موت الطفل النواتي يفجر أزمة مرضى السرطان في غزة.. وعمه لـ”عربي بوست”: السفر خارج القطاع معجزة

عربي بوست
تم النشر: 2022/01/22 الساعة 08:02 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2022/01/22 الساعة 08:05 بتوقيت غرينتش
مرضى السرطان في غزة

فجّرت حادثة وفاة الطفل سليم النواتي (15 عاماً)، من قطاع غزة، المصاب بسرطان الدم "اللوكيميا" بعد رفض المشافي الحكومية والخاصة الفلسطينية بالضفة الغربية استقباله، وفق عائلته، موجة غضب في الشارع الفلسطيني، لا سيما في قطاع غزة، ونكأ جراح ملف التحويلات الطبية للعلاج خارج قطاع غزة، الممتلئ بعشرات القصص التي انتهت بموت أصحابها ولأسباب مختلفة.

تضطر مشافي قطاع غزة إلى تحويل مرضى الأورام السرطانية والحالات المرضية التي بحاجة إلى عمليات معقدة إلى مسارين، الأول مشافي الضفة الغربية، ومشافي القدس، والمشافي الإسرائيلية، ويحتاج فيها المرضى إلى الحصول على تصاريح إسرائيلية للسفر عبر حاجز بيت حانون شمال قطاع غزة، والثاني المشافي المصرية والتي يتطلب فيها المرضى السفر عبر معبر رفح جنوب القطاع.

ولكل مسار تعقيدات خاصة يواجه خلالها المرضى عقبات كثيرة، ويتعرضون لشتى أنواع القهر والانتظار، ويدفع العديد منهم أرواحهم في الطريق نحو الحصول على حقهم في العلاج، يعود السبب الأول فيها إلى الاحتلال وممارساته، وأسباب أخرى مصرية وفلسطينية.

الاحتلال يرفض نصف المصابين

أما إجراءات الاحتلال، فإنه يرفض منح تصاريح الدخول لأكثر من 50% من مرضى غزة وتزداد النسبة إلى 70% في بعض الأعوام، فيما يمارس سياسة التنغيص على المريض من خلال الموافقة على دخوله ومنع دخول مرافقه ما يضطر إلى السفر للعلاج وحده رغم حالته الصحية الصعبة أو صغر سنه، أو يضطر لإيجاد مرافق بديل يسمح الاحتلال بدخوله، أو يمارس سياسة "الرفض المقنع" من خلال رفض السفر للمريض بحجة "تحت الفحص"، وفق مركز الميزان لحقوق الإنسان.

يقول يامن المدهون مسؤول وحدة البحث الميداني في المركز لـ"عربي بوست": "إن الاحتلال وبدون مسوغات يمنع ويعيق وصول الحالات الإنسانية ومنها المرضى للعلاج، ويخالف القانون الدولي الإنساني، ويرتكب جرائم بحق مرضى غزة".

ويضيف: "يصبح انتهاك الاحتلال مُركّباً عندما يسمح للمريض بالسفر للعلاج في المشافي الفلسطينية أو الإسرائيلية، لكنه يضع عراقيل أمام برنامج علاجه الذي يتطلب الحضور في مواعيد محددة، فيسافر المريض للمرة الأولى ويتفق على بروتوكول علاج ويعود لغزة، وعندما يحين الموعد الثاني للعلاج يعيق خروجه أو يمنعه تحت أسباب واهية، الأمر الذي يؤثر سلباً على صحة المريض، لا سيما مرضى الأورام الذين يتلقون العلاج الكيماوي والإشعاعي"، لافتاً إلى أن الاحتلال يعيق بشكل كبير سفر مرضى الأعين أو الأطراف الصناعية "ويصدر التصاريح لهم بشق الأنفس"، وفق تعبيره.

وأوضح أن من يتلقى الإشعاع الذري ينبغي أن يلتزم بمواعيد محدد، وفي مرات كثيرة وثقها المركز منع الاحتلال سفر المريض لتلقي الجرعة الثانية من الإشعاع، وألحق أضراراً صحية بحق المرضى، ومنهم من توفوا نتيجة تدهور حالتهم الصحية، مشدداً على أن وضع شروط على المسافرين يعد انتهاكاً للقوانين الدولية.

رفضته مشافي الضفة

مسار آخر شاق يسلكه المريض الغزي، عند تحويله من وزارة الصحة إلى المشافي الفلسطينية في الضفة الغربية والقدس المحتلة، والمشافي الإسرائيلية، تعود معيقاته إلى التجاذبات السياسية، أو إلى عدم دفع وزارة الصحة الفلسطينية المستحقات المالية للمشافي، أو لأسباب تتعلق بالنفوذ والواسطة، وفق شهادات ذوي مرضى وحقوقيين.

عائلة الطفل النواتي المصاب بسرطان الدم الذي توفي الأحد 9/1/2022 في مجمع فلسطين الطبي الحكومي بمدينة رام الله، بعد أسبوعين، حاول فيها المريض برفقة عمه الدخول إلى مشفى النجاح الجامعي في نابلس، والذي رفض استقبال المريض، وفق العائلة.

وقال عمّ الطفل جمال النواتي لـ"عربي بوست"، "صدرت التحويلة الطبية إلى مشفى النجاح وصُدمنا برفض استقبال سليم بسبب الأوضاع المالية بين المشفى ووزارة الصحة، وإنهم لا يستقبلون أي مريض أورام"، مضيفاً "قالو لي خود ابنك وروح".

وأوضح أنهم حصلوا على تحويلة العلاج في مشفى النجاح بعد رفض الاحتلال منح تصاريح الدخول لثلاث مرات، قبل تدخل منظمات حقوق الإنسان، لينتهي الأمر بحصولهم على التصاريح، في26 ديسمبر/كانون الأول 2021.

وأعلن مشفى النجاح الوطني الجامعي بنابلس، في 21 ديسمبر/كانون الأول 20121، التوقف عن استقبال مرضى الأورام بسبب نقص الأدوية اللازمة للمرضى بسبب الأزمة المالية الخانقة التي سببها تراكم الديون على الحكومة وعدم دفعها المستحقات المالية للمشفى.

وأوضح النواتي أنه حصل على قرار للذهاب إلى مجمع فلسطين الحكومي برام الله، بعد ذهابه لدائرة العلاج في الخارج برام الله، ولدى توجهه لمدير المشفى الحكومي قام بالتوقيع على الورقة "لا مجال لاستقبال المريض"، مشيراً إلى أنه قدّم شكوى لمكتب وزيرة الصحة، مي الكيلة، بحق إدارة المشفى التي لم تأبه لتحذيره بالتقدم بشكوى، على حد قوله.

صولات وجولات.. باءت بالفشل

صولات وجولات خاضها النواتي في دوائر وزارة الصحة برام الله، مهاتفة "المعارف" من قبل ما يعرف بـ "مكتب الرئيس"، برفقة ابن أخيه المريض الذي لم يكن على علم بإصابته بسرطان الدم، حيث أخفت العائلة عنه ذلك حفاظاً على نفسيته، لينتهي الأمر بقرار إعادته إلى مجمع فلسطين الحكومي في التاسع من يناير/كانون الثاني، ويتوفى بعد نحو 20 دقيقة من دخوله المشفى.

وزيرة الصحة الفلسطينية مي الكيلة أعلنت عن تشكيل لجنة تحقيق في ملف وفاة الطفل النواتي، وقد استمعت اللجنة المكونة من الطاقم الطبي في وزارة الصحة فقط، إلى أقوال مشفى النجاح ومشفى فلسطين الحكومي، وإلى شهادة عائلة الطفل، وقد توصلت إلى وجود تقصير من إدارتي المشفيين في استقبال المريض النواتي، وفق عمّ الطفل الذي يؤكد أنه لم يتلق أي مساعدة من الطاقم الطبي "ولا حتى شربة ماء أو أكمول للطفل"، وفق وصفه.

لا علاج أمام الديون

"عربي بوست" تحدّث مع إدارة مشفى النجاح الحكومي أحد الأطراف المتهمة في قضية وفاة الطفل، وقال إن "الطفل سليم النواتي لم يكن لديه مشاكل تستدعي التدخل الطبي"، مشيراً إلى أن المشفى لا يستطيع توفير الأدوية بسبب الديون المتراكمة على وزارة الصحة الفلسطينية والبالغة 413 مليون شيكل حتى نهاية 2021.

وقال كمال حجازي، الرئيس التنفيذي لمستشفى النجاح، لـ"عربي بوست"، "لا يوجد علاج كيماوي في المشفى لأمراض الأورام، لعدم توفر المال وتراكم الديون على الوزارة، فكيف سنعالج المريض"، مضيفاً "نحن أكثر مشفى لديه ديون من وزارة الصحة، ونقدم الآن الخدمة لـ1600 مريض أورام".

وتصل ديون وزارة الصحة الفلسطينية للقطاع الصحي لمليار و700 مليون شيكل، منها مليار و200 مليون شيكل للمشافي فقط، وفق حجازي.

وتعود أسباب المديونية الأعلى لمشفى النجاح الجامعي إلى تجاذبات سياسية بين رئيس الحكومة الحالية محمد اشتية، ورئيس الحكومة السابق رامي الحمد الله، الذي يرأس مجلس أمناء جامعة النجاح، في "معركة نفوذ" ضحيتها المرضى والطلبة.

ورفض مسؤول باسم وزارة الصحة برام الله التعقيب على الموضوع.

وتُضاف "الرشاوى والمعارف" إلى قائمة أسباب معاناة مرضى غزة، الذين يضطرون لإطلاق المناشدات للمسؤولين عبر وسائل الإعلام، ويحاولون التحدث مع أي معارف مقربة من المستويات السياسية أو الأمنية الفلسطينية للحصول على حقهم في العلاج، وفق الهيئة المستقلة لحقوق الإنسان.

وطالب مدير عام الهيئة المستقلة لحقوق الإنسان عمار دويك وزارة الصحة بمراجعة كافة منظومة التحويلات الطبية، نظراً للمعاناة الكبيرة التي يتحملها المرضى، وعقبات البيروقراطية والصعوبات أمام أخذ التحويلات، وفق قوله.

لجنة تحقيق في وفاة النواتي

وأضاف دويك لـ"عربي بوست"، "طالبنا وزارة الصحة بتشكيل لجنة تحقيق في قضية وفاة الطفل النواتي، وبأن تتضمن اللجنة ممثلاً عن الهيئة وممثلاً عن عائلة الطفل من أجل إعطاء مصداقية للجنة، وفوجئنا بأن أغلب أعضاء لجنة التحقيق من العاملين في الوزارة، وممثلين عن المشافي فقط".

وتابع "طالبنا ألا تكتفي المراجعة بتحميل مسؤولية لأطراف وإنما بمراجعة كل منظومة التحويلات الطبية والعلاج في الخارج، لأن المرضى يعانون من عقبات بيروقراطية"، مشدداً على ضرورة الوصول إلى توصيات شاملة لمنظومة التحويلات، لافتاً إلى أنهم لم يتلقوا أي رد من وزارة الصحة على مطالبهم.

طريق العذاب إلى القاهرة

أما المسار الثاني الذي يسلكه مرضى قطاع غزة، فيتمثل بالتحويلات الطبية إلى المشافي المصرية، والتي يسافرون فيها عبر معبر رفح البري جنوب قطاع غزة.

ووفق دويك فإن مرضى غزة يتكبدون مصاريف كبيرة عند السفر عبر معبر رفح، وبعضهم حالتهم الصحية لا تسمح للسفر عبر المعبر والتعرض للإجراءات الصعبة التي تفرضها السلطات المصرية.

ومما يواجهه المرضى المسافرون عبر مصر، إعادة المرافق للمريض تحت أسباب وذرائع مختلفة، والسفر ذهاباً لأكثر من ثماني ساعات في سيارة نقل عادية غير مخصصة للمرضى، يتعرضون للتفتيش عند الحواجز المصرية الممتدة من معبر رفح وحتى "معدية الفردان"، وما يتخللها من إنزال الركاب وتفتيش أغراضهم، والسفر على امتداد يومين في رحلة العودة مع تكرار مشاهد التفتيش والإنزال من السيارات والمبيت ليلاً في ظل الأجواء الصحراوية.

ووفق فواز حامد، الذي رافق والدته للعلاج في مصر، فإنه اضطر لافتراش الأرض والتحاف السماء خلال ليليتين و3 أيام في رحلة لا تستغرق أكثر من 5 ساعات، تبدأ فصولها من "معدية الفردان" على قناة السويس، مروراً بعدة حواجز ونقاط تفتيش أمنية منتشرة في سيناء.

وقال حامد لـ"عربي بوست"، "كانت مهمة شاقة أن أحافظ على توفير أقصى ما يمكن من الراحة في الرحلة الطويلة القاسية على الإنسان العادي فما بالك المريض بالسرطان"، مضيفاً "كنت أشعر للحظات بأن والدتي قد لا تصل سالمة إلى غزة.. في أجواء شديدة البرودة تنام والدتي في السيارة وأنا على الرصيف بجانبها، ولا أحد من الجنود المصريين يمكن أن يستجيب لندائك".

هذه الأسباب وغيرها تدفع مرضى غزة لتفضيل العلاج في المشافي الفلسطينية والإسرائيلية على المشافي المصرية، وفق مسؤول وحدة البحث الميداني في مركز الميزان لحقوق الإنسان، الذي يضيف أسباباً أخرى منها عدم قدرة المريض على توفير مصاريف السفر إلى مصر، وآخرون يرون أن العلاج في الضفة والقدس متقدم أكثر من المشافي المصرية.

ولإنهاء معاناة "العلاج في الخارج" لمرضى غزة، يرى مدير الهيئة المستقلة لحقوق الإنسان عمار دويك، أن "توطين الخدمة في غزة وتوفير الخدمات الصحية، وسماح الاحتلال بإدخال المعدات الطبية للقطاع الصحي لا سيما اللازمة لعلاج مرضى السرطان، والتي يمنع إدخالها، وبناء منظومة صحية تليق بالمواطن الفلسطيني، وحلول تؤدي إلى حصول الفلسطيني في غزة على حقه بالعلاج دون عناء.

وختم بالقول: "نأمل أن نصل إلى يوم يستطيع المواطن تلقي العلاج دون الحاجة إلى مناشدات لأي مسؤول وأن يكون ملف التحويلات الطبية ضمن أطر صحية وفنية دون تدخل أي مستوى سياسي أو وزاري أو مكتب رئيس، ودون إدخال وساطات".

تحميل المزيد