الطرقات في لبنان مقفلة، لكن ليس بسبب احتجاج أو اعتصام، وليست مقفلة بالإطارات المشتعلة، وهذا الإقفال الذي قد يستمر لساعات طويلة من النهار هو محطات الوقود، حيث ينتظر اللبنانيون لساعات طويلة من أجل تزويد سياراتهم بالوقود.
وينتظر اللبنانيون لوقت لا يقل عن 4 ساعات أمام محطات البنزين لينتهي بهم المطاف برفض تزويدهم بالوقود؛ لأنه وبكل بساطة نفد، كما أن العديد من المحطات لا تفتح أبوابها نهائياً.
طوابير الذل
على إحدى محطات البنزين بمدينة طرابلس شمالي لبنان يقف عمار أحمد، وهو مهندس مدني في إحدى المنظمات الدولية منذ الساعة 6 صباحاً، يقول إنه يضطر يومياً لركن سيارته قبل 24 ساعة على خط سير ثانٍ بجانب المحطة كحال المئات من المواطنين في لبنان، ليتمكن من حجز دور مبكر، إذ يضطر إلى الانتظار يومياً من السادسة صباحاً حتى الثامنة والنصف وأحياناً أكثر ليتمكن من الالتحاق بعمله في إحدى ضواحي المدينة.
يشهد عمار يومياً وفق وصفه لعشرات المواجهات بين المواطنين وموظفي محطات الوقود، يمارسون تصرفات غير أخلاقية مع الزبائن، إما عبر تعبئة قيمة قليلة محددة لا تكفي السيارات، وإما عبر فتح المجال لبعض الشخصيات السياسية والأمنية، وتجاوز طوابير المواطنين، الأمر الذي يسبب فوضى ومشاكل وشعوراً بالقهر مضاعف.
أما سمير عز الدين، الذي يعمل موزع مياه لإحدى الشركات، وهو من سكان إحدى قرى منطقة الكورة فيقول إنه ينتظر يومياً لثلاث ساعات على المحطة، وإن انتظاره في بعض الأوقات لا يمكنه من تعبئة سيارته إلا بكمية قليلة ليجد نفسه مضطراً لدفع مبلغ معين لعامل المحطة لكي يقوم بتعبئة السيارة الخاصة به.
يقول عز الدين إنه يشهد يومياً على قيام صاحب المحطة بتعبئة شاحنة وربما أكثر لبعض الأشخاص يعتقد أنها تباع بالسوق السوداء بأسعار خيالية مربحة أكثر من بيعها على سعر تحدده الدولة للمواطن.
السوق السوداء.. لا فرق بين رجل وامرأة
"لا أستطيع الانتظار كلّ هذا الوقت، لا أحتمل، ولا أريد تجربتها أصلاً، لذا ألجأ إلى السوق السوداء"، يقول عماد الشلّ، مواطن لبناني من بلدة بعلبك.
ويروي عماد معاناته مع اللجوء الى السوق السوداء، إذ يؤكد أن سعر الصفيحة قد يصل إلى 330 ألف ليرة لبنانية، في حين أن السعر الرسمي يتراوح بين 77 و78 ألف ليرة لبنانية.
وحال حسام لبابيدي لا يختلف عن حال عماد، ولكن المفارقة الوحيدة هي أن حسام ينتقل داخل أحياء بيروت مستخدماً الدراجة النارية، والمحطات، بحسب قوله، توقفت عن تعبئة الوقود للدراجات الهوائية، وبالتالي أصبح مجبراً على اختيار السوق السوداء، لأن عليه الاستمرار بعمله كي يؤمّن قوت يومه.
ويجمع كلّ من حسام وعماد مشكلة أساسية، وهي سعر الصفيحة في السوق السوداء إذ لا يقل سعرها عن 300 ألف ليرة لبنانية، وهنا أكد حسام أنه آخر مرّة سعّر له التاجر الصفيحة بمبلغ قدره 500 ألف ليرة لبنانية.
يحتاج عماد إلى حوالي 4 صفائح من الوقود كي يملأ سياراته تماماً، أي بعملية حسابية بسيطة وإذا افترضنا سعر الصفيحة 300 ألف ليرة كحد أدنى، فهو يحتاج كل ثلاثة أيام إلى أكثر من مليون و200 ألف ليرة من أجل تزويد سيارته بالوقود كونه يتنقل بين بعلبك وبيروت بداعي العمل.
من جهتها تقول لينا زهر الدين لـ"عربي بوست" إنها "تعيش في المهزلة والإذلال التي يعيشها كل لبناني بسبب هذه العصابة الإرهابية الحاكمة والمجرمة والتي تتسبب بالموت البطيء لكل لبناني".
وأضافت المتحدثة التي تشتغل موظفة في إحدى المؤسسات الرسمية اللبنانية أنها "اتفقت مع زوجها على توزيع أيام النزول لتعبئة الوقود من المحطات المتاحة في منطقة صور الجنوبية، يوم هي ويوم زوجها".
وأشارت المتحدثة إلى أن "زوجها يضطر أحياناً لشراء 10 لترات بنزين من تجار ومحتكري السوق السوداء الذين يبيعونه بأضعاف ثمنه الحقيقي، لكنه مضطر أحياناً لأن البلد لا تتوفر على مواصلات عامة، ولا خدمات، والمافيات هي التي تدير كل القطاعات".
تقول لينا إنها تشاهد في الطابور المخصص للنساء في بعض المحطات كيف يتم أمرين: الأول تعبئة قوارير البلاستيكية من البنزين لتجار السوق السوداء على مرأى الأجهزة الأمنية الحاضرة أمام المحطات، والثانية المحسوبيات في السماح بتجاوز الطوابير لزوجات المسؤولين السياسيين والأمنيين وهذه جرائم كأي جريمة نتعرض لها.
أين توجد السوق السوداء؟
بعد معاناة حسام من محطة إلى أخرى، وبعد التوجّه الى محطة معينة اتضح له بعد طول انتظار أن خلفية وجود طابوريْن فيها هو تمييز الفصل بين جمهور الثنائي -حزب الله وحركة أمل- وبين المواطنين العاديين، تحت أعين القوى الأمنية وغضّ بصرهم، قرر أنه لن يذلّ نفسه بعدها على قاعدة "هين فلوسلك ولا تهين نفوسك".
ويباع الوقود من السوق السوداء عبر تعبئته في قوارير، ويتم التواصل مع أشخاص معيّنين وتجّار عبر وسيط، وهذا الوسيط هو الذي يؤمّن الكميّة المطلوبة.
وعلى سبيل المثال، يتواصل حسام مع أحد أصحابه الذي بدوره يكون صلة الوصل بين الوسيط والتاجر، وبعدها يتقاضى التاجر في السوق السوداء أمواله مقابل القوارير باهظة الثمن.
لذلك، يشكّل تجّار السوق السوداء شبكة متشابكة، وكلّها "من تحت لتحت" بعلم الدّولة اللبنانية، التي تحاول التغاضي عن الموضوع لأنّ من يخزّن ويبيع تابعان لأحزاب السلطة اللبنانيّة.
وقد بدا ذلك جليّاً بعد مصادرة الجيش اللبناني لكميّات هائلة من المحروقات، والتي قدّرت بأكثر من 4 ملايين لتر من البنزين، وما يزيد عن مليوني لتر من المازوت تعود إلى أحزاب لبنانية منها القوّات اللبنانية، التيار الوطني الحرّ، وتيار المستقبل، أمّا في مدينة بعلبك، سوق السوداء غير الشرعية فهي "على عينك يا تاجر".
عماد الشلّ يقتصر الطريق ويذهب إلى محطة وقود في المدينة مختصّة بتزويد السيارات والدراجات الهوائية لا على السعر المدعوم، أي 3900 ليرة لبنانيّة، بل على سعر الصرف اليومي للدولار مقابل الليرة اللبنانيّة.
يوضّح عماد لـ"عربي بوست": "حين أذهب لتزويد سيارتي بالبنزين، أشغلّ المحرّك وانطلق نحو تلك المحطّة حيث لا زحمة، كما أيام زمان. املأ السيارة وأتابع سبيلي نحو العمل".
ولكن شدّد عماد على أنّه لن يستطيع الاستمرار بهذا الوضع، تستنزف أمواله التي من المفترض أن يجمّعها كي يعيش حياتاً كريمة وطبيعية لشاب يبلغ الـ25 سنة من العمر.
لذا، يرى أنّ الحل الوحيد هو إمّا برفع الدّعم بشكل كلّي، والتشدّد على المعابر غير الشرعية للحدّ من التهريب، مشيراً إلى أن الدولة اللبنانية عاجزة عن القيام بذلك طوعاً لأنها المستفيدة الأكبر من ذلك كون المهرّبين هم من أركان السلطة.
طرق التهريب.. حاجة استراتيجية لنظام الأسد
يرى الخبير العسكري والعقيد المتقاعد في الجيش اللبناني حمود حمود لـ"عربي بوست" أن "خطة سير التهريب من لبنان إلى سوريا تقوم على قيام المافيات المرتبطة بحزب الله بشكل أكبر ومعه القوى المرتبطة بنظام بشار الأسد، وذلك بتهريب الوقود المدعوم من سوريا إلى لبنان".
وبحسب حمود فإن المعابر غير الشرعية والتي تعد بالعشرات بين لبنان وسوريا تشكل فيها نقاط استلام وتسليم من الهرمل في الشمال الشرقي وصولاً للبقاع الغربي المتصل بسوريا عبر سلسلة جبال مترابطة بين البلدين.
ووفقاً لحمود فإن التهريب تديره مجموعات محددة تقوم بجمعه من الشركات المستوردة والمحطات، وينقل بشاحنات عبر الحدود والمعابر غير الشرعية، وهي بمجملها واقعة تحت نفوذ حزب الله، والذي يقوم باستلامه عبر وحداته في سوريا بالتنسيق مع فرق عسكرية سورية، ويوزع على مناطق نفوذ النظام، وتحديداً تلك التي يمسكها الحزب وجماعات إيرانية.
فيما يروي مواطن لبناني لـ"عربي بوست" وهو من سكان إحدى القرى الحدودية بين لبنان وسوريا أن أهالي المنطقة تجري وأمام أعينهم عملية نقل الوقود من لبنان إلى سوريا، عبر قيام مجموعات محددة بتعبئة شاحنات كبيرة بالوقود من المحطات أو الشركات ونقله إلى سوريا عبر عدة معابر.
وبحسب المواطن اللبناني، الذي رفض الكشف عن اسمه لأسباب أمنية، فإنه وعقب قيام الجيش بعمليات مصادرة المواد النفطية من المخازن، تم تشكيل مجموعات من مافيات التهريب عبر تعبئة "قوارير بلاستيكية" بالمواد، ونقلها عبر دراجات نارية تصل لمئة دراجة، وربما أكثر عبر المعابر الترابية المتشابكة بين الحدود، ويتم تسليمها لجهات معروفة في سوريا ومن ثم يعودون أدراجهم.
رفع الدعم يُفرق الفرقاء السياسيين
فيما يؤكد مصدر سياسي لـ"عربي بوست" أن هناك عشرات الشركات والشخصيات السياسية والاجتماعية وبغض نظر أمني تقوم بالمساهمة بحرمان اللبنانيين من ثرواتهم.
ويرى المصدر ذاته أن حزب الله حريص على عدم قيام الدولة برفع الدعم واستمرار الصرف من الاحتياطي الإلزامي لأنها بالنهاية أموال المودعين غير المرتبطين عضوياً به أو ببيئته المباشرة، خاصة أن الحزب يمتلك بنكاً تم الكشف عنه منذ مدة ويخالف الأصول والقوانين يسمى "القرض الحسن".
ويُعتبر "القرض الحسن"، وهو شبكة مالية بالعملة الصعبة ليست على صلة بالمصارف، وعليه فإن استمرار الصرف من احتياطي الدولار الموجود في المصرف المركزي لتغطية نفقات شراء الوقود وتهريبه، بعد ذلك إلى سوريا يناسب البنية الاقتصادية لحزب الله، ويحفظ نظام الأسد مدة أطول في ظل قانون قيصر.
ويتساءل المرجع عن سماح الدولة وعدم مراقبتها لعملية صرف الوقود داخل لبنان، والسماح للشركات النفطية الكبرى والصغرى في لبنان بتخزينه في مستودعات فوق الأرض وتحت الأرض، ومن ثم تهريبه تباعاً إلى سوريا، خاصة أن الدولة لا تزال حتى اللحظة تغطي شراء المحروقات على سعر 3900 مقابل الدولار، فيما الدولار الحقيقي في الأسواق يتخطى 20000 ألف ليرة مقابل الدولار الواحد.
ووفق المرجع نفسه فإن الحزب ليس منزعجاً من حركة التخزين الجارية للوقود في المخازن والمصانع والمنازل والشركات؛ لأنه في كل الحالات سيُباع في نهاية المطاف في الداخل السوري لما يوفره للمحتكرين من أرباح عالية وخيالية.
ويؤكد مصدر سياسي مطلع لـ"عربي بوست" أن عمليات التهريب للمحروقات لا تتم إلا بعلم نواب المناطق، وهم المشاركون لأرباح التهريب وفق سياسة توازن جرى إقرارها حتى بين المتخاصمين سياسياً تشمل النسب المسموح بها.
ووفقاً للمصدر ذاته فإنه وفي الآونة الأخيرة، يمارس عدد كبير من نواب الشمال اللبناني المحسوبين على تيار المستقبل والتيار الوطني الحر والحزب السوري القومي الاجتماعي التهريب وتعزيز نفوذ السوق السوداء للمحروقات في المنطقة، تحقيقاً للأرباح الخيالية على حساب حصة المواطن، ولضمان تبعية مئات الشبان المستضعفين الذين وجدوا ملاذاً في العمل غير الشرعي.
في السياق ذاته يُؤكد مصدر قيادي رفيع في الحزب التقدمي الاشتراكي أن لا مفر من رفع الدعم، لأن القسم الأكبر من المازوت والبنزين يُهرب إلى سوريا، لافتاً إلى أنه "لن يبقى دولار من الاحتياطي الإلزامي اذا استمرينا بالدعم".
ويؤكد المصدر ذاته أنه "في بلد حدوده مفتوحة، والقوى الأمنية غير قادرة على ضبطها والحل يكمن بإقرار البطاقة التموينية وتطوير النقل العام، وأن أمر هذه الأزمة المفتعلة في المحروقات لعيون النظام السوري والمهربين العاملين على خط إمداده والشركات المؤلفة لعصابة ومافيات النفط".
ويستغرب المصدر من ابتزاز اللبنانيين وحرمانهم من حقهم في الحصول على المحروقات المتوفرة، التي تم استيرادها على السعر المدعوم للدولار على أساس الـ1500 ليرة منذ أيام قليلة، والتي لا تزال مخزّنة في خزانات شركات الاستيراد والتوزيع وبعض المحطات.
ويتساءل المتحدث كيف تبخرت على ما يبدو كميات النفط العراقي التي تقدمت بها حكومة العراق، وتلاشت بين السماسرة المحليين بين وزارة الطاقة وبعض المنتفعين من الشركات المستوردة.
ويعتقد المصدر أن أي تراجع عن وقف الدعم لن يكون إلا خدمة إضافية للنظام السوري والمهربين على حساب اللبنانيين وما بقي من أموالهم في الاحتياطي الإلزامي، وستبقى طوابير الذل على حالها، وخاصة أن فكرة الدعم وهمٌ زائف، وأن رفعه هو المصلحة الوحيدة للبنان.
دور الشركات في التهريب.. ما الحل؟
هناك العديد من علامات الاستفهام حول شركات محطّات الوقود في لبنان التي كانت قد استلمت محروقات بقيمة 820 مليون دولار من مصرف لبنان في شهر تمّوز/يوليو من العام الماضي، وهذه المحطّات تغلق أبوابها اليوم أمام اللبنانيين.
لذا، يتوقّع المحلّل الاقتصادي والصحفي طوني بولوس أن يكون لهذه الشركات الكبيرة يد في التهريب الى سوريا أيضاً، مؤكداً أنه في حال يحصل ذلك، فهم يهرّبون عبر عصابات، تقوم ببيعها حسب السعر في سوريا الذي يزيد أضعافاً عن السعر في لبنان.
يشرح بولوس أن الشركات تقوم بالاستيراد من خلال مصرف لبنان على السّعر المدعوم، ويبيعونها في لبنان في السوق السوداء من أجل اكتساب أرباح ماديّة مضاعفة، ومن ثمّ يوجّهون البوصلة نحو سوريا ويهرّبون المحروقات ويستفيدون من العملة الخضراء.
ومن أجل تبسيط الأمور أكثر يقول المتحدث: "فرضاً إذا قامت الشركات اللبنانية بالحصول على 100 دولار من قبل مصرف لبنان، يمكن أن يعودوا من سوريا بـ2000 دولار أمريكي".
وباعتقاد بولوس أن الشحّ في المحروقات لدى المحطّات اللبنانيّة يبرّر بتهريبها إلى سوريا.
من جهتها تعتقد الصحافية الاقتصاديّة محاسن مرسل أن "الحلّ الأنسب للتخلّص من مشكلتي التهريب والتخزين يكون عبر تحرير السّوق، والسّماح لمن يرغب باستيراد المحروقات وبيعها للشركات".
وتضيف مرسل أنّه من يُرد أن يستورد يجب أن يحصل على إذن من وزارة الطّاقة يذكر فيه أيضاً سعر الاستيراد والبيع، وبهذه الطريقة، حسب قولها، فإن المنافسة تزداد وبالتالي يتحرّر السعر في السوق ويصبح التجّار بغنى عن التخزين والتهريب.