"لن أنتظر 10 ساعات على محطة الوقود، لن أفعلها".. كررها جوزيف زيدان، الموظف في إحدى شركات بيروت، وهو ينتظر البائع لإعطائه الدراجة الهوائية؛ كي يستأجرها بهدف إنهاء عمله الذي يتطلب القيام بجولة على الزبائن؛ لكونه مدير تسويق.
وجوه الناس وهي تنتظر أمام محطات الوقود لملء سياراتهم شاحبة، يكسوها التعب والإرهاق وبعدها الانفراج، في حال تمت العملية بنجاح.
ومن هنا، رأى البعض أنه لا بد من إيجاد بعض الحلول المؤقتة لتفادي المأساة التي يتعرضون لها، فكان اللجوء إلى الدراجات الهوائية الحل الأنسب.
عمار مرحبا، المهندس في إحدى الشركات بمدينة طرابلس، يضطر أيضاً إلى تبديل استخدام السيارة لاستخدام الدراجة الهوائية للذهاب إلى عمله ومتابعة بعض المشاريع والأعمال، لأن الانتظار على المحطات بات أمراً مضيعاً للوقت.
وفقاً للمهندس "مرحبا"، فالدراجة الهوائية ستصبح حلاً أساسياً في المرحلة المقبلة لكل الناس طالما أن هناك أزمة وقود وغلاء فاحش وسوق سوداء لبيعها بأضعاف سعرها، لذا فإن الناس بدأت تقبل على شراء الدراجات الهوائية، لأن الواقع بات صعباً على الموظفين وأصحاب الدخل المحدود.
"لن أقف في طوابير الذل اللبنانية، ولن أشتري البنزين من السوق السوداء؛ كي لا أكون مساهماً في رواجها"، هكذا يكمل المهندس وسيم ناغي.
وفقاً للناغي فإن مدينته صغيرة وشوارعها معروفة ومعظمها مسطحة والشوارع شبه فارغة من السيارات، ما يسمح بقيادة الدراجات الهوائية داخلها بأمان، وهي تعتبر رياضة وقضاء للحاجة بطريقة أسرع، في ظل زحمة السير الخانقة في أوقات الذروة خلال النهار.
سعر البنزين خيالي
مع رفع الدعم التدريجي عن المحروقات، يرتفع سعر صحيفة البنزين بطريقة مهولة، فآخرها كان ارتفاع سعر الصحيفة من 174 ألف ليرة لبنان إلى 202 ألف ليرة لبنانية لشعب مازال حده الأدنى للأجور 600 ألف ليرة.
ومع بداية ارتفاع الأسعار، لجأ جوزيف زيدان إلى فكرة استئجار دراجة هوائية يومياً أو عند الحاجة، يؤكد جوزيف لـ"عربي بوست" أنه يوفر مادياً مع استخدامه الدراجة الهوائية، إذ قال: "أصبح سعر صحيفة البنزين 200 ألف ليرة، وسيارتي بحاجة إلى 3 صفائح كي تمتلئ، أي ثلث معاشي"، هذا المبلغ سيضطر إلى دفعه أسبوعياً، أي أنه سيصرف كل راتبه على البنزين. في المقابل، تكلفة استئجار الدراجة الهوائية شهرياً لا تتعدى 400 ألف ليرة لبنانية، لأن تكلفة الساعة الواحدة 5 آلاف ليرة لبنانية فقط، أما اليوم الكامل، فيقدر بـ30 ألف ليرة.
في الحالتين، يكون جوزيف قد وفر ما يزيد على مليوني ليرة لبنانية، ويعتبر أن عائلته أولى بهذا المبلغ.
حال المحامي روجيه مسكاوي كما حال جوزيف، ولكن روجيه يتنقل من أدما إلى جونيه يومياً نحو مكتبه، أي مسافة تعادل 6 كيلومترات، تستغرق نحو 40 دقيقة من يومه، يوضح روجيه لـ"عربي بوست" أنه ليس مجبراً على الانتظار أمام محطة الوقود طالما البديل موجود، كما أنه شدد على أنه لا يعتمد سياسة "الواسطة"، أي لا يدفع رشوة أو يدخل على المحطة ويملأ سياراته ببضع دقائق بينما هناك من ينتظرون من الصباح الباكر وهم أحق منه.
التلاميذ: إما الدراجة الهوائية وإما السير على الأقدام
مع بداية العام الدراسي في الجامعات وعودة الحياة إلى طبيعتها بعد جائحة كورونا وغياب التعليم لمدة سنتين، وقع على لبنان العديد من المتغيرات والأحداث وأهمها أزمة الوقود سابقاً، كان معظم التلاميذ يتنقلون إما بسياراتهم، وإما بالنقل المشترك.
اليوم، اختلف الوضع، فحتى النقل المشترك أصبح مكلفاً، إذ المبلغ لا يقل عن 80 ألف ليرة يومياً ذهاباً وإياباً. لذا، يروي الطالب الجامعي أحمد العبد معاناته لـ"عربي بوست"، الذي يسكن في ضواحي بيروت، ففضلاً عن الانتظار لعدة ساعات والبحث عن سيارة أجرة، إذا وجد فالتكلفة مرتفعة وهو تلميذ لا يعمل، أي ليس له أي راتب خارجي.
سعياً وراء حل جزئي، قام أحمد باستخدام النقل المشترك الأقل تكلفة من سيارة الأجرة، ولكن مازال يدفع المبلغ شهرياً كي يتمكن من الوصول إلى الجامعة اليوم، لجأ أحمد إلى الدراجة هو الآخر.
كوركان بابازيان، أيضاً طالب في الجامعة اللبنانية الأمريكية، وكان يستخدم سيارة الأجرة يومياً للتنقل من المنزل وحتى الجامعة والعكس صحيح. لكن الضائقة المادية التي نتجت عن الأزمة الاقتصادية وانهيار سعر صرف الدولار يقابلها حفلة ارتفاع في الأسعار وغلاء المعيشة، لم تسمح له الاستمرار بهذه العادة. فاشترى دراجة وأصبح يتنقل عليها، ولكن بسبب اختصاصه الذي يتطلب العديد من الأدوات المطلوبة للتصوير، يستصعب أحياناً نقلها على الدراجة. عندما يحصل ذلك، إما يحضر إلى الجامعة سيراً على الأقدام، أو يعود إلى عادته القديمة ويستعين بسيارة الأجرة أو النقل العام.
محلات الدراجات: زادت الإيجارات
متجر صغير على جانب طريق الجميزة في بيروت، مكث بالمدينة أكثر من ثلاثين عاماً وهو يسترزق من محل الدراجات الهوائية، زادت إيجاراته للدراجات الهوائية بعدما فتح الستار عن أزمة المحروقات وبدأت تشتد.
محمد علي، وهو موظف في المحل،أكد لـ"عربي بوست"، أن نسبة الإيجارات ارتفعت بشكل ملحوظ منذ بداية الأزمة. فقال محمد علي إن المواطنين يترددون بشكل يومي لأخذ الدراجات إما لوقت محدود، ساعتين أو ثلاث، أو ليوم كامل، مشيراً إلى أن المعدل في اليوم الواحد قد يصل إلى 50 دراجة هوائية.
وتابع بالقول إن الأسعار لم تتغير حتى مع انهيار الليرة اللبنانية أمام الدولار الأمريكي، فالساعة مازالت بـ5 آلاف ليرة لبنانية، أي ما يعادل 0.31 سنت حسب سعر الصرف الحالي، مؤكداً أن شراء الدراجات الهوائية وأدواتها بالدولار الأمريكي.
أما من ناحية الشراء، فيشير المتحدث إلى أن هناك تراجعاً كبيراً، إذ يفضل الناس الاستئجار؛ لكونه أقل تكلفة ويقضي الحاجات المستعجلة، في حين أن الشراء يجب أن يكون بالدولار.
مخاطر التجول على الدراجة في لبنان
رغم سهولة التنقل على الدراجة الهوائية في بيروت وحسناتها من تفادي الزحمة الخانقة خلال أيام الأسبوع، فإن الطرقات في لبنان ليست آمنة.
يتفق المتحدثون أن ما يصعّب مهمتهم هو عدم وجود أي قانون للدراجات الهوائية، إضافة إلى الافتقار إلى خطوط المرور على جوانب الطريق التي تسمح لهم بالتنقل بأريحية دون قلق. إضافة إلى ذلك، السائقون لا ينتبهون لسائقي الدراجات الهوائية، بحسب جوزيف زيدان، فرغم أنه يأخذ كل احتياطاته ويستخدم الأرصفة قدر المستطاع، فإنه يخشى أن يتعرض لحادث، بسبب عدم انتباه السائقين له.
مبادرات مدنية وشبابية
في مدينة طرابلس الشمالية يروي نذير حلواني، البالغ من العمر 34 عاماً، والذي كان يحلم منذ أكثر من 10 سنوات بتحويل مسقط رأسه طرابلس إلى مدينة صديقة للدراجات الهوائية.
ورغم أن هذه الرؤية قد تبدو بعيدة المنال في ظل التمدد العمراني للمدينة ذات الكثافة السكانية العالية، فإن شوارعها المسطحة التي تعود إلى قرون، والمُصممة في البداية لسير الخيول والمسافات القصيرة بين طرقاتها، تُسهل سير الدراجات في معظم أنحاء المدينة.
يقود حلواني مع رفاقه في مبادرة شبابية، جهوداً مع بلدية المدينة التي ترحب بهذا المشروع وذلك بهدف إنشاء ممرات للدراجات في المدينة ونشر ثقافة استخدام الدراجات الهوائية، باعتبارها وسيلة من وسائل النقل السهلة الصالحة لمعظم الانتقالات داخل المدن.
يقول حلواني إنه كان يواجه صعوبة في إقناع المواطنين في مدينته بالبدء في استخدام الدراجات الهوائية وسيلة للنقل، بدلاً من السيارات. قد يكون حلواني فشل سابقاً في إقناع مواطني طرابلس بالتحول إلى الدراجات الهوائية، لكن الأزمة الاقتصادية الطاحنة في لبنان والارتفاع المستمر في تكاليف الوقود جعلا مستقبل ركوب الدراجات يبدو بديلاً ممكناً اليوم أكثر من أي وقت مضى وبدأت تصبح ثقافة عامة داخل مدينته.