استطاعت شبكة من التلسكوبات الراديوية رصد اللحظات الأولى لظاهرة البرق، وذلك لأول مرة، إذ فشلت محاولات سابقة لكشف حقيقة هذا اللغز على الرغم من إرسال المناطيد والصواريخ المحملة بالكاميرات نحو الغيوم مرات عديدة دون نتيجة.
في ورقة بحثية جديدة ستنشر قريباً بمجلة Geophysical Research Letters العلمية، استخدم الباحثون ما سجَّلته تسجيلات التلسكوبات التفصيلية حول صاعقة هائلة وُصفت في سماء هولندا عام 2018، حسبما قالت مجلة WIRED الأمريكية، الإثنين 10 يناير/كانون الثاني 2022.
تلسكوبات متطورة
يقول جوزيف دير، عالم الفيزياء بجامعة نيوهامبشير والمشارك في الورقة البحثية: "ظل البشر يرسلون المناطيد والصواريخ والطائرات إلى العواصف الرعدية لعقود طويلة ولم يروا أي مجالات كهربائية كبيرة بما يكفي. وظلت ظاهرة البرق لغزاً غامضاً بالنسبة لنا".
كان العائق الكبير هو أن السحب معتمة، مما لا يسمح لأفضل الكاميرات بالتقاط صورة داخلها لرؤية لحظة بدء الظاهرة.
وحتى وقت قريب، لم يكن أمام العلماء سوى المغامرة بدخول العاصفة، فكانوا يرسلون المناطيد والصواريخ لتصوير ما يحدث بالداخل. لكن يبدو أن وجود تلك الأجسام كان له تأثير على البيانات المرسلة عن طريق توليد شرارات اصطناعية لا تحدث بشكل طبيعي.
يقول دير: "لوقت طويل لم تكن لدينا فكرة عما يحدث داخل العواصف الرعدية، وعن توقيت وموقع بدء شرارة البرق".
لذا، لجأ دير وفريقه إلى شبكة التلسكوبات الراديوية الصغيرة (LOFAR)، التي تتألف من آلاف التلسكوبات. غالباً ما تستخدم شبكة LOFAR لرصد المجرات البعيدة وانفجارات النجوم. لكن وفقاً لدير: "اتضح أن شبكة التلسكوبات مفيدة أيضاً في رصد ظاهرة البرق".
لم يكن استخدام الكواشف الراديوية لرصد العواصف الرعدية شيئاً جديداً، لكن دائماً ما كانت الصور ضعيفة الجودة أو ثنائية الأبعاد. أما شبكة تلسكوبات LOFAR الفلكية المتقدمة، فقد تمكنت من رصد ظاهرة البرق بمقياس متري ثلاثي الأبعاد، وبمعدل تحديث للإطار أسرع 200 مرة من كل الوسائل التي استخدمت سابقاً.
ولتجميع صورة ثلاثية الأبعاد لظاهرة البرق من البيانات الكثيرة المستلمة، استخدم الباحثون خوارزمية مماثلة للخوارزمية المستخدمة في الهبوط على سطح القمر.
تعمل الخوارزمية على تحديث ما هو معروف عن موقع الجسم باستمرار. وبينما يمكن لهوائي راديو واحد تحديد اتجاه تقريبي للوميض، يمكن تحديث الموقع بشكل أكثر دقة عند استخدام بيانات من هوائي ثانٍ، ومع استخدام آلاف الهوائيات في شبكة تلسكوبات LOFAR، تصل الخوارزمية إلى صورة واضحة.
نظريتان عن سبب البرق
وعند تحليل الباحثين لبيانات العاصفة الرعدية في أغسطس/آب 2018، رأوا انبعاث جميع النبضات الراديوية من منطقةٍ عرضها 70 متراً في عمق السحابة الرعدية. وسرعان ما استنتجوا أن نمط النبضات يدعم إحدى النظريتين البارزتين حول كيفية بدء أكثر أنواع البرق شيوعاً.
تفسر النظرية الأولى ظاهرة البرق باصطدام الأشعة الكونية، جسيمات من الفضاء الخارجي، بالإلكترونات الموجودة داخل العواصف الرعدية، مما يؤدي إلى انهيارات إلكترونية تعزز وتقوي المجالات الكهربائية.
بينما تدعم الملاحظات الأخيرة النظرية الأخرى، التي تعزو بدء ظاهرة البرق إلى مجموعات من البلورات الثلجية داخل السحاب، فيما تؤدي التصادمات العنيفة بين البلورات المدببة إلى تناثر بعض إلكتروناتها، مما يترك أحد طرفي كل بلورة ثلجية موجبة الشحنة والطرف الآخر سالب الشحنة. ويجذب الطرف السالب الإلكترونات من جزيئات الهواء القريبة. ويتدفق عدد أكبر من الإلكترونات من جزيئات الهواء الأبعد، لتتشكل شرائط من الهواء المؤين تمتد من طرف كل بلورة ثلجية، ويُطلق عليها "الأنابيب".
ويتفرع من طرف كل بلورة ثلجية جحافل من الأنابيب، مع تفرعات فرعية من الأنابيب نفسها. تعمل الأنابيب على تدفئة الهواء المحيط بها، مما يؤدي إلى تمزق الإلكترونات من جزيئات الهواء بشكل جماعي وتدفق تيار أكبر على البلورات الثلجية. وفي النهاية، تصبح الأنابيب ساخنة وموصلة بما يكفي لتتحول إلى قناة ينتقل عبرها شعاع متسلسل كامل من شرارة البرق.
وتتوافق تلك النظرية التي تشير إلى الدور الرئيسي لبلورات الثلج في ظاهرة البرق، مع النتائج الحديثة التي تشير إلى انخفاض نشاط البرق بأكثر من 10% خلال الشهور الثلاثة الأولى من جائحة كوفيد-19.
ويعزو الباحثون هذا الانخفاض إلى الإغلاق العام المفروض في العديد من الدول، مما أدى إلى انخفاض الملوثات في الهواء، وبالتالي فرص أقل لتكوّن البلورات الثلجية.
تقول يوت إيبرت، عالمة الفيزياء في المعهد الوطني لبحوث الرياضيات وعلوم الحاسب وجامعة آيندهوفن للتكنولوجيا بهولندا: "ما تحقق بفضل شبكة تلسكوبات LOFAR تقدم هائل بكل المقاييس. توفر تلك اللقطات الآن إطاراً رئيسياً يمكن استخدامه لبناء نماذج ومحاكاة دقيقة لظاهرة البرق، الأمر الذي ظل بعيد المنال، بسبب الافتقار إلى بيانات عالية الوضوح".