اعتقال يليه إبعاد، سيف يسلطه الاحتلال على رقاب منْ يؤمّون المسجد الأقصى للصلاة والرباط، لا بد أنكم شاهدتم أو سمعتم خلال هذا العام المرات العديدة التي حاصر فيها جيش الاحتلال المصلين داخل مصليات المسجد، وكيف أخرجوهم بقنابل الغاز والصوت والرصاص المطاطي والمعدني، تحديداً في رمضان والأيام الأولى من ذي الحجة التي سبقت عيد الأضحى من هذا العام، يحاول الاحتلال الاستفراد بالمسجد الأقصى، ولكن المرابطين يقفون له بالمرصاد مثل شوكة في الحلق، لا يدعونه يمارس غطرسته كما يشاء، وبالمقابل فهو لا يفوّت فرصة إلا ويؤذيهم بها ويحاول إذلالهم!
لم أكن في منأى عن الاعتقال، ففي كل مرة أتوجه فيها للمسجد الأقصى تكون قضية الاعتقال حاضرة في ذهني، فلست ممن يطأطئون رؤوسهم، ولست ممن يؤثرون الانسحاب تحت دواعي الخوف وتجنب المواجهة. يتعلق الأمر بمبادئ راسخة داخل نفسي، فالأقصى لنا، ونحن أولى الناس به، فمن هؤلاء الغرباء ليزاحمونا عليه ويمنعونا من الصلاة فيه بحرية والتواجد فيه كما نشاء؟ من هم ليحددوا لنا أوقاتاً ويفرضوا علينا قيوداً على بعض الأماكن فيه؟ باب المغاربة ليس لهم، وحائط البراق بحسب الوثائق التاريخية وقف للمسلمين، وسوان كذلك، والشيخ جراح وواد الجوز… والقدس عربية وإسلامية رغماً عن أنوفهم، حتى وإن حاولوا تدليس الحقائق وتزييف التاريخ.
على هذه البقعة يوجد المسجد الأقصى، ولا شيء غيره، وأسفل منه يوجد محراب الأنبياء في الصخرة المقدسة بشهادة علماء الآثار لديهم، وبرغم الحفريات الكثيرة التي لم تترك مكاناً أسفل المسجد الأقصى إلا ونبشته في محاولة منهم للعثور على أي دليل يثبت ملكيتهم لهذا المكان ووجود هيكلهم المزعوم فيه، ولكن جهودهم تلك باءت بالفشل بفضل الله.
دعوني لا أُطيل عليكم بالمقدمات، وسأسرد على مسامعكم حكاية اعتقالي: كان الإثنين الأخير من شهر تموز (يوليو) عام 2021، ركبت الحافلة متجهة إلى القدس بعد اجتياز تفتيش مهين على المعبر الشمالي المقام على أراضي قلقيلية، ويفصل الضفة الغربية عن الأراضي المحتلة عام 1948 (الخط الأخضر)، نزلت في باب العمود، هبطت الدرج متجهة إلى المسجد الأقصى، عبرته من باب الناظر (أو باب المجلس، أو باب الحبس؛ فله عدة أسماء)، صليت ركعتي تحية المسجد في الرواق الغربي قرب باب الناظر، جلست قليلاً أُشبع عيني برؤية قبة الصخرة تلمع تحت أشعة شمس الظهيرة، كان الجو شديد الحرارة والرطوبة، ولكن الأقصى يستحق العناء. مضيت إلى قسم المخطوطات لشأن ما، حين ارتفع أذان الظهر، فعاجلت بالخروج والتوجه إلى مصلى قبة الصخرة، ولكن بسب الاكتظاظ الشديد آثرت الصلاة تحت قبة السلسلة، وهي مجسم يحاكي مجسم قبة الصخرة إلى الشرق منها، ولكنها صغيرة الحجم، ويُعتقد أنها تقع في محور المسجد الأقصى، ويُرجح أنها تقع فوق الصخرة المقدسة (محراب الأنبياء الذي أَمَّ فيه نبينا محمد الأنبياء في ليلة الإسراء والمعراج).
بعد صلاة الظهر قصدت مكتبة المسجد الأقصى لبضع دقائق، والمكتبة قريبة من باب المغاربة الذي يُغلقه الاحتلال ولا يفتحه إلا لليهود المتدينين والجيش ليقتحموا المسجد الأقصى، فإذا بي أُفاجأ بمرور مجموعة من الإسرائيليين يقتحمون المسجد الأقصى، رغم أن المصلين الذين أنهوا صلاة الظهر للتو ما زالوا في ساحات المسجد.
وكما هي عادة المقتحمين يدخلون من باب المغاربة بملابسهم التي تدلُّ عليهم (قبعات طويلة سوداء، أو قبعات صغيرة- كيباه، وقمصان بيضاء تعلوها معاطف سوداء طويلة تتدلى من جانبي خصورهم مجموعة من الخيوط سكرية اللون بطول 20 سم تقريباً، وسوالف طويلة مبرومة تتدلى على جانبي الرأس، وفي أيديهم كتب صغيرة مكتوبة بالعبرية يتمتمون فيها بصوت مسموع)، كان بين المقتحمين طفلتان توأمان لم تتجاوزا العامين، وصبيَة ذكور لم يتجاوزوا الاثني عشر عاماً، ومراهقون ونساء متدينات يرتدين تنانير تغطي معظم الساق، وقمصان بأكمام طويلة ويغطين رؤوسهن بأغطية خاصة تغطي الشعر وتكشف الرقبة، ويكون الذكور منهم حفاة الأقدام، بعضهم يرتدي جوارب داكنة فقط.
دخل المقتحمون من باب المغاربة يحيط بهم أفراد جيش مدججون بالسلاح من جميع الجهات، وأمام المصلى القبلي وقف المقتحمون بشكل مستفز وبدأوا يلتقطون الصور على هواتفهم، ووصل الحال بواحد منهم أن عانق المرأة التي تقف بجانبه، والتقط صورة معها من أمام المصلى القبلي تماماً. ضغطتُ على أعصابي لأبقى صامتة ولا أنهرهم ليبتعدوا ولا يدنسوا هذا المكان الطاهر، مضوا شرقاً باتجاه السور، ولم أعد أراهم، حيث يتجهون عادة إلى منطقة باب الرحمة يمارسون طقوسهم، وينبطحون أرضاً، ويحتسون الخمور أحياناً في تلك المنطقة تحديداً.
ذهبت للضوء في باب حطة، وعندما وصلت سطوح الصخرة وجدت المجموعة نفسها تملأ الماء المبرد من الثلاجة الموجودة تحت البائكة الشمالية، وبدأ في اللحظة ذاتها أفراد منهم يتقدمون للأمام رغم وجود بعض الأفراد من حرس المسجد الأقصى، وزاد الطين بلة أن أحدهم اقتحم المنطقة التي وقف فيها الحرس بتحدٍّ وأخذ يعانق امرأة ويتصور معها، كان القهر يظهر على وجوه الحرس الذين لم يكن بمقدورهم النطق بكلمة واحدة، وإلا فإنه يتم اعتقالهم وإبعادهم عن المسجد الأقصى لعدة أشهر، رغم أنهم موظفو أوقاف!
وقفت أمام المقتحمين بقوة لعلهم يتراجعون، ولكن وقاحتهم تجاوزت الحدود وأخذوا يتقدمون للأمام باستهتار. وصل بي استفزازهم إلى أقصى حدوده، فصرخت بهم قائلة: "انقلعوا من هون انت واياها.. روحوا من هون.. امشوا..".
وما إن ارتفع صوتي حتى ركض أفراد من الجيش المرافق باتجاهي وأخذوا يصرخون بي بالعربية: روحي من هون.. ارجعي للوراء.. فقلت لهم صارخة: أنا لن أذهب.. فليذهب هؤلاء.. فلينقلعوا من هنا ولا يدنسوا المكان".
أصروا على إزاحتي من طريقهم فتشبثتُ بالبقاء ومنع اليهود المتدينين من التقدم، بدأ جندي يصرخ بي: هاتي الهوية..
وأصرخ به قائلة: اقلعهم من هون بقولك.
بدأ الناس يتجمعون حولنا، شعر الجيش بأن الأمر سيخرج عن سيطرتهم، فطلبوا من اليهود المتدينين الانسحاب. برغم أني لا أفهم العبرية، ولكني فهمت من لغة جسدهم أنهم يتحدوننا ويصرون على البقاء، ولكن الجيش أمرهم بالانسحاب، وفعلاً انسحبوا، شاهدتهم يحاولون العودة من البائكة التي تليها، فسارعت للوقوف في وجوههم لمنعهم من الوصول لسطوح الصخرة مرة أخرى.
وقف الجيش أمامهم وانسحبوا باتجاه باب السلسلة غرباً.
وفي اللحظة ذاتها حضر أفراد جيش من نقطة جيش الاحتلال المقامة على سطوح الصخرة وطلبوا هويتي، وأخبروني أنني رهن الاعتقال.
وفي مقالي التالي سأروي لكم تفاصيل الاحتجاز والتحقيق صولاً إلى قرار الإبعاد عن المسجد الأقصى والقدس!
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:opinions@arabicpost.net
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.