تحوّل لبنان بعد عامين من الانهيار الاقتصادي غير المسبوق إلى نقطة انطلاق لأوروبا، ليس للاجئين فحسب، بل أيضاً لمواطنيه الذين باتوا يركبون "زوارق الموت"، بعدما أرهقتهم الأزمات وباتت غالبيتهم تحت خط الفقر.
يقول إبراهيم (42 عاماً)، الموجود في مدينة طرابلس شمال لبنان، إنه يؤمّن مدخولاً إضافياً عبر المساعدة على تهريب لبنانيين إلى الخارج عبر البحر، وأضاف في تصريح لوكالة الأنباء الفرنسية: "لو أنني لا أعمل في هذا المجال لكنت غادرت مثلهم وقصدت مهرّباً لمساعدتي".
نسّق إبراهيم حتى الآن عشر رحلات تهريب، كان أولها عام 2019 لأسرة من خمسة أشخاص تقيم حالياً في ألمانيا، وآخرها في سبتمبر/أيلول الماضي، وضمّت 25 راكباً وصلوا إيطاليا، على حدّ قوله.
تتراوح كلفة سفر الفرد بين 2500 دولار لبلوغ قبرص، و7 آلاف دولار للوصول إلى شواطئ إيطاليا، وفق إبراهيم، الذي قد يجني قرابة خمسة آلاف دولار كربح صافٍ مقابل كل رحلة تضم عشرين شخصاً، ويقول إنه "في السابق، كنا ننشر الخبر، أما حالياً فالناس هم من يأتون إلينا".
الهجرة غير القانونية ليست ظاهرة جديدة في لبنان، الذي شكّل منصة انطلاق للاجئين، خصوصاً السوريين، باتجاه قبرص خاصة، الدولة القريبة والعضو في الاتحاد الأوروبي، لكن يتزايد عدد اللبنانيين الذين يخاطرون بأرواحهم بحثاً عن بدايات جديدة بعيداً عن بلدهم الغارق في الأزمات.
فمنذ العام 2019 تمكّن إبراهيم من تهريب قرابة مئة لبناني إلى أوروبا، ويقول "أخرجتهم من هنا، من التسوّل. هناك على الأقل إذا وضعوا في مخيم سيأكلون ويشربون بكرامة".
مهاجرون فقدوا أرواحهم
يتباهى إبراهيم بأنه يساعد اللبنانيين فقط، ويقول "يأتيني سوريون وفلسطينيون لكنني لا أقبل طلباتهم، فأنا مسؤول عن أبناء بلدي فحسب"، ويضيف أن "لبنانيين كثيرين يودون المغادرة، ومستعدون لبيع بيوتهم وسياراتهم، يبيعون كل شيء، المهم أن يرحلوا".
الوضع الذي تعيشه البلاد يجعل لبنان، الذي يقطنه حالياً قرابة ستة ملايين شخص، بمثابة سفينة غارقة، تصارع تبعات انهيار اقتصادي صنّفه البنك الدولي من بين الأسوأ في العالم منذ منتصف القرن الماضي.
تخللت محاولات الهجرة غير القانونية حوادث وفاة وغرق في عرض البحر، وبحسب ما أوردته الوكالة الفرنسية، نقلاً عن المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين، فإن 1570 شخصاً على الأقل، بينهم 186 لبنانياً، شرعوا أو حاولوا المغادرة في رحلات بحرية غير قانونية من لبنان، بين يناير/كانون الثاني ونوفمبر/تشرين الثاني من العام 2021، وغالبيتهم باتجاه قبرص.
من جانبها، تعمل الأجهزة الأمنية والجيش على وقف هذه المحاولات، وأكد الجيش أن عمليات المراقبة والرصد "تنفَّذ من خلال وحدات الكشف المتقدم، المتمثلة بشبكة رادارات منتشرة على طول الشاطئ، ومن خلال دوريات متواصلة" في المياه الإقليمية، بالإضافة إلى جهود مديرية المخابرات لملاحقة المهربين.
فخلال العام 2020، نجحت القوات البحرية وفق الجيش "في ضبط نحو 20 مركباً وتوقيف 596 شخصاً وتسليمهم إلى السلطات المختصة". وكثفت دورياتها مع ارتفاع عدد عمليات التهريب.
يقول الجيش أيضاً إن "عصابات التهريب" تضمّ غالباً أشخاصاً من جنسيات مختلفة، لكنّ رؤساءها "يكونون عادة من اللبنانيين، لمعرفتهم بتفاصيل الشواطئ والمناطق اللبنانية".
شعور باليأس في لبنان
على مقعد مواجه للشاطئ، يجلس بلال موسى (34 عاماً)، وهو أب لثلاثة أطفال، ينفث دخان سيجارته مراقباً الأمواج العاتية التي كادت أن تبتلعه، في نوفمبر/تشرين الثاني 2021، لدى محاولته السفر بطريقة غير شرعية.
موسى قال للوكالة الفرنسية إنه سيحاول مرة أخرى، إذ "لا مستقبل هنا لنا أو لأولادنا"، بعدما تخلى قبل ستة أشهر عن وظيفته في سوبرماركت، إذ بات راتبه (55 دولاراً) بالكاد يكفيه لدفع بدل التنقل.
في سبتمبر/أيلول 2021، قرَّر بلال خوض الرحلة المحفوفة بالمخاطر، فباع سيارته واقترض من صديقه مبلغ 1500 دولار كان ينقصه ليدفع أربعة آلاف دولار إلى المهرّب الذي أعلمه بموعد السفر قبل ثلاثة أيام من حصوله.
في 19 نوفمبر/تشرين الثاني 2021، جهّز حقيبة ظهر صغيرة وغادر منزله في منطقة الضنية شمالي البلاد من دون إخبار زوجته حتى. وأعلمه المهرّب أنه سيسافر برفقة 72 شخصاً.
لكن عند وصوله إلى نقطة الاجتماع في طرابلس تفاجأ بوجود نحو تسعين شخصاً يتسلقون شاحنة أقلتهم إلى منطقة القلمون المجاورة التي انطلقوا منها، وكان في عداد الرحلة 15 لاجئاً فلسطينياً وعشرة سوريين، بينما البقية من اللبنانيين. وكان هناك 35 طفلاً ونحو 20 امرأة.
بعد ساعتين من إبحار المركب طارده زورق تابع للقوات البحرية أمر سائقه بالعودة إلى الشاطئ، لكن الأخير لم يمتثل، وتابع طريقه إلى المياه الإقليمية، وبعد ساعة من المطاردة، تسرّبت مياه البحر إلى المركب، ثم تعطّل المحرّك، وكان الوقت ليلاً.
بدأت المياه تُثقل المركب تدريجياً، ما دفع الركاب الذين أصابهم الهلع إلى التخلّص من الحقائب وعبوات المازوت، وسارع بعضهم بينهم بلال إلى الاتصال بأفراد عائلاتهم لإرسال إغاثة.
عملت سفينة تابعة للجيش اللبناني على سحبهم باتجاه الشاطئ، حيث تم التحقيق معهم قبل الإفراج عنهم، ويقول بلال "شعرت بالقهر لأنني عدت أدراجي ولم أتمكن من بلوغ وجهتي"، مضيفاً "لكنني أعرف أنني سأغادر لبنان مجدداً.. لا طريق أمامنا إلا البحر".
يُذكر أن الأزمة الاقتصادية في لبنان أدت إلى خسارة الليرة أكثر من 95% من قيمتها أمام الدولار، وانعكس ذلك تدهوراً غير مسبوق في قدرة السكان الشرائية، بعدما بات الحدّ الأدنى للأجور يعادل أقل من 23 دولاراً، في بلد يعتمد على الاستيراد إلى حدّ كبير.
جراء ذلك تراجعت قدرة السلطات على توفير الخدمات الأساسية ودعم سلع حيوية، خصوصاً المحروقات والأدوية.