في أغسطس/آب 2021، وصلت المواطن الليبي حكيم نعمة الأنباء التي كان يخشاها منذ اختفاء شقيقه أبو بكر في إحدى الليالي في عام 2019. حدَّدَت اختبارات الحمض النووي أنه واحدٌ من 228 جثة عثرت عليها السلطات الليبية في الحقول المحيطة بمدينة ترهونة، غربي ليبيا جنوب العاصمة طرابلس. عُصبت عيناه وأُطلِقَت عليه عدة رصاصات في وجهه وظهره، بحسب حكيم ولجنة حقوق الإنسان التابعة للأمم المتحدة. يقول حكيم لصحيفة Wall Street Journal الأمريكية: "كانت الكوابيس تراودني كلَّ ليلة. كنت أحلم بأخي".
آثار جرائم ميليشيا الكانيات لا تزال تثير الغضب
وفي وقت اختفاء أبو بكر، سيطرت ميليشياتٌ يقودها شقيقان ليبيان، وهما محمد وعبد الرحمن الكاني، على ترهونة. أسس الشقيقان الميليشيات للاستيلاء على المدينة خلال الفوضى التي أعقبت سقوط الديكتاتور معمر القذافي في عام 2011، وتحالفا لاحقاً مع أمير الحرب المدعوم من روسيا والإمارات خليفة حفتر عندما بدأ محاولته للسيطرة على العاصمة في 2019.
يقول سكَّانٌ ومُحقِّقون تابعون للأمم المتحدة إن الجماعة، المعروفة باسم "الكانيات"، بدأت في اعتقال السكَّان وتنفيذ عمليات إعدام خارج نطاق القضاء كوسيلةٍ لقمع معارضة حكمهم. وقالوا إن عمليات القتل تسارعت خلال حصار حفتر الذي استمرَّ 14 شهراً، عندما استُخدِمَت ترهونة كنقطة انطلاقٍ في الحرب الأهلية.
قدَّمَت روسيا ومصر والإمارات أسلحةً لحفتر ومليشياته، بينما دعمت تركيا عسكرياً الحكومة الليبية السابقة المعترف بها دولياً في صدِّ الهجوم. قُتِلَ ما يُقدَّر بنحو ألفيّ شخص، قبل أن توقِّع الأطراف المتحاربة اتفاق وقف إطلاق النار بواسطة الأمم المتحدة العام الماضي.
بدأت المحكمة الجنائية الدولية تحقيقاً في عمليات القتل، لكنها لم تصدر لوائح اتهام بعد. وفرضت الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي والمملكة المتحدة عقوباتٍ على قادة ميليشيات الكانيات، وقادتها بسبب عمليات القتل في ترهونة.
قضية المقابر الجماعية والتأثير على المسار السياسي
في السياق، يقول مدافعون عن حقوق الإنسان إن تحديد مكان القتلة ومحاسبتهم يمكن أن يساعد في تحديد ما إذا كانت ليبيا تعزِّز عملية السلام الهشَّة أو تنزلق مرةً أخرى إلى دائرة العنف.
العقبات السياسية كبيرة، وحفتر نفسه مُرشَّحٌ في الانتخابات الوطنية الليبية المُقرَّر عقدها في ديسمبر/كانون الأول. وتصف الحكومة عمليات القتل بأنها مسؤولية حفتر.
بجانب الطريق من ترهونة إلى طرابلس، في حقلٍ تصطف على جانبيه أشجار الصنوبر الطويلة، يقوم العمال الذين يستخدمون المجارف لجمع الطين يومياً، تاركين آثاراً بارزة أثناء بحثهم في الأرض بحثاً عن جثثٍ كجزءٍ من تحقيق يقوده المُدَّعون العامون الليبيون في طرابلس. كلُّ أسبوع تقريباً، يعثرون على رفات بشرية أكثر. وفقاً لهيومن رايتس ووتش، أُبلِغَ عما لا يقل عن 338 شخصاً في عداد المفقودين من ترهونة، وعدد سكّانها 40 ألفاً، منذ 2014.
قال عاطف فانون لصحيفة وول ستريت جورنال، وهو ضابط شرطة يبلغ من العمر 35 عاماً، وهو يحرس أحد مواقع التنقيب مؤخَّراً، مُحدِّقاً في إحدى الحفر: "قُتِلَ هذا الرجل في هذه الحفرة".
في قاع حفرةٍ أخرى، كانت هناك كتلة منكمشة من الملابس المُتَّسِخة. وفي قبرٍ آخر، كان هناك مُخطَّطٌ لجسم بالغ آخر، وتشكَّلَ الذراعان على الجانبين على شكل صليب. وفي الجوار، يوجد قبرٌ آخر عليه آثار جثث تسعة أشخاص، دُفنوا جميعاً في صفِّ واحد، ورائحة الجثث المتحلِّلة تفوح في الهواء.
يقول السكَّان والمحقِّقون إن الأخوين كاني مارسا سيطرةً شبه كاملة على ترهونة. تحالفا مع حفتر الذي اعتقدوا أنه سيعزِّز سلطتهم. وفقاً للسكَّان، كان الأخوان يحتفظان بالأسود كحيواناتٍ أليفة لتسلية أنفسهم.
جاءت أسوأ عمليات التطهير مع توقُّف هجوم حفتر في أوائل 2020، كما تقول أسر الضحايا، قبل أن يسحب قواته من المنطقة التي تطوِّق طرابلس.
قال حمودة الحمالي، من سكَّان ترهونة سابقاً، وفَقَدَ 14 من أقاربه في عمليات القتل: "كانا يحاولون محو الأسرة بأكملها حتى لا يلاحقهم أحد في المستقبل".
وأضاف الحمالي أن شقيقه البالغ من العمر 80 عاماً واثنين من أبناء أخيه، وكلاهما في الأربعينيات من العمر، اختفوا في يونيو/حزيران 2020 وعُثِرَ عليهم في المقابل الجماعية في وقتٍ لاحق من ذلك العام. تعرَّف على شقيقه بعد أن رأى قطعةً من ملابسه وحبلاً مُخطَّطاً بالأبيض والأسود.
البحث عن العدالة الضائعة في ليبيا
تقول وول ستريت جورنال، إن الوصول إلى أفراد عائلة كاني وميليشيات الكانيات تعذَّر للتعليق. والآن، بعد أن عرف نعمة مصير شقيقه، فهو يبحث الآن عن العدالة. إنه يقود جمعيةً لعائلات الضحايا للضغط على السلطات الليبية والحكومات الأجنبية لمحاسبة القتلة. فَتَحَ المُدَّعون العامون في طرابلس تحقيقاً في عمليات القتل وأصدروا مذكِّرات توقيف بحقِّ الأخوين كاني وأعضاء آخرين من مجموعتهما، الذين فروا إلى شرق ليبيا مع قوات حفتر في يونيو/حزيران 2020.
وتتَّهِم أسر الضحايا وجماعات حقوق الإنسان حفتر بحماية الميليشيات، بما في ذلك ميليشيات الكانيات. لكن جيشه أدان عمليات القتل، زاعماً دون تقديم أيِّ دليل أن الجرائم المروعة هذه وقعت عندما كانت الميليشيات متحالفةً مع حكومة طرابلس، على حد تعبيرهم.
وحتى الآن، لم يُعتَقَل أحد، رغم أنه كانت هناك محاولةٌ واحدة على الأقل لتنفيذ مذكرة توقيف، وفقاً للشرطة في شرق ليبيا. وقال مسؤولون إن محمد الكاني، قُتِلَ في تبادلٍ لإطلاق النار. ولم يرض موته نعمة، الذي قال: "لا نريد الانتقام. نريد العدالة من خلال القانون".