نفض تقرير استقصائي حول الجيش الإسرائيلي، الغبار عن وثائق يتم كشفها لأول مرة، تؤكد أن إسرائيل أقامت عام 1971، تحت غطاءٍ من السرية الشديدة، معسكري اعتقال في مناطق معزولة ونائية بسيناء، حيث كانت ترسل فلسطينيين أبرياء، بينما استُخدِمَ أحد المعسكرين لعائلات أعضاء حركة فتح المُشتبه في ارتكابهم "عمليات إرهابية"، والآخر كان مُخصَّصاً للشباب العاطلين.
حسب تقرير لصحيفة Haaretz الإسرائيلية، الخميس 29 يوليو/تموز 2021، فإن الأمر يتعلق بتقرير استقصائي حول أرشيفات معهد أكيفون لأبحاث الصراع، ووثائق وصور موجودة في أرشيفات جيش الدفاع الإسرائيلي، وأرشيف دولة إسرائيل، وأرشيف الصليب الأحمر، والذي يكشف عن تاريخ جيش الاحتلال الإسرائيلي.
أطفال ونساء في معتقلات وسط الصحراء
نَقَلَ الجيش الإسرائيلي الأطفال والنساء والرجال من قطاع غزة ووضعهم في مبانٍ شُيِّدَت بصورةٍ مُرتَجَلة وسط الصحراء.
أمضوا فتراتٍ مختلفة هناك -أحياناً كانت شهوراً من الزمن- في ظروفٍ قال عنها الصليب الأحمر إنها "لا تُطاق". وبعد أقل من عام، أُغلِقَ المعسكران وأُعيدَ جميع المعتقلين إلى غزة.
صُنِّفَت محاضر الاجتماعات حول هذا الموضوع باعتبارها سرية لمدة 50 عاماً، وبعضها لفترةٍ أطول.
فقد أُقيمَ معسكر أبو زنيمة على شاطئ خليج السويس، فيما أُقيمَ معسكر نخل في وسط سيناء التي احتلَّتها إسرائيل عام 1967 وعادت بالكامل إلى مصر عام 1982.
في أعقاب حرب الأيام الستة عام 1967، كانت غزة تُعتبر "عش الدبابير" التي يُرسَل منها العناصر التي تقض مضجع إسرائيل. وفي قطاع غزة قُتِلَ فلسطينيون اشتُبِهَ في تعاونهم مع الاحتلال.
جرائم شارون
في يناير/كانون الثاني 1971، وصل الوضع إلى نقطة الغليان مع مقتل مارك دانيال وأبيجيل أوريو من بلدة كريات أونو بالقرب من تل أبيب. كان الطفلان الصغيران، اللذان اشتهرا في الإعلانات التجارية، ووالدهما عائدين إلى المنزل من رحلةٍ إلى شمال سيناء، عندما ألقى شابٌّ فلسطيني قنبلةً يدوية على سيارتهم التي كانت قد استدارت بالخطأ نحو مدينة غزة.
أُمِرَ أرييل شارون، قائدة المنطقة الجنوبية آنذاك، بـ"القضاء على الإرهاب"، واستُخدِمَت في العملية، التي استمرَّت حتى منتصف العام 1972، وحداتٌ خاصة اغتالت المُشتَبَه بهم ودمَّرَت منازل وفرضت حظر تجوالٍ وتفتيشات. لكن هذا لم يكن كلَّ شيء.
من بين الوثائق محضر اجتماعٍ بين المنسق الأول لنشاط الحكومة في المناطق، الجنرال شلومو غازيت، ومسؤولين بوزارة الخارجية. وفي مذكرة مسؤولي الوزارة، وُصِفَت خطوات الجيش بالتفصيل، وضمن ذلك الاعتقالات وحظر التجوال وبناء المعسكرات.
حتى يومنا هذا، يرفض أرشيف الجيش الإسرائيلي الكشف عن النقاط الأساسية بالمذكرة، ولا يظهر في أيِّ وثيقة صدرت حتى الآن أيُّ تورُّطٍ لرئيسة الوزراء الإسرائيلية آنذاك غولدا مائير.
27 عائلة وعشرات الأطفال
افتُتِحَ معسكر أبو زنيمة في 5 يناير/كانون الثاني 1971، على بُعدِ 300 كيلومتر جنوب غربي مدينة غزة، وسُمِّيَ المعسكر على اسم المدينة التي كانت تقع في جنوب غربي سيناء على شاطئ خليج السويس، وبعد وقتٍ قصيرٍ من اكتماله، أُرسِلَ أول السجناء إلى هناك، وكانوا 50 فرداً من عائلةٍ فلسطينية واحدة.
في وقتٍ لاحق من الشهر نفسه، عندما التقى مسؤولو الصليب الأحمر غازيت وأعربوا عن مخاوفهم بشأن ترحيل سكانٍ من غزة، أخبرهم الجنرال بأن هناك الآن محتجزين من أكثر من 20 عائلة.
كما قال إنهم طُرِدوا من غزة بسبب "دعمهم للإرهاب". وبحلول نهاية الشهر، ارتفع عدد العائلات في المعسكر إلى 27 عائلة، بينهم عشرات الأطفال.
وفي 26 يناير/كانون الثاني، أطلع غازيت أعضاء لجنة الشؤون الخارجية والدفاع في الكنيست على الوضع. وقد شرح بالتفصيل الخطوات التي اتَّخذتها إسرائيل في غزة، وضمن ذلك ما أطلق عليه "الآلية الثالثة"، وتعني ترحيل العائلات.
على حدِّ تعبيره: "لأن الأسر توفِّر أماكن للاختباء وتقدِّم المساعدة وتعمل كمراقبٍ يحذِّر الإرهابيين… اعتقلنا حتى اليوم 27 عائلة من المطلوبين ورحَّلناهم من أماكن إقامتهم إلى أبو زنيمة في سيناء. تأكَّدنا من أن كلَّ عائلةٍ كهذه تضم ذكراً بالغاً واحداً على الأقل؛ حتى لا نضطر للتعامل مع الأطفال والنساء وحدنا".
"تماماً مثل هدم المنازل"
قال وزير الدفاع موشيه ديان إن عمليات الترحيل لم تكن مقصودة كعقابٍ؛ بل لردع عائلاتٍ أخرى، "ليس لأنهم وفَّروا أماكن للاختباء أو ساعدوا المطلوبين على الاختباء، ولكن من أجل أن تثني عائلاتٌ أخرى أبناءها عن الانضمام إلى فتح"، في إشارةٍ إلى حركة التحرير الفلسطينية التي تأسَّسَت عام 1959.
كما أضاف: "الأمر تماماً مثل هدم المنازل. نحن ندمِّر منزلاً حتى لو كان الرجل المنتمي لفتح الموجود فيه مجرد مستأجر ولا يعرف صاحب المنزل شيئاً عنه. ما يعرفونه في الخليل ونابلس وغزة هو أنه إذا انضمَّ شخصٌ ما إلى فتح، فسوف يُهدَم منزله في النهاية. في مثل هذه الحالة، سوف تُرحَّل العائلات".
وصف ديان هذا بأنه "أفضل آلية ردع لدينا"، مضيفاً أن "الأمل هو أن الأب في تلك العائلات سيقول إنه إذا انضمَّ صبيٌّ واحد إلى فتح، فسوف يرحِّلوننا جميعاً إلى أبو زنيمة".
كما شدَّدَ ديان على أن هذه الطريقة لا تُستخدَم إلا في حالة عدم توقيف الشخص المطلوب، إذ قال: "هذا ما يحدث عندما لا نتمكَّن من القبض على الرجل نفسه، لأننا عندما نمسك به، ينتهي الأمر. إذا ألقيت القبض على الرجل نفسه، فأنت لا تزعج عائلته في شيء، ثم تأتي إليهم لتسأل لماذا أخفوه".
ذنبهم الوحيد أن والدهم.. من غزة!
في فبراير/شباط 1971، سمحت إسرائيل للصليب الأحمر بالدخول إلى المعسكر. التقى أعضاء وفد الصليب الأحمر ممثِّلي العائلات الـ23 المحتجزة هناك -140 شخصاً، منهم 87 طفلاً- جميعهم من سكان غزة. وكتب أفراد الصليب الأحمر إلى مقرهم في جنيف بعد الزيارة: "ذنبهم الوحيد كان وجود والد (إرهابي). لكن هل يتفهَّم الطفل البالغ من العمر 7 أشهر فقط، أو الأم البالغة 80 عاماً، سبب وجودهما هناك؟ كان الناس يأملون أن يكون ترحيلهم مؤقَّتاً فقط".
عندما التقى ممثِّلو الصليب الأحمر غازيت للمرة الثانية، أعربوا عن قلقهم مِمَّا وصفوه بـ"ظروفٍ غير إنسانية" في المعسكر. وردَّ غازيت بأن "هذه العائلات عُزِلَت لمنعها من توفير المأوى لأقاربهم المطلوبين بتهمٍ تتعلَّق بالإرهاب".
وقال إن هذه الطريقة أثبتت أنها طريقةٌ فعَّالة في القبض على المطلوبين، وأنه بعد القبض عليهم، أُطلِقَ سراح العائلات من المعسكر ومن ثم إعادتهم إلى غزة. وأضاف غازيت أن هذا كان فعَّالاً للغاية، لم تحدِّد إسرائيل توقيتاً لإنهاء هذه الممارسة.
وبعد زيارتين أخريين، أفاد أحد مسؤولي الصليب الأحمر بأنه "صُدِمَ من قسوة السلطات العسكرية الإسرائيلية" تجاه هذه العائلات.
وقال إن تسع عائلاتٍ كانت في المعسكر منذ عدة أشهر حتى بعد أن تبيَّن أن أقارب مطلوبين غادروا غزة وهُدِمَت منازلهم.