لم يكن التهجير وحده منتهى الألم، كانوا في رحلتهم التي ظنوا أنها الأخيرة يأملون في أحلام بدائية؛ موطن وسقف، وحوائط أربعة تضلل عليهم وأولادهم من البرد والعراء.
تتسارع الدول عليهم، على طردهم لا إيواءهم، وتتبادل المنظمات الدولية الاتهامات بشأنهم، وكأنهم حمل ثقيل، اللاجئون السوريون على أعتاب أوروبا، ألمانيا، المجر، بلغاريا، واليونان، كل المناطق الحدودية كانت تعج بهم يوم اندلعت الحرب في بلادهم وحاولوا الهرب من هول البراميل الحارقة وقذائف الطائرات.
أُغلقت الأبواب في وجوههم، لكن بلداناً تدعي الحضارة هكذا فعلت بهم، حين حاولوا اختراق أراضيها بحثاً عن حياة.
اليونان، أرض الحضارة والمجد الإغريقي، أرض أثينا وزيوس وأرسطو وسقراط، كان جوابها على أجساد المهاجرين واضحاً، لا مكان لكم هنا.
جَلْد واعتداءات جنسية
في مارس/آذار من عام 2020 كانت تلك الصور، حين فتحت تركيا الحدود مع اليونان لعبور اللاجئين، كان العالم يشاهد ويصمت، يراهم يعبرون الأنهار في البرد، يصمت، يُجلدون، يموتون فيغرق في الصمت.
تقول المنظمات الحقوقية إن مسلحين على الحدود كانوا يعتقلون طالبي اللجوء ويعتدون عليهم جنسياً، يسرقونهم ويجردونهم من ملابسهم ثم يجبرونهم على العودة من حيث أتوا، من تركيا.
جيش، وشرطة، وقوات خاصة، تطلق الغاز المسيل للدموع عليهم وتمطرهم برصاص مطاطي، هذه الرحلة خضناها معاً، كنا هناك، كامريتنا كانت ترصد العنف الممنهج ذاك، في رحلة استقللنا فيها حافلة اتجهت من إسطنبول إلى أدرنة، حيث الحدود.
محمد كان معنا في الرحلة، كان من المفترض أن يتخذ اليونان بوابة له ليتجه بعدها إلى ألمانيا حيث أسرته، لكنه عاد بعدما ألمَّ الجيش اليوناني به وبمن معه ومنعهم من الدخول.
اعتداءات بصبغة رسمية..
ومهند، تحدثنا إليه لنطمئن عليه بعدما عدنا إلى إسطنبول، فوجدناه في مشفى، عاد هو الآخر وهو يعاني من كسر في الضلع بعدما طُرح أرضاً من جنود يلبسون زياً عسكرياً يحمل علماً يونانياً.
كل الذين قابلناهم قالوا إنه في غضون ساعات من عبورهم النهر على قوارب أو على أرجلهم، اعترضهم رجال مسلحون يرتدون أزياء مختلفة، ما بين مدنية وعسكرية، مكلفين بإنفاذ ما قالوا إنه القانون.
أجهزة تصيب اللاجئين بالصمم..
هذه الرحلة كانت تعج بالنساء والأطفال، النساء والأطفال كلمة السر التي يستخدمها الصحفيون والحقوقيون لشحن العاطفة تجاه قصصهم، لكنها لم تكن تخلق أي فارق هنا، هم أول المستهدفين تحت أقدام الجنود الأوروبيين.
كان الجنود مثالاً حياً للعالم المتحضر، بارعين جداً، فأساليب القمع لم تكن كتلك التي عرفناها في عالمنا العربي، ثمة أجهزة تصدر موجات صوتية قوية، تصم آذان اللاجئين الذين يحاولون العبور إلى الأراضي اليونانية في منطقة مريج على الحدود مع تركيا، نعم تصيبهم بالصمم، تمنعهم من السمع جزاءً بيّناً على ذنبهم، كيف تجرأوا وحاولوا النجاة؟!
من الداخل.. سجن كبير
هذا كله قبل الوصول، أما مَن أدرك منهم لحظة فارقة مكَّنته من العبور فلم يكن بمنأى عن البطش اليوناني، تقول "هيومن رايتس ووتش" إن أكثر من 30 ألف طالب لجوء في اليونان واجهوا صعوبات في الحصول على المواد الغذائية الأساسية والمياه، في الوقت الذي تعمل فيه السلطات اليونانية على بناء أسوار عالية حول مخيمات اللاجئين في أجزاء كثيرة، مما أجبر اللاجئين على العيش في ظروف تشبه السجون.
تفرض أثينا قيوداً على أنشطة المنظمات غير الحكومية التي تعمل على مساعدة اللاجئين، تتهمهم السلطات بأنهم متعاونون مع مهربي البشر، تحظر المؤسسات الإعلامية في جزر بحر إيجة، تقول إن الحظر لأسباب أمنية.