تبدو تونس مفتوحة على عديد من السيناريوهات، وعلى رأسها ذهاب الرئيس قيس سعيد بالبلاد إلى نظام حكم جديد يُسميه "تمثيلية الشعب" كبديل عن الديمقراطية التمثيلية التي يعتقد سعيد أنها لا تعكس حقيقة إرادة الشعب بصفة مباشرة بالنظر إلى دور الوساطة الذي تلعبه الأحزاب السياسية، طرح يتوجّس منه الجميع في تونس وعلى رأسهم الأحزاب السياسية لكن يبدو أن الرجل ماضٍ في مشروعه الذي انطلق في طرحه منذ سنة 2011.
لا يخفى على أي من المتابعين للشأن السياسي في تونس أن الرئيس قيس سعيد يطرح منذ سقوط نظام زين العابدين بن علي سنة 2011 مشروعاً لنظام حكم يناوئ الديمقراطية التمثيلية التي تكون فيها الأحزاب السياسية محور العملية الديمقراطية وتلعب دور الوساطة عبر تمثيل الشعب في المؤسسات المُنتخبة، فالرجل يعتقد أن دور الأحزاب سينتهي قريباً إن لم يكن فعلاً قد انتهى بعد أن كان دورها محوريّاً في القرنين الماضيين.
فطرحُ الرئيس التونسي قيس سعيد كبديل عن الديمقراطية التمثيلية يتلخّص في ما يُسميه تمثيلية الشعب المُباشرة دون أي وساطة من الأحزاب أو جمعيات المجتمع المدني عبر إلغاء الانتخابات التشريعية وإقرار نظام حكم قاعدي قائم على الاقتراع من قبَل الأفراد وليس القوائم التي لا يُمكن سوى للأحزاب تشكيلها، وينطلق البناء من الأسفل نحو الاعلى أو من الرقعة الجغرافية الأصغر ترابياً إلى الأكبر لتصل إلى مستوى وطني لتشكيل برلمان كمؤسسة تشريعية ورقابية فيما يُسمى بالتصعيد، بالتوازي مع تغيير النظام السياسي من شبه البرلماني إلى نظام رئاسي ليضطلع رئيس الدولة بالجهاز التنفيذي.
البناء الجديد
البناء الجديد وصيغة إفراز برلمان في المشروع السياسي للرئيس التونسي يرتكز على التصعيد من المجالس المحلية إلى الجهوية ثم إلى البرلمان، بمعنى أن يتمّ تنظيم انتخابات في أصغر الدوائر الترابية، وهي "المعتمديات" في تونس ويبلغ عددها 265 معتمدية، بالاقتراع على الأفراد في دورتين مع اشتراط أن يكون المترشح من سكان المعتمدية ويجب عليه جمع عدد معيّن من التّزكيات الشعبية بالتناصف بين الرجال والنساء من متساكني المعتمدية وتقديم برنامج انتخابي للنّاخبين كشرط أساسي.
حيث يمثل البرنامج الانتخابي عقداً بين المترشح والناخبين، يُمكن فيما بعد وفي حال فوز المرشَّح في الانتخابات اعتماد برنامجه الانتخابي والاطلاع على مدى إمكانية تنفيذه، في التقييم، باعتبار أنه يُمكن للناخبين سحب الوكالة أو الثقة من نائبهم في حال لم يلتزم بوعوده والبرنامج الذي تم انتخابه على أساسه بإعداد عريضة ممضاة من نسبة معينة من الناخبين، ويشكل الفائزون في الانتخابات على مستوى المعتمدية مجلساً محلياً يمثل نواة نظام حكم الشعب الذي يطرحه سعيّد.
وبذلك يتشكل 265 مجلساً محلياً، يتركب خلافاً لأعضائه المنتخبين مباشرة من الشعب تمثيلية لذوي الإعاقة ومديري الإدارات المحلية بصفتهم، لتمثيل الدولة كملاحظين لا يحق لهم التصويت بالإضافة إلى المسؤول عن الأمن في المعتمدية، وتكون صلاحيات ومهام المجالس المحلية الـ265 التي سيقع تشكيلها التّخطيط لمشاريع التّنمية المحلّية على مستوى المعتمدية ومراقبة السّلطة التنفيذية والتدخل في أي مجال إن استوجب الأمر.
وتنتهي بذلك عملية الانتخابات، ليتم المرور إلى اختيار عضو مُنتخب من كل مجلس محلي عن طريق قرعة ليتم تصعيده إلى مجلس جهوي تكون حدوده الترابية أو الجغرافية هي الولاية (المحافظة) وما تتركب منه من معتمديات ومجالس محلية، وباعتبار أن تونس مُقسمة إلى 24 ولاية فإن عدد المجلس الجهوي سيكون 24 مجلساً جهويّاً تتركب من ممثلين عن المجالس المحلية وممثلي السلطة التنفيذية والدولة في الولاية وتتكفل بالتّخطيط لمشاريع التّنمية الجهويّة وفق المشاريع المحلّية التي يقع إعدادها في المجالس المحلّية ولها صلاحيات رقابية وتدخل على مستوى المحافظة.
وبعد تشكيل 24 مجلساً جهوياً، تقع العودة إلى المجالس المحلية الـ265 لاختيار عضو ثانٍ عن طريق القرعة كذلك من كل مجلس محلي لتمثيل المعتمدية في مجلس وطني لنواب الشّعب، وبذلك يتشكل برلمان يتركب من 265 نائباً بالإضافة إلى النواب التونسيين بالخارج دون إجراء أي انتخابات أخرى خلافاً لتلك التي يقع إجراؤها على مستوى أصغر الدوائر الترابية في تونس، كما طرح قيس سعيد طيلة السنوات التي تلت سقوط نظام بن علي وإلى حدود حملته الانتخابية للرئاسيات التي نظمتها تونس سنة 2019 التي أكد خلالها أنه سيمضي في مشروعه في حال فاز في الانتخابات الرئاسية، وقد فاز.
نظام رئاسي
الرئيس التونسي قيس سعيد يطرح، بالتوازي مع الحكم القاعدي أو التصعيد بالنسبة للسلطة التشريعية والرقابية، أن يتم إجراء انتخابات رئاسيّة بالاقتراع على الأفراد في دورتين لانتخاب رئيس للدولة يتكفل بالسلطة التنفيذية وتعيين رئيس وزراء أو حكومة، في عودة للنظام السياسي الرئاسي الذي يقرّه دستور 1959 والذي يطرح سعيد العودة للعمل به مع تنقيحه، خاصة فيما يتعلق بالجانب المتعلق بالحقوق والحريات والتخلي عن الدستور الجديد للبلاد وما يقره من نظام شبه برلماني.
آليات تنفيذ المشروع
تنفيذ الرئيس التونسي قيس سعيد لمشروعه السياسي يمرّ ضرورة عبر تنقيح الدستور الحالي أو إقرار دستور جديد يكون دستور 1959 وما يقرّه من تكفّل رئيس الدولة بالسلطة التنفيذية أساسه وكذلك القانون المتعلق بالانتخابات لإلغاء الانتخابات التشريعية وتعويضها بالانتخابات المحلية، والمطروح أن يعرض سعيد فكرته تلك على استفتاء شعبي في وقت تبدو فيه ثقافة التونسيين السياسية لم تستوعب بعد النظام شبه البرلماني الذي تم إقراره في السنوات الأخيرة كنظام حكم في بلاد عاشت نظاماً رئاسياً منذ استقلالها عن فرنسا سنة 1956.
خارطة الطريق
منذ إعلان الرئيس التونسي قيس سعيد لقراراته مساء 25 جويلية لم تتوقف الأصوات المطالبة بخارطة طريق واضحة لتحديد المسار الذي ستتجه نحوه البلاد وضمنيا تطالب سعيد بتوضيح موقفه منها، فكل الأحزاب السياسية بما فيها تلك التي ساندت سعيد تعي جيداً أن البلاد مفتوحة على سيناريو تنفيذ سعيد لمشروعه السياسي وهو الذي أعلن أن تعيين الوزير الأول وأعضاء الحكومة المقبلة سيكون من اختصاصه وستكون مسؤولة أمامه، وهو ما يعني نظاما رئاسياً خلال العمل بإجراءات استثنائية لفترة لم يُوضع لها سقف زمني مما عزز مخاوف الأحزاب وجعل المتداول في الكواليس أن سعيد يمكن أن يتجه لحل كل الأحزاب السياسية في تونس.
وإن كانت الأحزاب السياسية تضع تنقيح القانون الانتخابي في حزمة مقترحاتها لحلول الأزمات السياسية المتعاقبة في تونس، فإن تنقحيه يقتصر على طرح الأحزاب تغيير النظام الانتخابي المتمثل في الأغلبية النسبية مع أكبر البقايا، والترفيع في العتبة لتفادي المشهد الفسيفسائي وغياب فائز واضح في الانتخابات التشريعية، لكنها تعرف أن لسعيد رأياً ومشروعاً آخر يقوم على الأفراد دون الأحزاب وهي تنتظر فقط إعلانه لذلك بشكل رسمي لاتخاذ موقف منه، وهو الذي لم يلتقِ تقريباً منذ 25 جويلية أي حزب سياسي حتى الداعمة له في تمظهر لما يعتبره مراقبون عداء الرئيس التونسي للمنظومة الحزبية برمتها، سواء الحاكمة أو المعارضة، واعتقاده بتسببها في بلوغ البلاد انهيارا غير مسبوق على كل المستويات عمقه تغلغل الفساد بشكل رهيب.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.