منذ توقيع الاتفاق النووي ٥+١ مع إيران عام ٢٠١٥، لم تنفك "إسرائيل" بقيادة بنيامين نتنياهو حينها عن مواصلة التهديد بتنفيذ ضربة ضد إيران وذراعها الأقوى حزب الله في لبنان. على مدى سنوات ظلّت إسرائيل تهدّد بشن حرب أحادية، ولكن من دون أن تقدم على ذلك.
وبعدها لم يخفَ على أحد سعي نتنياهو شخصياً لدعم وصول دونالد ترامب إلى البيت الأبيض في العام 2016، بسبب سوء العلاقة مع سلفه باراك أوباما من جهة والاتفاق النووي الذي أبرمه مع إيران من جهة ثانية.
خلفيات مشهد اليوم على الضفة الأمريكية
في مايو/أيار ٢٠١٨، انسحب ترامب من الاتفاق النووي مع إيران، وشرع في تطبيق سياسة الضغوط القصوى من خلال فرض عقوبات طالت العديد من الكيانات الإيرانية والشركات المتعاملة معها.
ومنذ انتخاب جو بايدن رغبت الإدارة الأمريكية الجديدة في إحياء المفاوضات مع إيران، وعيّنت لذلك الغرض مسؤولين في الإدارة على خبرة ودراية بالملف منذ أيام أوباما، وأولهم مستشار السياسة الخارجية السابق روبرت مالي.
حتى الآن، عُقدت ست جولات من المفاوضات لإحياء خطة العمل الشاملة المشتركة، كان آخرها في ٢٠ يونيو/حزيران، أي بعد مرور يومين فقط على انتخاب المحافظ إبراهيم رئيسي رئيساً لإيران. بعدها تشكّلت قناعة لدى الإدارة الأمريكية بضرورة العودة إلى ما كان قد تم الاتفاق عليه عام ٢٠١٥، وبدأت هذه الإدارة بتسويق العودة إلى الاتفاق مع حلفائها وأصدقائها في المنطقة والعالم بمساعدة ومواكبة روسية-أوروبية.
على الضفة الإيرانية
في ظل حكم الرئيس حسن روحاني وتولي محمد جواد ظريف الخارجية، كان الموقف الإيراني متصلباً من حيث ضرورة العودة إلى الاتفاق المبرم مع مجموعة ٥+١ من دون التطرق أو قبل التطرق لأي موضوع إقليمي أو تسليحي. ومع اقتراب موعد عقد لقاء فيينا في التاسع والعشرين من شهر نوفمبر/تشرين الثاني الجاري 2021، بدأت المواقف الإيرانية تعمل على إعداد المسرح لتلك العودة من خلال جولات المفاوضات التي عقدت ومن خلال مفاوضات مع الفرنسيين والأوروبيين والسعوديين وباقي دول الخليج.
في الثامن من نوفمبر/تشرين الثاني، أكد الناطق باسم الخارجية الإيرانية سعيد خطيب زادة، أنّه يتعيّن على الولايات المتحدة الأمريكية، بعد اعترافها بذنبها، أن تقدّم ضمانات بأنّ "أي إدارة أمريكية لن تسخر بعد اليوم من العالم والقانون الدولي بالخروج من اتفاقية العام ٢٠١٥ مرة جديدة"، وذلك في إشارة تحضيرية إلى العودة إلى الاتفاق الأصلي.
وفي الخامس عشر من الشهر عينه، أشار قائد القوات الجوية في الحرس الثوري الإيراني، أمير علي حاجي زادة، إلى أنّ تداعيات "حرب شاملة" مع الولايات المتحدة ستؤدي إلى انتكاسة لإيران تدوم عشرة إلى عشرين عاماً.
فخلال شرحه للأسباب الكامنة وراء رد الجمهورية الإسلامية على اغتيال قائد فيلق القدس في الحرس الثوري الإيراني قاسم سليماني، في 3 يناير/كانون الثاني عام ٢٠٢٠، قال حاجي زادة: "كان بإمكاننا بدء حرب واسعة النطاق باستهداف جميع القواعد الأمريكية في الشرق الأوسط، لكن صراعاً حاداً سينشب بعد ذلك بين طهران وواشنطن. هل ذلك منطقي؟ كان من الممكن أن تواجه البلاد انتكاسة تتراوح لعشرة أعوام أو عشرين عاماً"، مؤكداً أنّ هجوم إيران بالصواريخ الباليستية على قاعدة عين الأسد، في ٨ يناير/كانون الثاني ٢٠٢٠، وهي قاعدة للقوات الأمريكية في العراق آنذاك، كان ضرورياً لأنه "كان لا بد من رد عسكري"، ما يمهّد أيضاً لرغبة في اتفاق وعدم خوض نزاع عسكري.
على الضفة الإسرائيلية
يلوّح رئيس الحكومة الإسرائيلية نفتالي بينيت يومياً بقدرة إسرائيل على شن حرب على إيران، تدمر منشآتها النووية، لكنه يود توريط الولايات المتحدة من دون شك إلى جانب بعض الأطراف الخليجية إذا ما استطاع إلى ذلك سبيلاً.
وهو لم يتردّد في تكرار ما كان يردّده نتنياهو، لجهة أنّ "إيران تشكّل تهديداً استراتيجياً للعالم، وتهديداً وجودياً لإسرائيل، ويجب عدم السماح لها بذلك". وفي حديث مع مجلة "تايمز"، أواخر أكتوبر/تشرين الأول الفائت، اعتبر بينيت أنّه "من خلال الدمج بين القدرات العسكرية والضغط الدبلوماسي والاقتصادي، من جانب إسرائيل والولايات المتحدة وغيرهما من الدول، ستبطئ إيران وتيرتها في تطوير السلاح النووي ثم ستتوقف". وختم: "سنقوم بكل ما هو لازم لتحييد هذا التهديد، وسنمارس كامل قوتنا وابتكارنا وتكنولوجيتنا واقتصادنا ضدهم في سبيل بلوغ موقع يمكّننا من التقدّم عليهم بعدة خطوات".
على ضفة السعودية والخليج
لا يقل الخليج عن إسرائيل توجساً بموضوع إحياء اتفاق ٢٠١٥ المعني بالنووي حصراً من دون مقاربة التوغل الإيراني في الإقليم أو موضوع الأسلحة الحديثة من صواريخ دقيقة ومسيرات مسلحة وقاتلة. لم يشكّل هذا الواقع عائقاً أمام دول الخليج، إذ عملت على فتح قنوات حوار مع إيران منذ العام ٢٠١٩.
فقد عقدت السعودية وإيران، بحسب وزراء خارجية البلدين، أربع جولات جادة واستكشافية، وتوقّع وزير الخارجية السعودية الأمير فيصل بن فرحان آل سعود نهاية أكتوبر/تشرين الأول، عقد جولة خامسة على خلفية قطع العلاقات بين البلديْن، منذ الهجوم على البعثات الدبلوماسية السعودية، وحرقها في طهران ومشهد عام ٢٠١٦.
من جهتها، اعتمدت الإمارات العربية المتحدة، منذ يونيو/حزيران ٢٠١٩، تبريد العلاقة المتوترة مع إيران، فقد أوفدت بعثة من خفر السواحل بعد انقطاع دام ٦ سنوات، ثم أوفدت وزير التسامح للمشاركة في حفل تنصيب رئيسي رئيساً من دون أن يشكل "اتفاق أبراهام" عائقاً أو صداً أمام تطوير العلاقات الثنائية.
أما على الضفة العمانية والقطرية، فمن نافلة القول إنّ علاقة البلدين مع إيران لم تنقطع.
أين نقف الآن؟
في الأيام القليلة الماضية، تسارعت اللقاءات الغربية-الخليجية على المستويات العسكرية والدبلوماسية، فبعد يوم واحد من لقاءات أمريكية مع ممثلي مجلس التعاون الخليجي، في السابع عشر من شهر نوفمبر/تشرين الثاني، في الرياض، عُقد لقاء ضمّ إلى جانب الأمريكيين وممثلي مجلس التعاون مصر والأردن من الجهة العربية، وبريطانيا وفرنسا وألمانيا من الجهة الأوروبية.
وفي الختام، صدر بيان يؤشر إلى عودة غير مشروطة للاتفاق السابق، مع إعراب المجتمعين "عن قلقهم وإدانتهم لأنشطة إيران المزعزعة للاستقرار في الشرق الأوسط، بما في ذلك استخدام ونقل الصواريخ الباليستية، والطائرات دون طيار".
تقترب طهران من نقطة إحياء الاتفاق النووي وتقترب بالتوازي من زيادة مخزونها من اليورانيوم المخصّب بنسب تؤدي إلى امتلاك القنبلة النووية. تحت تأثير هاتيْن النقطتيْن، تنطلق جولة لاستئناف المحادثات في التاسع والعشرين من الشهر الجاري، موعد يبدو شديد الأهمية إذا ما بلغ اقتراب العودة أو الانفصال.
فالعودة تعني امتثال إيران لشروط عدم التخصيب، وبالتالي رفع كافة العقوبات التي فرضتها إدارة بايدن. أمّا الفشل فيؤدي إلى تصعيد التوترات في المنطقة لتبلغ نقطة تقارب الحرب الشاملة، التي كما أشار حاجي زادة تعيد إيران ١٠ إلى ٢٠ سنة إلى الوراء، بل تعيد المنطقة برمتها عقوداً إلى الوراء.
بين الاتفاق والحرب الشاملة
نشهد اليوم سباقاً بين الاتفاق والحرب الشاملة، غير أنّ كل عارف بالعقل الإيراني يميل إلى الاعتقاد بأنّ الاتفاق مُكْسِب أكثر بالنسبة إلى إيران. فبعد عقود من بناء قوىً وميليشيات يتفاخر الإيرانيون اليوم بامتلاكهم ستة جيوش تابعة لهم في المنطقة، وعلى الرغم من نتائج انتخابات العراق غير المواتية لحلفاء طهران فإنه لا يمكن تشكيل حكومة من دون مشاركتهم.
وفي لبنان أيضاً، استطاع حزب الله في عام ٢٠١٤ إبقاء الفراغ في الرئاسة الأولى سنتين ونيفاً حتى جاء بمرشحه رئيساً، وبالأمس القريب أوقف عقد جلسات مجلس الوزراء بسبب قضية التحقيق في انفجار مرفأ بيروت.
سورياً، وعلى الرغم من الحديث عن انفتاح عربي، ما زالت البنى التحتية السياسية والأمنية الإيرانية أعمق من أن تُمس. وفي فلسطين المحتلة، يبدو ذراع إيران ماكناً ومتمكناً، أمّا في اليمن فمعركة مأرب ما زالت تدور والحضور الحوثي ما زال شديد الفاعلية.
لن تستغني إيران عن تلك المكتسبات، وبالتالي لن تذهب لنقض اتفاق تريد العودة إليه والبدء بعده بتحديد نقاط النفوذ بالاتفاق أو بالتنازع مع القوى الإقليمية في هذه البقعة المشتعلة من العالم.
بالعودة إلى "إسرائيل"، فلم تقدم قط على شن حرب مباشرة مع إيران، حيث اعتمدت على حروب الواسطة، وجارَتْها إيران في ذلك عبر تنفيذ اغتيالات وافتعال حرائق مفتعلة، وشن هجمات سيبرانية، والتعرّض لسفن في البحار والمحيطات، فيما يتعلّق بردة فعل إسرائيل إزاء العودة إلى اتفاق نووي من دون ضمانات أمنية لها، فهي غير معلومة.
وإلى ذلك الحين، تعمد "الدولة العبرية" إلى تقليد إيران، إذ تمدّد نفوذها إلى الحدود الإيرانية، وتحديداً في أذربيجان والقرن الإفريقي وبحر عمان، ومن خلال اتفاق أبراهام تعزز حضورها على ضفة الخليج المواجهة لإيران. هي الحرب الباردة بين الدولة العبرية وإيران، مع تقدّم احتمال عدم اشتدادها واشتعالها، خاصة في السنوات الأولى للعودة إلى اتفاق نووي لم تستسغه إسرائيل يوماً ولن تفعل.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: opinions@arabicpost.net
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.