في مارس/آذار 2016، زار العاهل المغربي محمد السادس، روسيا بدعوة من حاكمها فلاديمير بوتين، تحدَّث الجميع في الرباط عن أن عهداً جديداً في العلاقة بين البلدين قد بدأ، وأن المغرب بعد توقيع 15 اتفاقية تعاون نجح في محاصرة الجزائر من خلال صداقة حلفائها التقليديين.
مرت سنوات قليلة، استفاقت معها المنطقة المغاربية على خلاف غير مسبوق، وتصعيد دبلوماسي بين الرباط وموسكو، يحاول طرفاه التحكم في منحنى صعوده، لكنهما فشلا لحدّ الآن في توقيفه.
غضب الرباط الهادئ على موسكو
علِم "عربي بوست" من مصادر خاصة، أن المملكة المغربية اختارت إدارة الأزمة الحالية مع روسيا بهدوء بعيداً عن الإعلام، وهو اختيار تُخالف فيه الرباط طريقة إدارتها أزمتيها الخارجيتين مع كل من إسبانيا وألمانيا.
وتابعت المصادر، أن إدارة الأزمة مع روسيا خاضعة لظروف بالغة التشديد في تداول المعلومات والقرارات، وذلك بسبب ما وصفته المصادر برغبة الرباط في تجاوز سوء الفهم بين البلدين.
وتابعت أن قناعات الرباط ظهرت من إحجام الصحافة المحلية عن الحديث عن أزمة المغرب مع روسيا، إذ لم تكتفِ الرباط بتجنُّب إعطاء تصريحات أو تعليقات، بل حتى في الدعوة إلى عدم التعليق على تطورات الأزمة.
وشهد الشهران الأخيران سلسلة من القرارات التي اتخذتها روسيا في إطار علاقتها مع المغرب، ردَّت عليها الرباط بإجراء مضادٍّ واحدٍ، إذ كشفت تلك الإجراءات وجود أزمة عميقة بين البلدين.
مصادر "عربي بوست" أكدت أن الرباط متشبّثة بصداقتها مع روسيا، بدليل توقيع 15 اتفاقية بحضور رئيسي الدولتين، وتريد الانتقال إلى مزيد من التعاون بينهما، لكن هذه الرغبة لم تلقَ التجاوب المطلوب من الطرف الآخر.
وزادت أن الخلافات بين الطرفين ترجع لعدم تجاوب روسيا مع طلب توضيحات مغربية بخصوص سلسلة تطورات عسكرية وسياسية وأمنية انخرطت فيها موسكو على حدود المغرب.
وسجلت أن الرباط حريصة على التفاعل وفق الطرق الدبلوماسية، بعيداً عن التصعيد والإثارة، لكن محاولاتها لم تجد صدىً لحدّ الساعة من طرف الكرملين.
حرب باردة
المصادر المغربية ذهبت إلى أن السبب المباشر لتفجير الأزمة بين البلدين، كان زيارات مباشرة للجزائر قام بها عدد من كبار المسؤولين العسكريين الروس؛ من أجل حسم ملف القاعدة البحرية الروسية في مدينة وهران على الحدود المغربية.
وكان موقع "Algerie Part" قد كشف في أبريل/نيسان 2021، أن بعثتين عسكريتين روسيتين نفذتا، خلال الأشهر الثلاثة الماضية، زيارات سرية نحو غرب مدينة وهران في الجزائر؛ من أجل تدارس مشروع إنشاء قاعدة بحرية روسية.
ملف القاعدة البحرية كان موضوع اتفاق بين الجزائر وموسكو في 2018، غير أن الجزائر انشغلت عنه بالحالة الصحية للرئيس الراحل بوتفليقة، وبعدها بالحراك الشعبي، قبل أن يدفع الاعتراف الأمريكي بمغربية الصحراء موسكو والجزائر إلى إحياء التفاهمات.
مسألة أخرى اعتبرت مصادر "عربي بوست" أنها تمثل النقطة التي فاضت بها الكأس، وهي مشاركة غواصات روسية في مناورات بحرية عسكرية جزائرية، على الحدود مع المغرب الشهر الماضي.
وكان الجيش الجزائري قد نفذ الأربعاء 29 سبتمبر/أيلول الماضي، مناورة بَحرية بمشاركة غواصات جزائرية وروسية. المناورة التي نقلها التلفزيون الجزائري، جرت بقاعدة "مرسى الكبير" البحرية، وأشرف عليها قائد أركان الجيش الفريق سعيد شنقريحة، وقائد القوات البحرية اللواء محفوظ بن مداح.
وتعد قاعدة "مرسى الكبير"، أكبر قاعدة بحرية في الجزائر، وتقع بسواحل مدينة وهران، وتغطي سواحل متاخمة للحدود مع المغرب.
المصادر المغربية ذهبت إلى أن هذه المناورات استُعملت فيها صواريخ لإصابة أهداف برية من البحر، وهي تكنولوجيا لم تكن تتوفر عليها الجزائر، وحصلت عليها من روسيا.
ملفات حارقة
"عربي بوست" في إطار بحثه عن أسباب تطورات الأزمة بين الرباط وموسكو، وقف على ملفين آخرين لهذا الخلاف، أولهما بحسب المصادر، وجود مرتزقة فاغنر الروسية في مالي، جنوب المغرب.
وتابعت المصادر، أن المغرب متخوف من استعمال مرتزقة "فاغنر" سواء من طرف الجزائر أو عناصر البوليساريو في عملياتها، أو نقل أسلحة "فاغنر" إلى البوليساريو.
وكانت حكومة الانقلاب العسكري في مالي قد أعلنت في الشهر الماضي، تعاقدها مع شركة فاغنر الروسية، في إطار حربها على الحركات الانفصالية، والجماعات الإرهابية بالشمال، لتعويض القوات الفرنسية التي شرعت في الانسحاب عسكرياً من مالي.
وأفادت المصادر ذاتها أن ملفاً خلافياً آخر بين الرباط وموسكو، يتمثل في موضوع أنبوب الغاز بين المغرب ونيجيريا، المتجه إلى أوروبا، فروسيا والجزائر متخوفتان من منافسة الغاز الإفريقي في السوق العالمية.
ورغم بطء تنفيذ أنبوب الغاز نيجيريا-المغرب وصعوبته، فإن البلدين يؤكدان في كل مرةٍ أنهما يتقدمان في تنفيذه، وأنهما بصدد وضع اللمسات الأخيرة على المشروع.
هذا واتفق العاهل المغربي محمد السادس، والرئيس النيجيري محمد بخاري، في ديسمبر/كانون الأول 2016، في العاصمة أبوجا، على إنشاء أنبوب الغاز، الذي يُتوقع مروره عبر 11 دولة، هي: بنين، وغانا، وتوغو، وكوت ديفوار، وليبيريا، وسيراليون، وغينيا، وغينيا بيساو، وغامبيا، والسنغال، وموريتانيا، ثم المغرب، ويمتد الأنبوب بطول 5660 كم، وينتهي في أوروبا.
كيف حصلت الأزمة؟
في فاتح سبتمبر/أيلول 2021، فرضت روسيا قيوداً جديدة على المسافرين القادمين من المغرب، حسب الفقرة الـ13 من شروط دخول روسيا، فإنه خلال جائحة كورونا، يُشترط على المغاربة الراغبين في دخول روسيا، السفر عبر رحلات مباشرة، أو عبر بيلاروسيا، حصراً.
بعد ذلك بشهر جاء الرد المغربي، إذ أبلغت الرباط السفارة الروسية أن السلطات المغربية علَّقت الرحلات الجوية المنطلقة من أراضيها مباشرة إلى روسيا بداية من الثلاثاء 5 أكتوبر/تشرين الأول الجاري.
جواب روسيا جاء سريعاً، حيث أخبرت موسكو الجامعة العربية، الخميس 14 أكتوبر/تشرين الأول، بضرورة تأجيل مؤتمر منتدى التعاون الروسي-العربي على مستوى وزراء الخارجية يوم 28 أكتوبر/تشرين الأول الجاري، والذي كان مقرراً أن تحتضنه الرباط.
الأخبار الروسية أرجعت الأمر إلى عدم مطابقة الاجتماع مع أجندة وزير الخارجية سيرغي لافروف، ودعت إلى تأجيله إلى أجل غير مسمى.
خطوة ثالثة قررتها روسيا ضد المغرب، تجلَّت في قرار سحب رعاياها من الرباط.
وأعقبت موسكو ذلك بقرار سحب سفيرها يوم الجمعة 15 أكتوبر/تشرين الأول الجاري، وهو ما فسرته بظروف قضاء العطلة.
ويسود اعتقاد لدى المراقبين المغاربة بأن زيارة العاهل المغربي لموسكو في 2016 لم تفلح في إغراء روسيا بالتقارب مع الرباط، كما أن التحولات الجيوستراتيجية التي يعيشها العالم دفعت روسيا إلى البحث عن مصالحها دون مراعاة مصالح المغرب.