يعاني العراق من أزمة سياسية حادة، نتجت بعد إعلان النتائج النهائية للانتخابات البرلمانية المبكرة، التي طالبت بها الحركة الاحتجاجية التي بدأت منذ عامين في العراق، بالتحديد في أكتوبر/تشرين الأول 2019.
كانت الانتخابات البرلمانية المبكرة، وإصدار قانون انتخابي جديد، من ضمن قائمة مطالب طويلة للحركة الاحتجاجية العراقية واسعة النطاق، التي تُعرف باسم "حركة تشرين"، والتي انتشرت في جميع أنحاء محافظات العراق، خاصة محافظات الجنوب ذات الأغلبية الشيعية، فخرج مئات الآلاف من المتظاهرين مطالبين بتطهير النظام السياسي العراقي من الفساد والمحسوبية والطائفية، وتوفير الخدمات العامة، وحل أزمات البطالة والكهرباء، التي يعاني منها العراق منذ الغزو الأمريكي للبلاد في عام 2003.
جاءت نتائج الانتخابات البرلمانية المبكرة، التي شهدت أقل نسبة إقبال على التصويت منذ عام 2006، بمثابة صدمة للعديد من الفاعلين السياسيين في العراق، فقد تصدّر التيار الصدري، بزعامة رجل الدين الشيعي والسياسي العراقي المثير للجدل مقتدى الصدر، بحصول حزبه على 73 مقعداً من مقاعد البرلمان البالغ عددها 329 مقعداً، وأمام انتصار الصدريين خسرت الأحزاب السياسية والفصائل المسلحة المدعومة من طهران الانتخابات الأخيرة، في العاشر من أكتوبر/تشرين الأول 2021، بحصولها على 20 مقعداً فقط.
وسط هذه النتائج، ورفض الأحزاب الشيعية التقليدية قبول الهزيمة، أصاب الجمود المشهد السياسي العراقي الحالي، الذي من المفترض أن يعقد أولى جلسات البرلمان الجديد، ومن ثم يتم إجراء مفاوضات تشكيل الحكومة، لكن هذه العملية مهددة بالانهيار الآن، فقد أعلن رجل الدين الشيعي، مقتدى الصدر، الفائز الأول في الانتخابات البرلمانية، عزمه على تشكيل حكومة أغلبية، لا حكومة توافقية كما جرت العادة في عراق ما بعد 2003.
جدير بالذكر هنا أن الحزب الذي يحصل على أكبر عدد من المقاعد البرلمانية في الانتخابات يحق له تشكيل ما يُطلق عليه اسم "الكتلة البرلمانية الأكبر"، ما يعطي له السلطة لتشكيل الحكومة المقبلة، واختيار رئيس الوزراء المستقبلي.
تناول "عربي بوست"، في تقارير سابقة، محاولات التفاهم بين الصدر وخصومه من الأحزاب الشيعية الموالية لإيران، التي تضم تحت هيئة تسمى "الإطار التنسيقي الشيعي"، والتي تم تأسيسها في أكتوبر/تشرين الأول 2019، لتضم كافة الأحزاب الشيعية، والفصائل المسلحة الموالية لإيران، والأحزاب الشيعية المعتدلة، كان مقتدى الصدر، حتى يونيو/حزيران 2021، أي قبل أشهر قليلة من إجراء الانتخابات البرلمانية في أكتوبر/تشرين الأول، جزءاً من الإطار التنسيقي الشيعي، لكنه انسحب.
منذ إعلان النتائج النهائية للانتخابات البرلمانية العراقية، ولم تسفر أي من الاجتماعات أو محاولات تقريب وجهات النظر بين مقتدى الصدر والإطار التنسيقي الشيعي عن أي نتائج مثمرة، فمن جانبه يُصر مقتدى الصدر على تشكيل حكومة أغلبية، ما يعني إقصاء باقي اللاعبين السياسيين الشيعة الآخرين، من الحكومة المستقبلية، وترفض هذه الأحزاب هذا الأمر بحجة أن تشكيل حكومة أغلبية يعني استحواذ التيار الصدري على الحكم، وإقصاء باقي الأحزاب الشيعية من المشهد السياسي العراقي.
يقول سياسي شيعي بارز، وواحد من أعضاء الإطار التنسيقي الشيعي لـ"عربي بوست"، "الصدر غير راغب في التعاون مع باقي الأحزاب الشيعية، حاولنا بشتى الطرق إثناءه عمّا يريد فعله، لكنه رفض كل المحاولات والوساطات، هناك نية من الصدريين لتوسيع نطاق المواجهة، ونحن لا نريد الانزلاق لهذا الأمر".
محاولات "عمار الحكيم" لحل الأزمة
كان عمار الحكيم زعيم تيار الحكمة، الذي يعتبر واحداً من السياسيين الشيعة المعتدلين، من ضمن الخاسرين في الانتخابات البرلمانية التي تم إجراؤها، في العاشر من أكتوبر/تشرين الأول 2021، لكنه على عكس أحزاب الإطار التنسيقي الشيعي لم يدفع أنصاره إلى الشوارع للتظاهر، كما فعل أنصار الأحزاب الشيعية الخاسرة، وسلك طريقاً آخر للاعتراض على نتائج الانتخابات البرلمانية، من خلال تقديم الطعون إلى المحكمة الاتحادية العليا، والمفوضية العليا المستقلة للانتخابات العراقية، في محاولة لإظهار تمسك حزبه بنهج الاعتدال المعروف به.
بعد أسابيع قليلة من إعلان نتائج الانتخابات البرلمانية، انضمّ عمار الحكيم إلى مطالب الإطار التنسيقي الشيعي، بشأن تشكيل الحكومة المقبلة، وحضر عدداً من اجتماعات الوساطة بين الصدر وخصومه الشيعة، (لا يتمتع الصدر بعلاقة جيدة مع الأحزاب الشيعية الموالية لإيران، بالإضافة إلى عداوة قديمة تجمعه مع نوري المالكي رئيس الوزراء السابق، وزعيم ائتلاف دولة القانون).
لكن الآن، وبعد اليأس الذي تملّك جميع الأطراف في المعادلة السياسية، من التوصل إلى تفاهم مع مقتدى الصدر من أجل العدول عن قراره، وتشكيل حكومة توافقية تشارك فيها جميع الأحزاب السياسية الشيعية المعروفة منذ عام 2003، يحاول عمار الحكيم لعب دور جديد من أجل إيجاد حل للأزمة الحالية.
يقول مصدر مقرب من تيار الحكمة الذي يتزعمه عمار الحكيم، لـ"عربي بوست"، "حركة الحكمة أعلنت عدم مشاركتها في الحكومة المقبلة، لكن السيد عمار الحكيم اختار لعب دور إيجابي، لتجنيب البلاد صراعاً سياسياً من الممكن أن يؤدي إلى انهيار وشيك".
ويضيف المصدر ذاته قائلاً لـ"عربي بوست"، "يمتلك السيد عمار الحكيم جميع الأدوات للعب مثل هذا الدور الذي من الممكن أن يُخرج البلاد من حالة الجمود السياسي، في حين تجمعه علاقة طيبة بالسيد مقتدى الصدر، وأيضاً هو عضو في الإطار التنسيقي الشيعي، كما عرف عن السيد عمار ميله الدائم للاعتدال، كلها أدوات تؤهله لحل هذه الأزمة".
حكومة الأغلبية الموسّعة كحل للأزمة السياسية الحالية
بحسب مسؤول سياسي في تيار الحكمة، ومقرب من السيد عمار الحكيم زعيم الحركة، فإن الأخير قد اقترح حلاً للخروج من حالة الجمود السياسي التي أصابت العراق بعد الانتخابات البرلمانية الأخيرة، وهي "حكومة أغلبية موسعة"، يقول المصدر لـ"عربي بوست"، "اقترح السيد عمار الحكيم على جميع الأطراف حلاً بتشكيل حكومة أغلبية موسعة، كحل وسط لمطالب مقتدى الصدر والإطار التنسيقي الشيعي، بالإضافة إلى موافقة المكون الكردي والسني بالطبع".
يشرح المصدر السابق ملامح هذا الحل لـ"عربي بوست"، قائلاً "أغلبية موسعة تعني، حسب وجهة نظر السيد عمار الحكيم: الاتفاق على رئيس الوزراء المقبل من خلال الحصول على دعم حوالي 200 نائب من كافة الأحزاب، وتشكيل كتلة معارضة برلمانية يكون عددها حوالي 150 نائباً، بذلك تكون الحكومة المقبلة لا أغلبية مطلقة ولا توافقية مطلقة، إنما تأتي حلاً وسطاً يُرضي جميع الأطراف".
لكن هل ستوافق جميع الأطراف على اقتراح زعيم تيار الحكمة، عمار الحكيم؟ يقول المسؤول السياسي داخل حركة الحكمة والمقرب من زعيمها، لـ"عربي بوست"، "السيد عمار الحكيم طرح هذا الحل على جميع الأطراف، كبديل عن الفوضى السياسية، البعض رفض والبعض يفكر، لكن إلى الآن لم يتم التوصل إلى إجماع بشكل كامل على هذا الحل".
اختلاف ردود الفعل على مبادرة عمار الحكيم
كما قال المصدر السابق، فإن جميع الأحزاب الشيعية الآن على علم بمقترح السيد عمار الحكيم، للخروج من الأزمة الحالية، يقول سياسي شيعي بارز في الإطار التنسيقي الشيعي، لـ"عربي بوست"، معلقاً على هذا المقترح "من وجهة نظري مقترح السيد عمار الحكيم لن يُكتب له النجاح، فهناك العديد من الأطراف داخل الإطار رفضوا هذا الحل، ولديهم تحفظات على فكرة الأغلبية الموسعة، لأنهم غير معترفين بنتائج الانتخابات حتى الآن"، في إشارة إلى بعض أحزاب الإطار التنسيقي الشيعي الذي يضم أغلب الأحزاب الشيعية العراقية، وبعضها مقرب من الجمهورية الإسلامية.
جدير بالذكر هنا أن بعض الأحزاب الشيعية داخل الإطار التنسيقي الشيعي أعلنت رفضها لنتائج الانتخابات البرلمانية الأخيرة، وأبرزها تحالف فتح، وقد طالبوا المفوضية العليا المستقلة للانتخابات العراقية بإعادة الفرز يدوياً، وقامت الأخيرة بإعادة الفرز اليدوي في عدد من الدوائر.
يقول مسؤول شبه عسكري في فصيل عصائب أهل الحق، أحد أكبر الفصائل الشيعية المسلحة المقربة من إيران، في العراق، والذي دفع بأنصاره إلى التظاهر أمام المنطقة الخضراء احتجاجاً على نتائج الانتخابات، كما تم اتهام الفصيل بزعامة قيس الخزعلي من بعض الأطراف، بتورطه في محاولة اغتيال رئيس الوزراء العراقي مصطفى الكاظمي، في الهجوم بطائرة بدون طيار استهدفت مقر إقامته داخل المنطقة الخضراء، في 7 نوفمبر/تشرين الثاني 2021: "نحن لا نعترف بنتائج الانتخابات التي تم تزويرها بواسطة جهات محلية وخارجية، لذلك لا يوجد مجال لقبول اقتراح تيار الحكمة".
جدير بالذكر أن قيس الخزعلي، زعيم فصيل عصائب أهل الحق، قد اتَّهم دولة الإمارات العربية المتحدة، التي توجد بها الخوادم الخاصة بنظام الفرز الإلكتروني للانتخابات البرلمانية العراقية.
وبالإضافة إلى رفض عصائب أهل الحق لمقترح زعيم تيار الحكمة عمار الحكيم، بشأن تشكيل حكومة أغلبية موسعة، هناك من يرى أن المقترح جيد من حيث المبدأ، لكنه يحتاج إلى تعديلات عديدة، وفي هذا السياق يقول سياسي شيعي من الإطار التنسيقي الشيعي لـ"عربي بوست"، "المقترح جيد، ومن الممكن أن يتم العمل عليه من أجل التوصل إلى بعض التفاهمات والتوافقات، لكن داخل الإطار هناك من يرى أنه لا بد من ضمان بعض المناصب الهامة في الحكومة المقبلة للأحزاب الشيعية الخاسرة، وليس فقط الاكتفاء بعملية المشاركة في تسمية رئيس الوزراء القادم".
وماذا عن التيار الصدري؟
إلى الآن لم يعلن التيار الصدري، بزعامة رجل الدين الشيعي مقتدى الصدر أي ردة فعل تجاه مقترح زعيم تيار الحكمة عمار الحكيم، بشأن تشكيل حكومة أغلبية موسعة بدلاً من انفراد التيار الصدري بتشكيل الحكومة المقبلة.
في حديثه للتعليق على مقترح عمار الحكيم، يقول مسؤول في التيار الصدري، لـ"عربي بوست": "نحن نرحب بأي وساطة معتدلة هدفها إنهاء الأزمة الحالية، لكننا لم نتخذ قراراً بشأن مقترح السيد عمار الحكيم".
لكن على ما يبدو أن التيار الصدري يتجه نحو رفض هذا المقترح، فيقول المصدر ذاته لـ"عربي بوست": "بالطبع تمت مناقشة هذا المقترح داخل التيار، وبحضور السيد مقتدى الصدر، لكن في نفس الوقت نحن نرى أن الأغلبية الموسعة تقودنا في النهاية إلى حكومة توافقية، بشكل أو بآخر، والتيار الصدري هدفه تشكيل حكومة أغلبية، لتكون مسؤولة عن كافة القرارات والأزمات العراقية"، ويضيف المصدر قائلاً "لكننا لن نعلن موقفنا إلى الآن، لا بالرفض ولا بالموافقة، نحتاج للمزيد من الوقت لمناقشة المسألة".
الإطار التنسيقي الشيعي يسافر إلى أربيل
في اليومين الماضيين، سافر نوري المالكي، رئيس ائتلاف دولة القانون، ورئيس الوزراء السابق (2006: 2014) بصحبة عدد من السياسيين الشيعة من الإطار التنسيقي الشيعي، إلى مدينة أربيل، عاصمة إقليم كردستان العراق المتمتع بالحكم شبه المستقل. في محاولة لضم الأكراد إلى صف الأحزاب الشيعية، من أجل مواجهة مقتدى الصدر، ومقترحه بتشكيل حكومة أغلبية بدلاً من حكومة توافقية.
يقول سياسي شيعي بارز ومقرب من نوري المالكي، وكان أيضاً من ضمن الحاضرين لاجتماع النخب السياسية العراقية في أربيل، لـ"عربي بوست": "الاجتماع كان إيجابياً للغاية، أستطيع أن أقول إن السيد نوري المالكي قد توصل إلى اتفاق مع وفد الحزب الديمقراطي الكردستاني، بموجبه ستتكون كتلة برلمانية كبرى تعارض تشكيل حكومة أغلبية كما ينوي الصدر".
تجدر الإشارة هنا إلى أن الحزب الديمقراطي الكردستاني، والذي يتقاسم السلطة مع الاتحاد الوطني الكردستاني، في إقليم كردستان العراق، قد حصل على 34 مقعداً في الانتخابات البرلمانية العراقية، ويعتبر الحزب الأقوى داخل الإقليم.
في زيارة أربيل، اجتمع نوري المالكي، بزعيم الحزب الديمقراطي الكردستاني، مسعود بارزاني بجانب عدد من القيادات السياسية الكردية، وبحسب المصدر السابق فإنه قريباً جداً سيتم الإعلان عن توافق شيعي كردي بشأن تشكيل الحكومة المقبلة، فيقول لـ"عربي بوست": "توصل الوفد الشيعي مع وفد الحزب الديمقراطي الكردستاني إلى أهمية العمل على رفض أي محاولة لتشكيل حكومة أغلبية، والاتفاق على إعلان أن كل الأطراف سواء الشيعية أو الكردية راغبة في المشاركة في الحكومة المقبلة، ولا توجد احتمالية لحصر الأحزاب الشيعية في دور المعارضة".
نرفض "خلطة العطار" ومصممون على حكومة أغلبية
بالعودة إلى موقف التيار الصدري من كل هذه المقترحات والاجتماعات ومحاولات التعاون بين الشيعة والأكراد، لمواجهة تشكيل التيار الصدري لحكومة أغلبية، يقول قيادي بارز في التيار الصدري، لـ"عربي بوست": "نحن نرفض خلطة العطار التي يريدها البعض"، بالإشارة إلى تشكيل حكومة توافقية كما جرت العادة في العراق.
ويضيف المصدر ذاته قائلاً "هناك الكثير من الأطراف السياسية في العراق، تدعم توجه التيار الصدري بتشكيل حكومة أغلبية، لا بد أن يتم إصلاح النظام السياسي العراقي، وهذا لن يتحقق إلا بتشكيل حكومة أغلبية تكون هي المسؤولة أمام الشعب، من يرفض ذلك أمامه مقاعد المعارضة".