف عنفاً، الجميع اعتقل بسبب أفكاره السياسية أو لتعبيرة عن رأيه حتى إن بعضهم زُج به في السجن، بسبب شكل مكتبته أو تدوينة على صفحته الافتراضية، كان ذلك كافياً لاعتقالهم وإلصاق تهمة الإرهاب بهم.
خرجت من السجن بمئات الرفاق وبمئات الأصدقاء، وأغلبية الزملاء ما زالوا ملتزمين بقضيتهم وإلى لحظة خروجي. بكينا معاً أكثر من مرة. التزمت أمامهم والتزمت بيني وبين نفسي أنني لن أتخلى عن قضيتهم، ولن أتخلى عن حقهم في الخروج، ولن أتخلى عن إنسانيتهم، ولن أتحدث فقط عن المشهورين منهم، رغم أن المشهورين منهم أصدقائي وكنت سأفضّل ذكرهم، لكن، أنا مدرك أن الظلم يحيق بكل منهم، لأني عايشت مآسيهم، وعشنا مع بعضٍ أيام بكاء وأيام قهر، وعشنا مع بعضٍ أيام ضحك وانتصارات صغيرة وأمل في المستقبل. عشت مع بعضهم فقدانه والدته أو والده والإحساس بالقهر بالفقد في السجن وعدم القدرة على زيارتهم. عشت مع بعضهم فقدان عمله وطرده منه وسوء ظروف حياة أهله المعيشية، أهلٌ عاجزون عن زيارة أبنائهم ومحرومون من لقائهم. رأيت المعاملة المهينة التي يتعرض لها أهلهم وظروف سفر بعضهم من محافظات بعيدة والانتظار لعشرات الساعات، بعضهم انتهت حياتهم الأسرية وبعضهم انفصل، بعضهم فضّل أن ينفصل عن زوجته؛ كي لا يلحق بها الأذى. رأيت في عيونهم القهر من مرض أولادهم. للأسف عايشنا قهر السجن وقهر الظروف، وعشنا مع بعض الرغبة في التحدي والرغبة في الاستمرار والرغبة في أمل في المستقبل، وبعضهم فقد الأمل، بعضهم قد يكون تطرف في فكره، ولكنهم يظلون أقلية صغيرة.
هل ترجح أن يكون لأطراف أخرى غير الأجهزة الأمنية المصرية دور في اعتقالك؟
قيل لوالدي، وهو رجل سياسي قديم: لدينا مشكلة مع رامي، فهو يضر بعلاقاتنا مع إسرائيل، وأنا أفهم جيداً أنه اعتباراً لتاريخي ونشاطي السياسي والحقوقي بمصر، والمشاركة في مظاهرات شهر يناير/كانون الثاني، خصوصاً في بلد يمنع حرية الفكر والتعبير ويصمم على الصوت الواحد، وبالتالي قمع كل من يطالب بشيء مختلف، كرهني الإسرائيليون، بسبب نشاطي الداعم للاستقلال الفلسطيني ودوري في حملة مقاطعة إسرائيل، وهذا بالنسبة لهم أمر جد مزعج، وهو ما أعتبره نجاحاً لنا، لأن الحملة أصبحت قادرة على الضغط على الاحتلال للمطالبة بحقوق الشعب الفلسطيني. ولكن أيضاً يظهر أن الأطراف المرتمية في أحضان إسرائيل في الفترة الأخيرة اجتمعت جميعاً على التخلص من دوري، خصوصاً مع نشاطي الرافض والفاضح لصفقة القرن التي قدمها ترامب، ولأنني كنت رافضاً لفكرة الاستيلاء على ما تبقى من فلسطين واستيطانها وطرد أهلها وإعطائهم حلولاً مالية وحلولاً في سيناء والأردن باعتبار أن الشعب الفلسطيني قد يقبل في لحظة ما، أن يأخذ أموالاً أو تنمية في مقابل التخلي عن وطنه أو أن الشعب الفلسطيني قد يقبل بدائل عن أرض فلسطين، فالشعب الفلسطيني قدم آلاف الشهداء والضحايا وملايين المشردين عبر 70 سنة من الصراع، وما زال يحتفظ بمفاتيح بيته ولن يقدم تنازلاً لا لأسباب مالية ولا تحت القهر الذي يتم عليه في غزة أو بالضفة، في مقابل التنازل عن وطنه. اعتقالي سياسي وليس أمنياً وتتداخل فيه عدة أدوار لمجموعة الأطراف الإقليمية، اجتمع فيها الاحتلال والديكتاتورية في العداء لحقوقنا، وبالتالي بمحاولات إسكات أصواتنا.
ما هو دور فرنسا في قرار الإفراج عنك؟
بالأساس يجب أن أقول إن أساس هذا الدور هو جهود ومحبة وإصرار زوجتي سيلين التي التزمت بمعركة وحملة واضحة، للضغط من أجل إطلاق سراحي، واستطاعت أن تصل لأعضاء البرلمان الفرنسي وأعضاء البرلمان الأوروبي وأعضاء الكونغرس الأمريكي وكثير من المؤسسات الدولية. وبالتالي تم بناء الإطار الشعبي والقانوني الذي يدافع عني ويطالب بالإفراج عني، وفي الدول الديمقراطية طبعاً مثل فرنسا، عندما تأتي المطالبات الجماهيرية ومن ثم عبر أطر انتخابية فالتفاعل سيكون كأي دولة ترعى مصالح شعبها، وأنا بالنسبة لهم ناشط مصري وفلسطيني معروف بسلميتي، إضافة إلى إدراكهم أن اعتقالي مخالف للقانون وطبعاً لأن زوجتي فرنسية، وهذا كان دور الإدارة الفرنسية في الدفاع عن حقوقها. وأخيراً أصبحت لي مطالبات علنية من كثير من الجهات. فرنسا بدأت بشكل رسمي تضغط باتجاه الإفراج عني. وشكّل خطاب الرئيس ماكرون، مع لقائه الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي في باريس في ديسمبر/كانون الأول 2020، حين ذكّره بضرورة تنفيذ المطلب الأساسي وهو الإفراج عن المعتقلين السياسيين ومعتقلي الضمير وعلى رأسهم رامي شعث، دفعة للحملة التي تطورت بتزايد الضغط وكللت بإخلاء سبيلي.
ما هي تفاصيل إجبارك على التخلي عن الجنسية المصرية؟
منذ بداية اعتقالي بدأوا يسربون لي أخباراً بشكل غير مباشر حول الموضوع، استخدموها في الضغط على الوالد وعلى آخرين، فذكروا له أنه في لحظة خروج رامي من السجن لابد أن يتنازل عن الجنسية المصرية وأن يتم ترحيله من مصر وأن هذه هي طريقة خروجه الوحيدة، وبالطبع كنت رافضاً هذا الخيار بشكل كامل ومتمسكاً بجنسيتي حتى لو تسبب هذا في استمرار اعتقالي، فضّلت انتظار أمل في انفراجة سياسية لاحقة تسمح بخروج الناس طبقاً للقانون وطبقاً للعدل. وإحقاقاً للحق إنه لا أنا ولا الآخرون متهمون في قضايا حقيقية أو تمت إدانتهم بجرائم حقيقية، نحن نرزح تحت ظلم وقمع مستمرين، كنت أظن أن النظام السياسي قد يعيد في أي لحظةٍ تغيير حساباته ويقرر الإفراج عن المعتقلين ظلماً أمثالي، وبالتالي لا أضطر إلى طاتخاذ هذه الخطوة. وبعد عامين ونصف تكلموا معي بشكل مباشر، فقالوا لي إنه لا إفراج عني بدون التنازل عن جنسيتي المصرية. وأبلغوا ذلك كل الأطراف.
هل ساهم تقارب النظامين الفرنسي المصري في تأخير الإفراج عنك؟
طبعاً، فإن الفصل في العلاقات بين المطالبة بحقوق الإنسان في مصر من جهة والتبادل التجاري والسياسي والاقتصادي والعسكري والأمني من جهة أخرى يُضعف إلى حد كبيرٍ قدرة الدول على إقناع وإلزام السلطات المصرية بتعهداتها الدولية في مجال حقوق الإنسان، ويشجّعها على استمرار القمع.
أرى أنه يتوجب علينا تطوير حملات أوسع تُظهر للأوروبيين أهمية هذه الالتزامات وليس فقط على المستويين الأدبي والقانوني رغم أهميتهما، ولكن أيضاً على مستوى وقف الهجرة غير الشرعية ومكافحة التطرف وهي أزمات تضر بأوروبا وهي نتيجة سياسات القمع والظلم. كما أن المصالح الاقتصادية والأمنية والسياسية مع دولنا العربية لا يمكن ضمانها بشكل طويل المدى واستراتيجي في دول غير مستقرة تعصف بها أزمات الفقر والظلم وقهر الإنسان، لأن الحرية والمشاركة هما الضامن الحقيقي للاستقرار.
كيف تقيّم دور فرنسا في الدفاع عن حقوق الإنسان؟
أعتقد أن ملف حقوق الإنسان هو التزام أدبي وقانوني بفرنسا وفي الاتحاد الأوروبي، وأرى أن الدور الفرنسي والأوروبي عليه الخروج من رؤيته الضيقة والقصيرة لمصالحه وإدراك أن حقوق الإنسان ليست فقط معياراً أخلاقياً وقانونياً، ولكن أيضاً مصلحة مباشرة في الأمن والاستقرار والاستثمار طويل المدى بمصر والشرق الأوسط. سألعب دوراً في دعم وتشجيع دور أوروبي أوسع؛ للضغط على إنهاء الانتهاكات بما يضمن مصلحة شعبنا واستقرار بيئتنا وأمننا.
كيف تستشرف مستقبل نشاطك النضالي خلال فترة إقامتك في فرنسا؟
مكاني الجديد ودوري الذي أصبحت مضطراً إلى أن ألعبه ما زلت بحاجة للتفكير فيه، لكن هذا لا ينفي نهائياً الالتزام بحملة BDS التي كانت الأداة الرئيسية في الفترة السابقة لترجمة ما أومن به، ودائماً هناك أدوات أخرى للنشاط السياسي. مازلت مؤمناً بالحملة وداعماً لها، وأراها أداة سلمية شعبية حقيقية ترفض الاستعمار وترفض قمع حقوق الإنسان، وهي الأداة نفسها التي استُخدمت في جنوب إفريقيا وتوحّد حولها العالم، وفضحت النظام العنصري الأبيض، ونجحت في إحقاق حقوق بجنوب إفريقيا.
إسرائيل منذ 70 سنة مخالفة للقانون الدولي، ترفض قرارات دولية وترفض إحقاق حقوق الشعب الفلسطيني. حان الوقت لعالم أكثر عدلاً يضغط على نظام الاحتلال والاستيطان الإحلالي في فلسطين ويواجه العنصرية بفلسطين ويدعم إحقاق حقوق الشعب الفلسطيني وإعطاءه حق تقرير المصير كما ينص القانون الدولي، وهذه أقل الحقوق الفلسطينية. وسيبقى التزامي بمعركة تحرير المعتقلين السياسيين في مصر وحقوق الإنسان، كما معركة استقلال فلسطين وتحريرها من الاحتلال المجرم، لأني أرى أن ثنائية الاحتلال والديكتاتورية هي التي تحكم منطقتنا وعلينا تغيير المقاربة وأرى المعركتين في الطريق نفسه.