أشهر قليلة تفصلنا عن الانتخابات الفرنسية الرئاسية المنتظر إجراؤها، مطلعَ أبريل/نيسان 2022 القادم، وسط جو سياسي مشحون، أهم مقوّماتِه غياب مرشّح قوي أو توافقي سواء من اليمين أو اليسار يَحُدّ من حظوظ الرئيس الحالي إيمانويل ماكرون ليظفر بعهدة ثانية، رغم عهدةٍ أولى هزيلة الحصيلة.
وحددت الحكومة الفرنسية، 10 أبريل/نيسان 2022، كتاريخٍ لإجراء الدور الأول من الانتخابات الفرنسية الرئاسية، على أن يُجرى الدور الثاني منها في 24 من نفس الشهر. التقرير التالي يستعرض أبرز المرشحين وأهمّ القضايا التي تَشغل بال الناخب الفرنسي، والتي قد يتحدد من خلالها الرئيس الثاني عَشَر للجمهورية الفرنسية الخامسة.
كيف يصوت الفرنسيون؟
وأقرّ الدستور الفرنسي لعام 1965م بأن يُنتَخب الرئيس الفرنسي بالاقتراع العام المباشر للمواطنين، على أن تجرى الانتخابات الفرنسية الرئاسية في دَوْرَيْن، إذ يُصوّت الفرنسيون في الدور الأوّل على مرشّحهم المفضّل من بين جميع المتقدمين، وبعد فرز أصوات الدور الأوّل تُستَدعى الهيئة الناخبة للتصويت مرة ثانية للاختيار بين المُرَشّحَيْن الحاصِليْن على أكبر عدد من الأصوات في الدّور الأوّل.
وتم انتخاب الرئيس الفرنسي الحالي إيمانويل ماكرون انتُخب رئيساً بهذه الطريقة في العام 2017، بعد أن بلَغ الدّور الثاني رفقة زعيمة حزب التجمع الوطني مارين لوبان عن اليمين المتطرف، إذ حصد ماكرون في الدور الثاني 66,1% من الأصوات.
ويسمَح نظام الدّورَيْن بإضفاء شرعية أكبر على الانتخابات الرئاسية، إذ يختار الفرنسيون بين مُرَشّحَيْن فقط بدل تَشَتّت الأصوات بين عدد أكبر من المرشحين كما يجري عادة في الدّور الأوّل.
ويَحقّ للرئيس الفرنسي تجديد عُهدتِه مرة واحدة فقط، بحسب التعديل الدستوري الذي تبنّاه الرئيس السابق نيكولا ساركوزي في العام 2008، والذي يستهدف تفادي احتكار المنصب الدستوري الأعلى في البلاد.
أكبر الأحزاب المتنافسة
لَطالما اختار الفرنسيون رؤساءَهُم من بين حِزبَيْن اثنَين لا ثالث لَهُما، أوّلُهما حزب "الجُمهوريون" اليميني، والذي يتبنى فكراً ليبرالياً، ويرتبط باسم الرئيس الفرنسي والشخصية التاريخية الشهيرة "شارل ديغول"، الجنرال الذي نزع البدلة العسكرية ليَترأس البلاد، وهو مؤسس الجمهورية الفرنسية الخامسة.
وانتخب حزب "الجُمهوريون" اليميني خمسة رؤساء، أشهرهم بالإضافة إلى شارل ديغول جورج بومبيدو، وجاك شيراك، ونيكولا ساركوزي.
ثاني الأحزاب هو الحزب الاشتراكي، الذي تأسس في العام 1969 كذراع سياسية للفكر الشيوعي اليساري، ولحركة العمال وَقتَها، الذي قدّم للجمهورية الخامسة رئيسَيْن اثنَيْن: فرنسوا ميتيراند، وفرنسوا هولاند.
بالإضافة إلى هذَين الحزبَيْن يتكَوّن المشهد السياسي من أحزاب صُغرى تتبنى فكراً متطرفاً، سواء من اليمين أو اليسار، أهمّها "حركة فرنسا غير الخاضعة" عن اليسار المتطرف، وحزب "التجمّع الوطني" عن اليمين المتطرف، وزعيمته مارين لوبان ابنة مؤسس الحزب "جون ماري لوبان".
وجرت العادة أن تُقدّم أحزابٌ أخرى مرشحين للانتخابات الرئاسية، لكنّ حظوظهم في اجتياز الدّور الثاني تبقى ضئيلة، ويأتي على رأس هذه الأحزاب حزب "الخضر" المهتم بقضايا البيئة.
حظوظ ماكرون
الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون تمكّن في عام 2017 من وضع حدّ لتقليد انتخاب الرؤساء حصرياً من حزب الجمهوريون أو الحزب الاشتراكي، وذلك بانشقاقه عن الحزب الاشتراكي ودعوته الفرنسيين لانتخابه رئيساً دون انتماء حزبي تقليدي، قائلاً إنه "مستعد لتبني أحسن الأفكار والسياسات، سواء انبثقت عن اليمين أو اليسار، ما دامَت تخدم مصلحة الفرنسيين".
هذا الخيار لاقى رواجاً واستحسانا كبيريْن لدى الفرنسيين ولدى المُنتَخبين الشباب بمختلف انتماءاتهم السياسية، وتجلى هذا الرواج واضحاً بعد أن شكّل الرئيس الفرنسي حركة سماها "إلى الأمام"، دعا من خلالها جميع المُنتخبين المحليين وأعضاء الجمعية العامة إلى الانشقاق عن أحزابهم والانضمام لحركته، وهو ما حدث فعلاً، إذ تحصلت حركة "إلى الأمام" على الأغلبية البرلمانية في الانتخابات الفرنسية التشريعية التي تلت انتخاب ماكرون رئيساً في العام 2017.
وتبقى حظوظ الرئيس ماكرون مرتفعة جداً في الظفر بعهدة ثانية، تسعى هياكل حركة "إلى الأمام" للترويج لبرنامج الرئيس، كما أن القواعد الشعبية للحركة ترى أنّ حصيلة الرئيس ماكرون تأثرت بسبب الجائحة التي خلفها فيروس كوفيد-19، وأن ماكرون لا يزال قادراً على تدارك الوضع وإنعاش الاقتصاد إن مُنحت له ثقة الفرنسيين لعهدة ثانية.
ماذا تقول استطلاعات الرأي؟
تضع استطلاعات الرأي التي تُجرى في فرنسا استعداداً للانتخابات الرئاسية أن الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون في المقدمة بـ25% من الأصوات، في انتظار اكتمال قائمة المرشحين.
ويرى أستاذ العلوم السياسية بجامعة السوربون لويك بلونديو أن الشعب الفرنسي يثق إلى حد كبير في استطلاعات الرأي التي تقدمها معاهد الإحصاء، بغض النظر عن تَوجُّهها السياسي.
ويذهب الأستاذ إلى أبعد من ذلك، بقوله إن فرنسا هي الديمقراطية الوحيدة في العالم التي يُمكن فيها التنبؤ بهوية الرئيس القادم عبر متابعة نتائج استطلاعات الرأي.
ويعزو الأستاذ بلونديو ذلك إلى التداول الواسع لنتائج الانتخابات في وسائل الإعلام الفرنسية، إذ لا تكاد تخلو منها نشرات الأخبار ومقالات الصحف، ما يخلق تأثيراً متبادلاً بين هذه النتائج وبين الفرد الفرنسي الذي لا يُحبّذ المفاجأة.
وقال المتحدث إن "الناخب الفرنسي يذهب لصناديق الاقتراع لِيُدليَ بصوتِه وهو على معرفة تامّة بنتائج الانتخابات وبما سَتُفرِزه الصناديق".
حزب "الجمهوريون" يتعلّم من أخطاء الماضي
ثلاثة أيام تفصلنا عن مؤتمر حزب "الجمهوريون" اليميني الذي سيشهد انتخابات داخلية تحدد هوية مرشح الحزب.
وصوّت أعضاء الحزب منتصف الشهر الماضي لصالح تغيير القانون الأساسي للحزب، الذي كان يسمح في السابق لغير المنتسبين للحزب بالمشاركة في الانتخابات التمهيدية.
ويرى محللون أن هذا التغيير أتى على خلفية ما حدث في الانتخابات الفرنسية التمهيدية لعام 2015، إذ تسببت مشاركة غير المنتسبين للحزب بإقصاء الرئيس الفرنسي السابق نيكولا ساركوزي في الجولة الأولى من الانتخابات التمهيدية.
وموازاة مع ذلك، قرر المكتب السياسي للحزب استحداث لجنة تبُث في الأهلية الأخلاقية للمرشحين، ومدى توافق ما يدعون إليه مع القيم اليمينية للحزب.
ويأتي ذلك تفادياً لأزمة مشابهة لما حصل لمرشح اليمين فرانسوا فيون في الرئاسيات السابقة، إذ تسببت فضيحة أخلاقية في إقصائِه من المُعترك الانتخابي، رغم تواجده في طليعة استطلاعات الرأي حينَها.
ويُرَجَّحُ أن تُفرز الانتخابات الفرنسية التمهيدية اسم كزافييه برتراند رئيس إقليم "أوت دو فرونس" في الشمال الفرنسي كمرشح الحزب لخوض غمار الرئاسيات.
اليسار الفرنسي يواصل انقسامه
قبل التطرق إلى هوية مرشحي اليسار في الانتخابات الفرنسية، تجدر الإشارة إلى أن الفصائل المنتسبة للفكر اليساري في فرنسا لا تزال متشتتة، بل إنها تبدو اليوم أبعد من أي وقت مضى عن مُرشحٍ توافقي يجمع شمل اليساريين، ويُوَحّد أصواتهم في الرئاسيات المقبلة.
ويواصل جون لوك ميلونشون، رئيس حركة "فرنسا غير الخاضعة" عن اليسار المتطرف جولاته في مختلف المناطق الفرنسية للتعريف ببرنامجه الانتخابي، ولدعوة الناخبين إلى المشاركة بقوة في الموعد الانتخابي، لوضع حدٍّ لما سماه "الكوارث الماكرونية"، في إشارة لحصيلة الرئيس الفرنسي الحالي.
وكان لجوء ماكرون المتكرر والمُبالغ فيه حسب خبراء للاستدانة، قد سبب تفاقُماً غير مسبوق للمديونية الفرنسية، بما يقارب 600 مليار أورو خلال خمس سنوات.
أما الحزب الاشتراكي فقد اختار الاصطفاف وراء عمدة باريس آن هيدالغو، والتي تضعها استطلاعات الرأي في مؤخرة الترتيب بـ4% من الأصوات.
ويرى متابعون أن تراجع الحزب الاشتراكي في استطلاعات الرأي يعود إلى انحسار القاعدة الشعبية للحزب، خاصة بعد التحاق أغلب مُنتخبي الحزب بحركة الرئيس ماكرون "إلى الأمام" في مطلع عُهدته الرئاسية.
وتضع آن هيدالغو على رأس أولوياتها إعادة الحزب الاشتراكي إلى الواجهة، إذ تُركز في برنامجها الانتخابي على قضايا المرأة ومساواة الأجور بين الجنسَيْن، كما تعِد برفع الأجر القاعدي ليصل إلى 1800 يورو مقارنة بحوالي 1500 يورو حالياً.
اليمين المتطرف.. انقسام من نوع آخر
يضع المحلل السياسي المعروف كريستوف باربيي فصيل "اليمين المتطرف" في مقدمة الجبهات السياسية الأوفر حظاً في الوصول إلى الدور الثاني من الانتخابات الفرنسية.
وقد كان الكاتب والصحفي اليميني المتطرف إريك زمور قد أحدث زوبعة في صفوف هذا الفصيل، بعد أن تحدثت عدة تقارير صحفية عن اعتزامه الترشح للانتخابات الرئاسية القادمة.
ويُشَبِّه المحلل السياسي حالة إريك زمور بما شهدته الانتخابات الأمريكية للعام 2016، وذلك بعد أن أعلن حينها رجل الأعمال المثير للجدل دونالد ترامب ترشحه للانتخابات.
وقال المتحدث إن "إريك زمور استغل صدور أحدَث كتاباته بعنوان "فرنسا لم تَقُل كلمتها الأخيرة بَعد"، والذي تصدّر مبيعات الكتب في فرنسا، للقيام بجولة شعبية قادته إلى عدة مُدُنٍ فرنسية التقى خلالها جمعاً غفيراً من المُعجَبين والمُؤيدين.
وأشار المتحدث إلى أن هذه التحركات عكَسَتها استطلاعات الرأي التي تضعه في المرتبة الثانية خلف الرئيس الفرنسي ماكرون، هذا الأمر يُعزز من ثقته بنفسه ويجعله يؤمن بحظوظه في بلوغ الدور الثاني.
تجدر الإشارة إلى أن إريك زمور لم يُعلن بعد ترشحه رسمياً، لكنه يضرب موعداً للرأي العام الفرنسي في الخامس من ديسمبر/كانون الأول 2021، في لقاء شعبي يُرجّح أن الهدف من تنظيمه هو إعلان ترشحه.
ويسود الأوساط السياسية الفرنسية اعتقاد بأن إريك زمور قد سحب البساط فعلاً من مارين لوبان، زعيمة حزب "التجمع الوطني"، واستولى على وعائها الانتخابي، لكن كريستوف باربيي يعتقد أن لوبان "لم تقل كلمتها الأخيرة بعد"، وأنّ هياكل حزب "التجمع الوطني" وقواعده لها من الخبرة ما يكفي لتأمين مرور مرشحها للدور الثاني من الانتخابات الفرنسية كما فعلت في العام 2017 ضدّ الرئيس الحالي إيمانويل ماكرون.
ما الذي ينتظرُه الفرنسيون من انتخابات 2022؟
إذا كانت الانتخابات الفرنسية السابقة قد شهدت نسبة غير مسبوقة من العزوف الانتخابي، فإن استطلاعات الرأي تتوقع ارتفاعاً ملموساً في نسبة المشاركة في الانتخابات الفرنسية الرئاسية المُقبلة، خاصة أنّ الأزمة الصحية التي رافقت انتشار فيروس كوفيد 19 خلّفت ارتفاعاً في نسبة اهتمام الفرنسيين بصناعة القرار السياسي وبدواليب الحكم.
ولعلّ أهم ما يشغل الفرنسيين هو الهوة المتزايدة بين القدرة الشرائية للفقراء والأغنياء، إذ أظهر تقرير صدر عن معهد السياسات العامة أنّ الواحد بالمئة الأكثر ثراء هم أكبر المستفيدين من عهدة ماكرون، إذ ارتفع دخلها بـ4% مع تراجع دخل الفئة التي تعيش بأقل من 800 يورو شهرياً بـ0,5%، ما يعزز الاعتقاد السائد لدى الفرنسيين بأن ماكرون "رئيس الأغنياء".
ويرتبط تراجع القدرة الشرائية بالأزمة الاقتصادية التي عصفت بالبلاد خلال فترات الحجر الصحي، والتي تسببت في اندثار العديد من مناصب الشغل، وفي تراجع النمو الاقتصادي بنسبة 8% خلال العام 2020.
وإن كانت الحكومة الفرنسية قد أعلنت توقعها بأن نسبة النمو سترتفع بـ5% في العام الجاري، إلا أن إجمالي الناتج المحلي الخام يبقى ضعيفاً حسب خبراء اقتصاديين.
ملف الهجرة يأتي في المرتبة الثانية للاهتمامات الفرنسية، إذ أثبت المعهد الوطني للإحصائيات أن عدد المهاجرين الذين اختاروا فرنسا وجهة لهم خلال عهدة ماكرون تجاوز المليون مهاجر.
ويعتقد مرشحو اليمين المتطرف أن تزايد عدد المهاجرين بهذا الشكل يساهم في تلاشي ملامح الهوية الفرنسية، ويُحدِث شرخاً في النسيج المجتمعي الفرنسي، كما يقول إريك زمور إنّ عدد المهاجرين المرتفع يتسبب في انخفاض معدل الأجور، لأن المهاجرين من العمال يقبَلون العمل بأجور منخفضة مقارنة بالعمال الفرنسيين.
إضافة إلى قضايا القدرة الشرائية والهجرة تطفو على السطح قضية الهيمنة الأوروبية على التشريع الفرنسي، وهو ما دفع مرشح اليمين إريك سيوتي لأن يصرح بأنه في حال وصوله لقصر الإليزيه فإنه سيُلغي المعاهدة التي تقضي بِسُموّ القانون الأوربي على القانون الفرنسي.
وبتحديد هوية مرشح حزب الجمهوريون نهاية هذا الأسبوع وعقد إريك زمور مؤتمرَه الشعبي تكتمل ملامح خارطة الانتخابات الفرنسية للعام 2022 بكل ما تحمله من رهانات مصيرية.