يواجه القطاع الصحي في شمال غربي سوريا (محافظة إدلب وأجزاء من محافظة حلب وحماة واللاذقية)، الخاضعة لسيطرة فصائل المعارضة كارثة إنسانية حقيقية، بعد توقف دعم وتمويل 16 مشفى "نشطاً" من قبل المنظمات الدولية المانحة، تقدم العلاج المجاني لأكثر من 4 ملايين مدني، أكثر من نصفهم نازحون يعيشون ظروفاً إنسانية ومادية صعبة، بحسب أطباء وناشطين.
تزامن توقف الدعم عن المشافي والمراكز الطبية والإسعافية وتراجع خدماتها الطبية أمام المرضى والمراجعين بسبب نفاد المواد التشغيلية، في الوقت الذي تشهد فيه المنطقة ومخيمات النازحين العشوائية "كوارث إنسانية" جراء العواصف الثلجية والمطرية المتعاقبة.
وتفاجأ أبو أحمد (46 عاما) نازح من ريف حماة، في مخيم الخنساء بريف إدلب الشمالي، عندما وصل بطفله ياسر (6 أعوام) يشكو من آلام شديدة في الأمعاء، إلى مشفى "كللي للأطفال" وشاهد أبواب عيادة الأطفال مغلقة أمام عدد كبير من المرضى، ومكتوباً على الباب "مغلقة مؤقتاً"، قبل أن يتضح له السبب، أنه جرى إغلاق العيادة بعد أن توقف الدعم كلياً عن المشفى مؤخراً، ومنها عيادة الأطفال.
وقال: "صدمة كبيرة واجهتها عندما وجدت العيادة المجانية وبعض أقسام العلاج في مشفى كللي للأطفال مغلقة، ولم أتمكن من علاج طفلي، في الوقت الذي لا أملك سوى 20 ليرة تركية لا غير، وهذا المبلغ لا يسمح لي بدخول مشفى خاص، وعدت إلى المخيم مصطحباً طفلي الذي يشكو من آلام شديدة في البطن".
ويضيف: "مع تزايد آلام طفلي وبكائه الشديد بسبب ذلك، قام أحد الجيران بجمع مبلغ من المال وقدره 300 ليرة تركية، من فاعلي الخير في المخيم (كلن حسب قدرته)، وأسعفنا الطفل إلى مشفى خاص في مدينة إدلب، وأجرينا التحاليل الطبية المطلوبة ومعالجته داخل المشفى، وأخشى وأسرتي وعدد كبير من النازحين بقاء عيادات المشافي المجانية مغلقة أمام ظروفنا المادية المتردية، ولا نملك ثمن الدواء والعلاج في المشافي الخاصة.
مريضة بالقلب وتعيل أسرة من 5 أطفال
تقول أم حمزة (35 عاماً)، التي نزحت قبل 3 أعوام من ريف إدلب الشرقي ولجأت إلى مخيم دركوش شمال إدلب، إنها "فقدت زوجها بقصف بري لقوات النظام قبل نحو 5 أعوام، وتعول الآن أسرة عدد أفرادها 5 آطفال صغار، رغم أنها تشكو من مرض بالقلب وتصلب بالشرايين، وتعتمد بالعيش على ما تقدمه إحدى المنظمات الإنسانية العاملة في إدلب، بينما كانت تحصل على العلاج والدواء المجاني من مشفى الرحمة في مدينة دركوش".
وتضيف، أنها "تشعر الآن أنها قريبة من الموت أكثر من أي وقت مضى، بعد توقف مشفى الرحمة بدركوش عن تقديم العلاج بسبب توقف دعمه وتمويله من الجهات الدولية، وبدأت تعاني مؤخراً من ارتفاع حاد ودائم بضغط الدم، وتصل إلى مرحلة الغيبوبة، ويبادر حينها أقاربها في المخيم لإسعافها إلى مشفى الرازي في مدينة الدانا شمال إدلب وتتلقى العلاج بكلفة مادية تفوق قدرتها وقدرة أقاربها، قبل أن تقرر مؤخراً الموت على أن تعرض أقاربها للحرج في تأمين ثمن العلاج".
الدول المانحة لا تغطي حاجة المرضى
وفي حديث لـ"عربي بوست" قال الدكتور سالم عبدان مدير صحة إدلب: "يعتمد القطاع الطبي والصحي في شمال غربي سوريا، على الدعم والتمويل المالي والأجهزة الطبية من قبل الجهات الدولية (المانحة)، من خلال عقود مشاريع تمويل، بعضها سنوية وأخرى نصف سنوية، وقبل شهر تقريباً جرى إبلاغ نحو 18 مشفى ومركزاً طبياً في إدلب، بتوقف تمويلها من قبل المنظمات الإنسانية الدولية، بالرغم من أن أماكن توزع تلك المشافي في مناطق تنتشر فيها عشرات المخيمات للنازحين من مناطق مختلفة من سوريا، معظمهم يعيشون ظروفاً مادية صعبة جداً وفقر شديد لا يملكون حتى ثمن الدواء".
موضحاً أن المشافي التي توقف تمويلها هي "مشفى الرحمة في دركوش ومشفى السلام للأطفال والنسائية في مدينة كفرتخاريم، ومشفى الإخاء في منطقة أطمة، ومشفى النسائية في مدينة إدلب، والمشفى التخصصي في إدلب، ومشفى كللي للأطفال، ومشفى إنقاذ روح في مدينة سلقين ومشفى النفسية في مدينة سرمدا، إضافة إلى مراكز طبية ونقاط إسعافية في المخيمات".
وأشار إلى أنه "كانت تقدم هذه المشافي الخدمات الطبية والعلاج المجاني لأكثر من 100 ألف مراجع ومريض شهرياً، وتقدم كل الإسعافات الأولية للمرضى والجرحى جراء الإصابات الناجمة عن الحوادث وعمليات القصف البري من قبل قوات النظام"، ومع توقف التمويل أدى ذلك إلى تراجع كميات المواد التشغيلية في تلك المشافي (معقمات وشاش وأدوية ومواد مخبرية، ومواد خاصة بغرف العمليات الجراحية)، وتسبب بإغلاق بعض العيادات بعد مغادرة الأطباء بحثاً عن عمل آخر في مشافٍ خاصة.
كورونا يفاقم الأزمة
ولفت إلى أنه "أجرى المسؤولون في القطاع الصحي بإدلب اتصالات مكثفة مع الجهات الإنسانية الدولية لإعادة الدعم وتمويل المشافي التي توقف دعمها، وحصلوا خلال ذلك على وعود بإعادة تمويل بعض المشافي وليس كلها، وبالطبع هذا يشكل صعوبة بالغة أمام المرضى النازحين في مخيمات الشمال السوري ويحدث تغييراً في الخريطة الطبية وانتشار المشافي المدعومة، في الوقت الذي لا يتوفر لدى النازحين ثمن أجور المواصلات، لا سيما في ظل انتشار فيروس كورونا ومتحوراته، التي تزيد من معاناة النازحين، وتهديد مباشر بانهيار القطاع الصحي في شمالي غربي سوريا وانتشار الأمراض في أوساط المواطنين سواء كانوا نازحين أو غيرهم".
من جهته مسؤول ملف فيروس كورونا (كوفيد – 19) الطبيب حسام قره محمد قال: إن "توقف دعم وتمويل مشافي إدلب، في الوقت الذي ينتشر فيه فيروس كورونا في أوساط النازحين والسكان الأصليين، يعد أمراً خطيراً يهدد حياة الملايين ويعرضهم لخطر الموت، فتوقف الدعم منذ شهر ونصف وحتى الآن شارفت خلاله مستودعات المواد التشغيلية للمشافي على النفاد وفقدان موارد الأوكسجين والأدوية المسكنة وإمكانية تشغيل غرف الإنعاش الصحي في المشافي، وبالتالي سيشهد العالم كارثة إنسانية رهيبة تلحق بسكان منطقة يبلغ عددهم أكثر من 5 ملايين ونصف نسمة".
وأضاف: "بلغت نسبة نقص معدات الحماية والعلاج من فيروس (كورونا)، في المراكز الصحية مؤخراً 30%، ونقص الكوادر الطبية بنسبة 32%، فيما وصل مستوى نقص الأدوية والمعدات الصحية في المراكز إلى 63%، وبالطبع هذا مؤشر خطير ينذر بنفاد المستلزمات الصحية المتعلقة بمعالجة مصابي فيروس كورونا في شمال غربي سوريا ويهددهم حياتهم.
يحتاجون إلى علاج سريع
وأطلق ناشطون إعلاميون وإنسانيون مؤخراً حملة تحت اسم (ادعموا مشافي الشمال السوري)، عبر منصات وسائل التواصل الاجتماعي، ترافق مع نشر صور وفيديوهات لمرضى يعانون من أوجاع وأمراض، ويحتاجون إلى العلاج السريع، وحذروا من كارثة إنسانية في شمال غربي سوريا، نتيجة توقف الدعم الصحي عن عدد كبير من المشافي.
الناشط بكار حميدي قال: "إن توقف دعم المشافي في بقعة جغرافية كإدلب (منعزلة عن العالم الخارجي) ويعيش فيها نحو 5 ملايين مواطن أكثر من نصفهم نازحون، أمراً يهدد بكارثة إنسانية، وانتشار كبير للأمراض والأوبئة، وخصوصاً في المخيمات العشوائية التي تفتقر لأبسط مقومات الحياة، ويعتمد سكانها على خزانات مياه الشرب الجماعية وأيضاً كذلك الحمامات".
ويضيف: "يعيش السوريون الآن ظروفاً إنسانية صعبة للغاية، وتزامن توقف دعم المشافي وخدماتها الطبية، مع تعاقب العواصف الثلجية والمطرية في شمال غربي سوريا، التي ألحقت الضرر المادي والصحي بأكثر من 230 ألف نازح، وبدأ مؤخراً ظهور أعراض لأمراض تنفسية لدى مئات الأطفال في المخيمات، نتيجة تعرضهم للبرد القارس واستنشاقهم للغازات السامة المنبعثة عن وسائل التدفئة غير الصحية كالبلاستيك والألبسة البالية والمهترئة".
وفي بيان للأمم المتحدة مطلع العام الحالي 2022 قالت فيه: إنه "من بين 4.4 مليون شخص من أولئك الذين يعيشون في شمال غرب سوريا حاليا، 3.1 مليون شخص بحاجة إلى المساعدة الصحية".
وبدورها وجهت منظمة الصحة العالمية، في 5 يناير/كانون الثاني الحالي، "نداءً طارئاً"، طلبت فيه توفير 257.6 مليون دولار أمريكي، لتلبية الاحتياجات الصحية الحرجة في سوريا، وأيضاً الحفاظ على الرعاية الصحية الأساسية، بما في ذلك الاستجابة
لـكوفيد – 19، وتقديم الخدمات الصحية المنقذة للحياة، وبناء نظام صحي مرن ومتماسك.
وأشارت المنظمة في بيانها إلى أنه في العام 2022 "سيكون 12.2 مليون شخص بحاجة للمساعدة الصحية. من بين هؤلاء أربعة ملايين نازح، و1.33 مليون طفل دون سن الخامسة، و3.38 مليون سيدة في عمر الإنجاب، في المناطق الأكثر خطورة، في خمس محافظات في شمال غرب وشمال شرق سوريا".
واستنزفت سنوات الحرب الطويلة النظام الصحي خصوصاً في شمال وشمال غرب البلاد، حيث شكلت المنشآت والمراكز الصحية هدفاً للهجمات العسكرية البرية والجوية من قبل نظام الأسد والمقاتلات الروسية، وجاء تفشي وباء كورونا ليفاقم الوضع سوءاً، في منطقة يعيش فيها قرابة 5 ملايين نسمة، جلهم تحت خط الفقر، في ظل انعدام توفر فرص العمل.