في الجانب الحكومي اللبناني تبدو الصورة سوداوية مع التخبّط الذي يحتجز تأليف الحكومة وعَطّله منذ اللقاء الأخير بين رئيس الجمهورية ميشال عون والرئيس المكلف نجيب ميقاتي، وبَدّد كل الإيجابيات التي حكى عنها الرئيسان، وأشعرا اللبنانيين حينها أن ولادة الحكومة باتت مسألة ساعات أو أيام قليلة.
حتى الآن لم يخرج عن شريكَي التأليف ما يَشي بأنّ الأمور مقفلة بينهما، بل على العكس، فرئيس الجمهورية أمِل أمام زُوّاره أن تحمل الأيام المقبلة تطورات إيجابية على صعيد تشكل الحكومة لإطلاق ورشة التعافي على كل المستويات، فيما أوساط الرئيس المكلف ما زالت تؤكد أنه ماضٍ في مهمته، وصولاً إلى تشكيل حكومة من فريق عمل بحجم المرحلة يضع الأزمة على سكة المعالجة والإنقاذ، فيما احتمال الاعتذار إذا ما شَعر الرئيس المكلف أنه اصطدم بحائط مسدود سيكون على الطاولة، بالتشاور مع رؤساء الحكومات السابقين والرئيس نبيه بري.
في الضفة الأخرى لا يزال مستمراً النقاش المفتوح مع إعلان أمين عام حزب الله إدخال قافلة نفط إيرانية إلى لبنان، ما دام الوضع في البلاد يدعو إلى ذلك. ونصر الله القائل إن هذه المحروقات مهمتها تخفيف المعاناة، وليس إيجاد الحلول النهائية. وهذا وفق المطلعين في حد ذاته طرحٌ سياسي يستند إلى مبدأ لجوء الحزب إلى سد بعض الثغرات التي تسببت بها الأزمة المالية والاقتصادية والسياسية في لبنان، والتي يعتبر الحزب شريكاً رئيسياً فيها.
والحزب ووفق سردية المحنة والمواجهة يوصف الأزمة على أنها حصار أمريكي يتعرض له لبنان لاختياره مبدأ المواجهة لإسرائيل. والنقطة الأساسية التي يمكن التركيز عليها هنا أن هذه السفن الإيرانية قد تتوقف ما دام يتوفر مخرج سياسي يبدأ بتشكيل حكومة، تسعى إلى تخفيف المعاناة والحدّ من الأزمة.
والسؤال الأهم المتعلق بالسفينة الإيرانية وتحديداً في الشق السياسي، أنه إذا كانت حكومة حسان دياب المستقيلة لا تتحمل تغطية الباخرة هل سيتحمل رئيس الحكومة المكلف نجيب ميقاتي مسؤولية تغطية خطوة حزب الله؟ فالجواب سيكون لا، وخصوصاً أن خصوم ميقاتي يتربصون به، وأولهم رئيس تيار المستقبل سعد الحريري، الذي لا يترك مناسبة إلا ويعبر فيها عن موقف ضمني رافض لأن تتألف حكومة إلا برئاسته، وما دام أن ذلك متعذر، فإنه لا يتمنى لميقاتي أن ينجح بالتأليف، ولو بشروط أفضل من تلك التي كان يسعى إليها الحريري نفسه.
والأساس في المشهد النفطي وحفلة التحدي التي يمارسها حزب الله أن النفط الإيراني تشمله العقوبات الأمريكية، وأي استثناء يحتاج إلى موافقة وزارة الخزانة الأمريكية، كما هو حال بعض الاستثناءات التي حصل عليها العراق من الإدارة الأمريكية لشراء الغاز الإيراني.
وحزب الله الممسك بخيوط الدولة اللبنانية يدرك أن الذهاب نحو المبادرة الأمريكية لاستجرار الكهرباء من الأردن تطاله عقبات سياسية ولوجستية، كتأهيل شبكات النقل في سوريا، ومالية، خاصةً إذا رفض البنك الدولي الموافقة على تمويل مشروع دون حكومة إصلاحات يجري انتظارها منذ سنة.
دولياً تركز الولايات المتحدة حضورها اللبناني في إطار استراتيجية معالجة الأزمة اللبنانية بالتوازي مع حل الملف السوري مع روسيا وتركيا والقطريين، لكن الانهيارات المتسارعة في لبنان توحي أن هناك انهياراً قادماً لكل ما تبقّى من هيكل الدولة اللبنانية. بالإضافة إلى الأحداث الأمنية المتتالية بدءاً من مناوشات الجنوب بين حزب الله وإسرائيل كإحدى رسائل إيران على طاولات فيينا ومسقط، مروراً بأحداث عكار وطرابلس والواقع الصعب للأجهزة الأمنية، التي أطلقت صرختها منذ أشهر.
وهذا ما جرى نقاشه مع زيارة رئيس الاستخبارات المركزية الأمريكية وليم بيرنز إلى لبنان الأسبوع الفائت، كخطوة مفاجئة غير معلنة، قادماً من إسرائيل، والتقى فيها قائد الجيش جوزيف عون، والمدير العام لقوى الأمن الداخلي عماد عثمان، والمدير العام للأمن العام اللواء عباس إبراهيم، فيما تحمل هذه الزيارة أبعاداً لمسارات أمريكية، وهي التأكيد على الاستقرار في الجنوب اللبناني والتوقف عن إطلاق الصواريخ، في ظل الحديث عن استعداد إسرائيلي للانسحاب من مزارع شبعا، وتفعيل ملف ترسيم الحدود، كما نوقشت أهمية ضبط الحدود ومنع التهريب، الذي يؤدي لتفاقم الأزمة الاجتماعية والمالية، وينعكس بالمحصلة على قدرة الأجهزة الأمنية، التي أطلقت صرختها منذ أشهر.
وهذه الرسائل التي حملها ويليام بيرنز تمت مناقشتها بين قادة الأجهزة الأمنية في اجتماع مشترك، حيث اتفق على وضع خطة مشتركة بين الجيش والمخابرات وباقي الأجهزة الأمنية، يكون الهدف منها وقف تخزين المحروقات، وعليه بدأ الجيش فعلاً بمداهماته على مختلف المناطق لضبط المحروقات المخزّنة. وحدث ذلك بعد قرار سياسي بإجبار الشركات والمحطات على توزيع المخزون المتبقّي لديها على سعر صرف 3900. فبدأ الجيش بإجراءاته في كل المناطق، وكانت بداية العمليات في مناطق سنّية ومسيحية، وانتقلت فيما بعد إلى مناطق شيعية، حيث ضُبِطت أيضاً كميّات كبيرة من المحروقات المخزّنة، ووُجِّهت اتّهامات إلى مقرّبين من مسؤولين في حزب الله بتخزين هذه المحروقات.
وعليه فإن كل تلك الأحداث دفعت بالإدارة الأمريكية إلى تقديم الملف اللبناني ووضعه على طاولة البحث في ثلاثة مسارات، الأول سياسي ويجري نقاشه بين أنتوني بلينكن ونظيره الفرنسي جان إيف لودريان، والثاني أمني بين وليام بيرنز وبرنار إيمييه، والثالث مالي يجري بين الإدارة الأمريكية والبنك الدولي، لخلق مسارات مساندة سريعة للبنان.
خاصةً أن الولايات المتحدة بدأت بقراءة رسائل طهران انطلاقاً من المشهد اللبناني، من الصواريخ والاشتباك في الجنوب، معطوفة على تحدي الباخرة النفطية المنتظرة، فيما المسؤولون الأمريكيون باتوا متأكدين بأن حزب الله هو المسؤول الأول عن تعطيل ولادة حكومة لبنانية لحساباته الإقليمية المعقدة، المرتبطة بإيران ومفاوضتها للدول في الإقليم.
لذا فواشنطن تشجع استيلاد حكومة لا تقوم على أساس المحاصصة الحزبية الفاقعة، ولا تحوي الثلث المعطّل لأي فريق سياسي، تشكل بالنسبة للمجتمع الدولي بداية التحضير لولادة منظومة سياسية جديدة، وفق النظرية الأولى التي وضعها إيمانويل ماكرون مع فريق عمله قبيل انفجار المرفأ، وعزّزتها الكارثة بتسريعها، وفق معادلة جديدة وهي تفكيك الدولة القائمة على "الموبقات السياسية" وإعادة إحيائها من جديد، وذلك عبر حكومة مهمات تُجري انتخابات برلمانية وتضمن إعادة المفاوضات مع الصناديق الدولية.
إقليمياً تعود المحاولات العربية لاستجرار حلول لا تطيح بآخر المكلفين الأقوياء في النادي الحكومي المصاب برأس الهرم، ويقود هذه المحاولات كل من القاهرة والدوحة عبر وزيري خارجيتهما سامح شكري ومحمد بن عبدالرحمن آل ثاني، في ظل الانتظار لعودة السفير السعودي وليد البخاري الغائب جسداً والحاضر بتغريداته، التي أصابت سهامها بيت الوسط في أكثر من مناسبة، وهذه المحاولات المصرية-القطرية ستتابع بزيارات متتالية لموفدين مصري وقطري إلى بيروت، خلال الأيام القادمة، فيما السعوديون لن يقولوا كلمتهم قبيل الولادة الحكومية مع نجيب ميقاتي، وانتظار ما قد تحمله في شكلها ومضمونها ليبنى على الشيء مقتضاه في الديوان الملكي السعودي، بعد الجفاء الكبير والانسحاب التكتيكي من بيروت.
بينما تعمل طهران على توسيع نفوذها وتثبيته في الساحة اللبنانية، وباخرة حزب الله النفطية العائمة في بحور الكوكب تقول إن الحزب مستعد للذهاب في مغامراته إلى ما لا النهاية، وفق شعاره الأساسي بأن العقوبات لن تؤتي أكلها معه، بل تزيده عزماً وصلابة في بيئته، وخيار حزب الله هذا قد يلجأ إليه في الجنوب أيضاً. فهو يؤكد أنه جاهز لفتح المعركة الكبرى عندما يحصل أي تطور دراماتيكي عسكري في الإقليم، وضد مصالح الراعي الإيراني.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: opinions@arabicpost.net
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.