أصدر الرئيس التونسي قيس سعيد، الأربعاء 19 يناير/كانون الثاني 2022، مرسوماً ينص على "وضع حد للمِنح والامتيازات" المخولة لأعضاء المجلس الأعلى للقضاء، وذلك وفق بيان أصدرته الرئاسة واطلعت الأناضول على نسخة منه.
جاء في البيان، أن سعيّد "وقَّع اليوم مرسوماً يتعلق بتعديل القانون الأساسي المتعلق بالمجلس الأعلى للقضاء، وينص على وضع حد للمِنح والامتيازات المخولة لأعضائه".
ويتعلق الأمر بمنحة تقدر بـ2364 ديناراً، إضافة إلى 400 لتر من الوقود.
بينما لم يصدر أي تعقيب رسمي من قِبل المجلس الأعلى للقضاء على قرار سعيد، إلى حدود الساعة العاشرة بتوقيت غرينيتش.
استقلالية القضاء في الميزان
يأتي هذا القرار، بعد أن ساد في الفترة الأخيرة جدل بالأوساط الحقوقية التونسية، بشأن "استقلالية القضاء"، لاسيما في ضوء تصريحات للرئيس سعيّد، أكد فيها أن القضاء "وظيفة من وظائف الدولة"، وتلميحه إلى حل المجلس الأعلى للقضاء.
فقد اشتعل النقاش حول استقلالية القضاء، منذ أن أعلنت وزيرة العدل ليلى جفال، في أكتوبر/تشرين الأول الماضي، إعداد مشروع قانون يتعلق بالمجلس الأعلى للقضاء، ما أثار حفيظة العديد من القضاة.
كما اعتبر قضاةٌ تصريحات وزيرة العدل، تدخُّلاً في الشأن القضائي، فيما فنّد الرئيس سعيّد ذلك، مشدداً على أن إعداد هذا المشروع سيتم بإشراك القضاة أنفسهم.
من جهته، تطرَّق سعيّد خلال خطاباته في الفترة الماضية، إلى القضاء، وكثيراً ما أكد أن القضاء "قضاء الدولة"، وأنه مستقل لا سلطان عليه غير القانون، و"لا طريق إلى تطهير البلاد إلا بقضاء عادل، وقضاة فوق كل الشبهات".
يُذكر أن المجلس الأعلى للقضاء هيئة دستورية معنية بالرقابة على حسن سير القضاء واستغلال السلطة القضائية.
"حرب" سعيد على القضاء
فقد أغلق الرئيس التونسي قيس سعيّد كلَّ أبواب الحوار بين رئاسة الجمهورية التي تمثل الآن السلطة التنفيذية، والمجلس الأعلى للقضاء في تونس، المؤسسة الساهرة على سير المرفق القضائي واستقلاليته وفق دستور 2014.
فقد أعلن رئيس الجمهورية التونسية قيس سعيد، عن قرارات تخص المجلس الأعلى للقضاء في تونس، بفرض إصلاحات أحادية الجانب، عبر مراسيم رئاسية دون تشاور مع القضاة أو ممثليهم، بهدف تركيع القضاء والسيطرة عليهم.
في وقت سابق، أكد الرئيس التونسي اعتزامه المرور بقوة عبر المراسيم لتنظيم المرفق القضائي من جديد بصورة أحادية، إذ قال لدى لقائه رئيسة الحكومة نجلاء بودن: "لا يمكن أن يتحول القضاة إلى مشرعين".
ويعطي "الأمر الرئاسي 117″، المتعلق بالتدابير الاستثنائية، الرئيس التونسي قيس سعيّد الحق في ممارسة السلطة التشريعية، وإصدار المراسيم لتنظيم العدالة والقضاء.
أصل الأزمة
لم تبدأ الأزمة بين القضاء وقيس سعيّد بعد إعلان هذا الأخير عن الإجراءات الاستثنائية، في 25 يوليو/تموز 2021، إذ اعتبر المجلس الأعلى للقضاء بتونس نفسه في منأى عن هذه الأزمة التي جمَّدت البرلمان وحلّت الحكومة السابقة.
بعد ذلك تغيَّر كل شيء، وبدأت الأزمة تتضح معالمها بين الرئيس والقضاة، إذ استدعى قيس سعيّد إلى قصر قرطاج أكثر من قاضٍ، واجتمع في شهر ديسمبر/كانون الأول 2021، بممثلين عن القضاة، يوجههم في مجموعة من القضايا.
ومن أهم القضايا التي عرضها الرئيس على القضاء، تلك المتعلقة بالانتخابات، والتي طلب فيها من القضاء ترتيب النتائج القانونية بخصوص تقرير محكمة الحسابات، الذي يُظهر التمويلات الأجنبية التي حصل عليها بعض المرشحين في الانتخابات البرلمانية الماضية.
بعدها بدأت تحركات المجلس الأعلى للقضاء في تونس بعدما اقترب منه الخطر، فأصدر بيانات ضد توجهات الرئيس، رفض من خلالها المساس بالبناء الدستوري للسلطة القضائية وحلّ المجلس في هذه المرحلة الاستثنائية.
مقابل ذلك، لم يفوّت الرئيس أي فرصة لمهاجمة المجلس الأعلى للقضاء في تونس، إذ أعلن بشكل مباشر، أنه "يستعد للإعلان قريباً عن مراحل جديدة؛ حتى تستعيد الدولة والقضاء عافيتهما".
أثار سعيّد غضب القضاة؛ إذ قال إن "القضاء وظيفة، وليس سلطة مستقلة عن الدولة، والسلطة والسيادة للشعب، وكلّ البقية وظائف".
كان المجلس الأعلى للقضاء قد أكد في كل بياناته، وفي جلسته العامة المنعقدة بتاريخ 10 ديسمبر/كانون الأول 2021، رفضه المساس بالبناء الدستوري للسلطة القضائية، وتمسُّكه بوضع القضاء كسلطة، وبشرعية المجلس الأعلى للقضاء، المستمدة من الدستور والقانون الأساسي المتعلق بإحداثه.
الناشط الحقوقي والسياسي أنور غربي قال إن "قيس سعيد سيُواصل التحرش بالقضاء، والسعي لاستمالة قضاة لخدمة الملفات التي يحتاجها هو لصراعاته مع كل الجبهات المفتوحة، وسيسهل عليه ابتزاز القضاة الذين لديهم ملفات تدينهم؛ كي يستعملهم".
المتحدث نفسه أشار في تصريح لـ"عربي بوست"، إلى أن "البعد الخارجي سيلعب دوراً كبيراً في كبح جماحه؛ من أجل إثنائه عن السيطرة على المؤسسة القضائية، التي باستسلامها تنتهي دولة القانون، وتونس تربطها اتفاقات ومعاهدات دولية، والقضاء المستقل جزء رئيسي وأساسي فيها".
كما أضاف: "ليس من مصلحة أحدٍ انهيار المنظومة القضائية، وقيس سعيّد نفسه لديه مصلحة كبيرة في بقاء المنظومة القضائية بعيدة عن التوجيه السياسي، لأنه هو نفسه سيُواجه القضاء بعد انتهاء مهامه والحصانة التي تحميه اليوم".
منذ 25 يوليو/تموز الماضي، تشهد تونس أزمة سياسية حادة عقب اتخاذ سعيّد إجراءات استثنائية، أبرزها تجميد اختصاصات البرلمان ورفع الحصانة عن نوابه، وإلغاء هيئة مراقبة دستورية القوانين، وإصدار تشريعات بمراسيم رئاسية، وإقالة رئيس الحكومة وتشكيل أخرى جديدة.
فيما ترفض غالبية القوى السياسية بالبلاد تلك القرارات، وتعتبرها "انقلاباً على الدستور" ومساساً بالحقوق والحريات، بينما تؤيدها قوى أخرى ترى فيها "تصحيحاً لمسار ثورة 2011″، التي أطاحت بالرئيس آنذاك زين العابدين بن علي.