خلال الأسبوع الحالي، أقدم وزير الصحّة اللبناني في حكومة تصريف الأعمال حمد حسن على مداهمة عدد من المستودعات، منها المرخّص ومنها غير المرخّص، التي كانت تخزّن الأدوية المستوردة من شركات الأدوية، ولكنّها مقطوعة عن الأسواق
نقيب الصيادلة: التخزين ليس المشكلة
تخزن المستودعات كميّات كبيرة تكفي أكثر من 100 ألف عائلة لبنانية في ظلّ الأزمة الحاليّة التي تسود، وتنعكس سلباً على الصيدليات التي إمّا تؤمّن أعداداً محدّدة من الدواء، أو تقفل أبوابها.
أمّا نقيب الصيادلة غسّان الأمين، المقرّب من حزب الله، فيصوّب أصابع الاتّهام نحو حاكم مصرف لبنان رياض سلامة الذي، بحسب قول الأمين، يمتنع عن فتح الاعتمادات للشركات من أجل استيراد الكميّة المطلوبة من الأدوية.
يشرح الأمين لـ"عربي بوست" أنّ خلال عام واحد، يستورد لبنان كمية من الأدوية بقيمة مليار و600 مليون دولار أمريكي مقسّمة على 4 أشهر، أي كل 4 أشهر يقدّم مصرف لبنان سلفة للشركات وقدرها 400 مليون دولار أمريكي.
فخلال الأزمة، وخصوصاً الثلاثة أشهر التي مضت، امتنع مصرف لبنان عن فتح الاعتمادات، ولذلك لم تستورد الشركات الموزّعة، وهذا ما يسبّب شّح الأدوية في السوق، إن كانت المستعصية أو غيرها.
وعن التخزين، يعتبر الأمين أنّه لا يشكّل لبّ المشكلة، لأن بحسب ما قاله لـ"عربي بوست"، فإنّ الكميّات التي كشفت تقدّر فقط بـ100 مليون دولار، وبالتّالي لا تضع حدّاً للأزمة، لأنّ هذه الكميّات، نظراً لقيمتها الماديّة مقارنة بإجمالي استيراد العام الكامل، ضئيلة جدّاً، علماً أنّ ما يتم مداهمته عيّنة صغيرة عن المستودعات الأخرى التي قد تخزّن بالملايين أيضاً.
لذا، يصرّ الأمين أن أساس المشكلة، والتي يجب أن تُحل، هي من طرف مصرف لبنان فسياسة فتح الاعتمادات من قبل مصرف لبنان للشركات المستوردة للأدوية تقضي باستيراد الأدوية وبعد 5 أشهر تقريباً يقوم مصرف لبنان بتسديد المبلغ المطلوب.
أما وقد اشتدّت الأزمة وبعدما صرّح سلامة أنّه لن يستطيع بالاستمرار في خطّة الدعم ودفع المستحقّات وفتح الاعتمادات، فقد توجّه بعض المستوردين والموزّعين إلى تخزين هذه الأدوية إلى حين رفع الدّعم بهدف تحقيق الأرباح المالية المضاعفة.
الحزب الأيادي الخفية في كل معضلة
وفق مصدر سياسي في المعارضة اللبنانية يؤكد لـ"عربي بوست" أن جهات معارضة أجرت تحقيقات مباشرة واستمعت لشهود متابعين لملف تخزين الأدوية يؤكدون تورط حزب الله في خلفية احتكار الأدوية في السوق اللبنانية، ويرى المصدر أن الحزب يود في المرحلة القادمة استيراد الدواء الإيراني والسوري وتوزيعه في الأسواق كبدائل عن الأدوية المستوردة على السعر المدعوم.
يرى المصدر أن الحزب يسعى من وراء تسهيل احتكار وتخزين الأدوية لممارسة التخزين الاستراتيجي كما يفعل بالمحروقات والمواد الغذائية على حساب الناس عبر نقل جزء أساسي من الأدوية إلى سوريا وإبقاء الباقي في مناطق نفوذه، وهذا ما يبدو من خلال ما يجري من وجود أدوية مختفية في باقي لبنان، فيما يمكن الحصول على الأدوية عبر "واسطة" مع احد كوادر الحزب وتأمينهم من صيدليات ومراكز استلام الأدوية التي تقع في مناطق تحت سلطة حزب الله.
وعن حملات المداهمة التي تجري من قبل الأجهزة الأمنية مخازن الدواء، يرى المصدر أن الناس لم تعد تُحْتمل بسبب نقص هذه المواد الأساسية وتلاعب المحتكرين بالأسعار بشكل واضح، من غير المستبعد أن تكون القوى الحاكمة قد ارتأت التضحية ببعض "رجالها" من المحتكرين، بهدف تجنب انفجار اجتماعي وشيك.
وهكذا، تكون قد أوكلت إلى الجيش والقوى الأمنية مهمة مداهمة بعض "المخازن" المحتكرين وإلقاء القبض عليهم. خطوة كهذه، من شأنها ربما التخفيف من حدة النقمة الشعبية وإرضاء الناس نسبياً ومؤقتاً، لاسيما بعد قرار حاكم مصرف لبنان، رياض سلامة، برفع الدعم. لكنها تبقى موضع شك ونقد طالما أن هناك شركات احتكارية كبيرة في قطاع الأدوية أو المحروقات.. لا تزال حرّة طليقة، وكأن هناك إجماعاً بين القوى السياسية على عدم المسّ بالمحتكرين الكبار.
حلقة مفرغة
المستودعات المخزّنة ليست بمجملها تابعة مباشرة لشركات الأدوية، فبعض الشركات تقوم على توكيل أشخاص مختصّين، أي يجب أن يكونوا صيادلة، وتكلّفهم بتوزيع الأدوية بالأعداد المدرجة والمطلوبة على الصيدليات، لأنّ الشركات الكبيرة تقوم بجولتها على الصيدليات مرّة في الشهر تقريباً. لذا، كي لا يحصل أي تقصير في التوزيع أو خلّل، فتكلّف الموزّعين الذين يجب أن يرخّصوا مستودعاتهم.
وهنا حصل الخلّل، والذي فتح شهية الموزّعين على التخزين، خصوصاً في ظلّ غياب الدولة والمراقبة.
يعتبر الصيدلي الدكتور سهيل الغريب أنّ هذه المسألة تحوّلت إلى تجارة، يؤكّد لـ"عربي بوست" أنّ الأدوية المدعومة، التي تستورد على سعر الصرف الرسمي لدى مصرف لبنان وهو 1500 ليرة لبنانية.
ويضيف الغريب أنّ التجارة توسّعت لتشمل أشخاصاً يجولون على الصيدليات بهدف شراء أدوية معيّنة ومن ثمّ بيعها إلى "مافيا" مختصّة تقوم بتصدير الدواء المدعوم إلى الخارج بغية الرّبح.
الأمر لا يتوقّف عند هذا الحدّ، فمن الممكن أن تشترى الأدوية وتباع لاحقاً في السّوق السوداء، أو تعرض على الصيدليات بمبلغ مضاعف.
ويشير الغريب إلى أنّ التخزين مركزه تجّار الجملة الذين يشترون الدواء من وكيل الشركات، حيث إنّ التواصل يتمّ بشكل يومي مع المستودعات. هنا، يؤكّد الغريب أن المستودعات مليئة بالأدوية وأصحابها ينتظرون رفع الدعم.
والدليل على مليء المستودعات، بحسب الغريب، هو حينما يأتي صاحب المستودع بالأدوية ومكتوب على علبة الدّواء السعر القديم، أي المدعوم، ويبيعها التاجر للصيدلية على سعر الصرف 13500 ليرة لبنانية.
كما أوضح الغريب أنّ بعض التجّار قاموا بتسليم كميّات كبيرة من الأدوية إلى صيدليات كبيرة لكن دون فواتير، ويقدّر ثمنها بحوالي 200 إلى 300 مليون ليرة لبنانية، ويشدّد الغريب على أنّ هذه الأدوية مقطوعة بشكل نهائي من السّوق، لكن توزّع فقط على صيدليات كبرى قد يكون لها غطاء سياسي.
الأحزاب يرعوْن التخزين
اثنان من المستودعات التي داهمها وزير الصحّة حمد حسن تابعان لشخصيات أعضاء في أحزاب وتيّارات على سبيل المثال، "الحاج" عصام خليفة والذي يملك صيدليّة وصاحب مستودع Newpharm، ويتبع لحزب الله.
ورغم تعبير جمهور الحزب عن استيائهم من خليفة عبر مواقع التواصل الاجتماعي، فإنّه لم يتم توقيفه.
في مقابلة تلفزيونيّة، قال حسن إنّ خليفة تعهّد له أنّه سيوزّع الأدوية على الصيدليات، وأضاف أنّه صحيح كان يخزّن بكميّات كبيرة، إلاّ أنّه كان يعطي بأعداد قليلة من هم بحاجة.
الناس يعانون: الدواء مهما كان ثمنه
ونظراً للانقطاع المستمر للأدوية في الصيدليات اللبنانيّة بسبب التخزين والتهريب وعدم فتح الاعتمادات، ونظراً لعدم تقديم الدولة اللبنانيّة متمثّلة بالحكومة أي حلّ لهذا الموضوع، رأى اللبنانيون أنفسهم يلجؤون إلى حلول بديلة.
ميرنا محفوظ اعتادت أنّ تؤمّن الدّواء لوالدتها التي تعاني من مرض مستعصي في الدّعم قبل شهر من انتهاء العلبة، وجدت نفسها هذه المرّة مربكة، فالدّواء وللمرّة الأولى، غير متوفّر.
حاولت التواصل مع الصيدلية التي تتعامل معها، وهي من أكبر صيدليات لبنان، لكّن أكّدوا لها أن هذه المرّة المشكلة معقّدة ولا يوجد حل إلا باستيراده من الخارج.
ولكن ميرنا سعت للتواصل نفسها مع الشركة الأم للدواء، فأكّدت المندوبة أن الحلّ بيد مصرف لبنان الذي يمتنع عن فتح الاعتمادات ويصرّ على رفع الدّعم عن هذه الأدوية إلى حين وجود حلّ للمشكلة، لن تتمكّن الشركة من التوزيع على الصيدليات، علماً أن إمكانية تخزين هذا الدواء مستحيلة، لأنّه يطلب على أسماء المرضى.
لذا، لجأت ميرنا إلى الحلّ الأخير، وهو جلب الدواء عبر أصدقاء لها في تركيا، علماً أن تكلفته عالية، ويجب أن تدفع بالدولار الأمريكي نقداً، لا بالليرة اللبنانية.