قالت صحيفة Haaretz الإسرائيلية، في تقرير نشرته الجمعة 24 ديسمبر/كانون الأول 2021، إن السلطات الأمريكية كانت في صدمة بعد اكتشافها أن شركة NSU الإسرائيلية قد تجسست على دبلوماسييها الذين يتعاملون مع الملف الأوغندي.
حيث نقلت وكالة Reuters البريطانية أنّ برنامج بيغاسوس الخاص بشركة NSO قد تم استخدامه لاختراق هواتف تسعة دبلوماسيين أمريكيين يتعاملون مع المسائل المتعلقة بأوغندا. ولم يذكر التقرير هوية من اشترى برنامج التجسس من الشركة الإسرائيلية، لكن كل أصابع الاتهام تُشير إلى الديكتاتور الأوغندي يوري موسفني الذي استغل البرنامج للتجسس على الدبلوماسيين الأمريكيين.
مساعدات إسرائيل لحكام أوغندا
يُضاف إلى ذلك ما نُشر من معلومات في وثائق أرشيف الدولة الإسرائيلية التي رُفِعَت عنها السرية مؤخراً، والتي تُسلط الضوء على مساعدات إسرائيل لحكام أوغندا الديكتاتوريين على مرّ السنوات، حيث كان ذلك الدعم يتبع نمطاً ثابتاً: إذ تبدأ حكومة إسرائيل في البداية بمساعدة الحاكم في جهوده لتحطيم أي قوات تثور ضده، ولكن في حال نجاح محاولة الإطاحة بالحكومة، تنضم إسرائيل مباشرةً إلى الجانب المقابل لدعم النظام الجديد، دون أي أسفٍ على الحكومة التي ساعدتها في البداية.
تكرّر هذا النمط مع موسفني. إذ كشفت الوثائق الأرشيفية أنّه في يوليو/تموز عام 1985، طلب قائد الجيش الأوغندي والحاكم الوحشي للبلاد الجنرال تيتو أوكيلو مساعدةً عسكرية من إسرائيل لردع قوات المتمردين المعارضة لحكمه. وكانت مجموعة المتمردين الأقوى والأكثر تنظيماً هي جيش المقاومة الوطنية، بقيادة موسفني. وبحسب التقارير التي قدمها مسؤولو وزارة الخارجية، فقد قررت إسرائيل مساعدة أوكيلو في قمع انتفاضة موسفني، مقابل إحياء العلاقات الدبلوماسية بين البلدين، بعد أن قطعها الرئيس عيدي أمين عام 1972.
تنسيق شحنات الأسلحة لإسرائيل
لإخفاء هذه المقايضة وراء ستار العلاقات، استفادت وزارة الخارجية ووزارة الدفاع من خدمات الدبلوماسي السابق والمنسق السابق لأنشطة الحكومة في لبنان، أوري لوبراني، الذي كان رجل أعمالٍ في ذلك الوقت. وكانت الشركات المرتبطة بلوبراني تُنفذ المعاملات بالنيابة عن وزارة الدفاع، كما زار لوبراني أوغندا بنفسه في العديد من المناسبات، من أجل تنسيق شحنات الأسلحة التي تصل من إسرائيل.
في برقيةٍ بتاريخ الـ22 من نوفمبر/تشرين الثاني عام 1985، كتب مدير مكتب إفريقيا في وزارة الخارجية: "لم يعُد هناك استقرارٌ منذ الانقلاب، ولم تعُد الحكومة مسيطرةً على البلاد بالكامل. إذ يُسيطر المتمردون على بقية الأراضي، كما أنّ قواتهم أكثر اتحاداً… ونحن نسترشد هنا بالرأي القائل إنّ تكوين العلاقات سيكون ملزماً لأي حكومات مستقبلية في أوغندا، وبالتالي فمن مصلحتنا أن نُقيم علاقات دبلوماسيةً الآن رغم عدم استقرار الحكومة الحالية".
كما تُظهر برقياتٌ أخرى بين ديسمبر/كانون الأول 1985 ويناير/كانون الثاني 1986، أن إسرائيل أرسلت ثلاث طائرات محملة بالأسلحة، وأن أوكيلو وافق في المقابل على تعيين البلدين ممثلين دبلوماسيين غير مقيمين.
أما في الـ19 من ديسمبر/كانون الأول 2021، فوافق موسفني على توقيع اتفاقٍ لوقف إطلاق النار، وهو الأمر الذي يرجع في تقدير أوكيلو إلى قوة الردع التي وفرتها الأسلحة الإسرائيلية. لكن الاتفاق انهار سريعاً ليُستأنف القتال.
لم تُجدِ المساعدة الإسرائيلية نفعاً هذه المرة، حيث استولت قوات موسفني على العاصمة كامبالا، في حين فرّ أوكيلو مع مجلسه العسكري إلى شمال البلاد لمواصلة القتال من هناك.
فرصة موسفني لتحقيق النصر
حين أدركت وزارتا الخارجية والدفاع أنّ موسفني لديه فرصةٌ كبيرة في تحقيق النصر؛ قررت إسرائيل وقف شحنات الأسلحة وكل طلبات المساعدة التالية من جانب أوكيلو، الذي تحوّل الآن من حاكمٍ إلى متمرد.
بدأ ممثلو موسفني بالفعل في التواصل مع السفارة الإسرائيلية بواشنطن قبل أربعة أيام من غزو كامبالا واستيلاء النظام الجديد عليها لاحقاً، وفقاً لبرقية أرسلها آفي بريمور، مدير مكتب إفريقيا بوزارة الخارجية. وفي اليوم التالي، التقى ممثلو إسرائيل مبعوثيه في نيروبي، ليبدأ التواصل الرسمي بين الطرفين. ومنذ ذلك الحين، بدأت وزارة الدفاع الإسرائيلية في دعم نظام موسفني، وتدريب وتسليح قواته العسكرية.
بحسب ما أظهرته أرشيفات البرقيات، فقد كانت وزارتا الخارجية والدفاع تدركان جيداً أنّ ليبيا -بقيادة معمر القذافي- كانت تدعم نظام موسفني الجديد. علاوةً على علمهما أنّ ذلك النظام كان يستخدم مجندين من الأطفال في المعارك التي يخوضها.
على سبيل المثال، بعث السفير الإسرائيلي لدى سويسرا، شلومو دايان، إلى مدير مكتب إفريقيا بوزارة الخارجية مقالاً حول نشر الأطفال كأفرادٍ قتاليين ضمن صفوف جيش المقاومة الوطنية، قائلاً إنه "مقالٌ قد يُثير اهتمامك". ولكن يبدو أن المدير لم يهتم كثيراً.
قتل الآلاف في أوغندا
كانت إسرائيل تُدرك كذلك أنّ قوات الحكومة الجديدة قد قتلت الآلاف، وأنّ موسفني اعتقل وزراء الحكومة القديمة ومنافسيه السياسيين، وأعدم عشرات المحتجزين السجناء، كما كان يعمل على إقامة نظام الحزب الواحد.
لكن ذلك لم يمنع تقدم العلاقات الثنائية، حتى حين قرّر موسفني الموافقة على افتتاح مكتب لمنظمة التحرير الفلسطينية في كامبالا، وحين زار الزعيم الليبي القذافي أوغندا في سبتمبر/أيلول عام 1986.
ربما لم يكُن موسفني يُمثّل أفضل الرهانات، لكنه كان حاكماً ديكتاتورياً مفيداً في عيون إسرائيل والولايات المتحدة. ويرجع ذلك إلى العديد من الأسباب، مثل مساعدته إسرائيل والولايات المتحدة في معركتهما ضد الديكتاتور السوداني عمر البشير.
كما حاول موسفني أيضاً الترويج للمصالح الإسرائيلية والأمريكية في رواندا، وكان له دورٌ محوري في صعود عائلة كابيلا إلى السلطة بجمهورية الكونغو الديمقراطية، وهي عائلةٌ تتمتع بعلاقات أمنية واقتصادية قوية مع الدولة اليهودية من خلال رجال أعمالها المتعددين.
حين تأسست دولةٌ مستقلة في جنوب السودان تحت قيادة سالفا كير عام 2011، واندلعت حربٌ أهلها بعدها بعامين؛ بحثت إسرائيل عن طريقةٍ لمواصلة دعم النظام الجديد رغم علمها بارتكابه جرائم ضد الإنسانية وتجنيده الأطفال. ومرةً أخرى هبّ موسفني للإنقاذ وأرسل شحنات أسلحة إسرائيلية إلى كير في عام 2014.
انتهاء دور موسفني السياسي
في عام 2020 أدرك موسفني أنّ دوره كحاكمٍ ديكتاتوري مفيد قد انتهى. علاوةً على التحولات الجيوسياسية التي جعلته أقل أهمية من منظور الولايات المتحدة، حيث رحل البشير، وفُرِض حظرٌ على جنوب السودان، وصار كير رئيساً منبوذاً.
لكن وزارة الدفاع الإسرائيلية لا تُحب إهدار الفرص، ولو كانت قد باعت تقنيات سيبرانية هجومية لأوغندا، فلا شك في أن عملية التصدير ستجري بتصريحٍ وزاري، مما يعني أن ذلك الضوء الأخضر قد أُعطي رغم علم المسؤولين الوزاريين بأن موسفني يُقاتل من أجل إنقاذ حياته السياسية، وأنّه صار غارقاً في النزاعات مع الولايات المتحدة. وقد نقلت صحيفة New York Times الأمريكية أنّ الرئيس جو بايدن قد فقد صبره على موسفني، ويُفكّر في توقيع عقوبات عليه وعلى غيره من المسؤولين.
لذلك، يبدو أنّ شركة NSO الإسرائيلية لن تتورع عن بيع أنظمة المراقبة للأنظمة التي ليست لديها خطوط حمراء في التعامل مع مواطنيها. ولا تهتم الشركة طالما أن المستهدفين بـ"بيغاسوس" مدنيون، رغم شعورها بالفزع الآن لاستخدام تلك التقنية ضد دبلوماسيين أمريكيين.
لا شك في أنها فرصةٌ ممتازة للولايات المتحدة حتى تضرب عصفورين بحجرٍ واحد وبلا تردد: شركة NSO وموسفني. وربما دخلت الشركة والزعيم الديكتاتوري في تعقيدات قانونية تصعّب موقفهما، لكن يبدو أن العدالة ستتجاوز وزارة الدفاع الإسرائيلية مرةً أخرى. ولا شك في أن هذه الوزارة ستصرح من جديد ببيع برنامج تجسس شركة أخرى إلى الديكتاتور المقبل بعد موسفني في المستقبل.