"ابني اعتاد يوميّا مثلاً أن يفطر بيضة، اليوم أصبح يشتهيها فقط" تبدأ إيمان شبارو، وهي أرملة وليس لها معيل، حديثها في حالة من الارتباك والغضب؛ بسبب ما آلت إليه الأمور في لبنان، إثر الأوضاع الاقتصاديّة مع انهيار الليرة اللبنانيّة مقابل الدولار الأمريكي ووصولها إلى أدنى مستوى لها في تاريخ لبنان؛ إذ أصبح كل دولار أمريكي يساوي أكثر من 19 ألف ليرة لبنانية، كما يتوقّع خبراء اقتصاديّون أن يستمر هذا الانهيار، وقد تتجاوز الليرة عتبة 25 ألف ليرة لبنانيّة مطلع شهر أغسطس/آب المقبل.
اللحمة والدجاج زوّار في الأعياد والمناسبات
الأوضاع الاقتصاديّة كبّلت أيادي اللبنانيين؛ إذ تدهورت الأوضاع المعيشيّة، وتأمين القوت اليومي أصبح جهاداً لدى اللبنانيين، وقد يكون أمرّاً مستحيلاً في الأشهر المقبلة، فبحسب تقرير مرصد الأزمة في الجامعة الأمريكيّة في بيروت، خلال شهر يونيو/حزيران حوالي 72% من الأسر في لبنان ستتعسّر في تأمين طعامها.
يعيش اللبنانيون على حافة الهاوية، تقول شبارو، ورغم عمل ولديْها، إلّا أن المصروف لا يكفيهما بعدما ارتفعت الأسعار بشكل جنوني فيما بقيت الرواتب على حالها.
في أروقة منطقة المدينة الرياضيّة على مدخل العاصمة اللبنانية بيروت، في منزل صغير داخل غرفة صغيرة، تعيش عائلة تتكون من 4 أشخاص، اثنان منهم كبيران في العمر ويعانيان من مشاكل صحيّة، والآخران عاطلان عن العمل.
تقول سميرة، وهي ربة المنزل، بصوت خافت وحزين، إن اللحمة لم تدخل بيتها منذ 6 أشهر، فهم يأكلون فقط الحبوب، حتى الدجاج الذي من المفترض أن يكون سعره أقل من اللحمة، تجاوز الكيلو الـ100 ألف ليرة لبنانيّة، وبالتّالي لا تستطيع الحصول عليه.
تدخل اللحمة منزل سميرة وعائلتها في الأعياد فقط؛ إذ إن مصروفهم الشهري الذي لا يتعدّي الـ400 ألف ليرة لبنانيّة، يأتي من التبرّعات والمساعدات.
توضّح سميرة أنّ حالتهم سابقاً أيضا كانت سيّئة، ولكن المصروف كان يجلب نصف كيلو لحمة على الأقل، وكانوا يؤمّنون حاجاتهم الغذائيّة اليوميّة قدر المستطاع. أما اليوم فحالهم يزداد سوءاً يوماً بعد يوم.
الانهيار المعيشي
لم يقتصر ذلك على المواد الغذائيّة التي ارتفعت أسعارها بشكل جنوني، بل تجاوزته لتصل إلى أبسط مقوّمات الحياة.
الحل الوحيد التي تتحدّث عنه شبارو من أجل تسهيل أمورها هو الدَّين، فتقول بحسرة وغضب لـ"عربي بوست": "بدّي اتديّن لسكّر اشتراك مولّد، بدّي اتديّن لإدفع انترنت، وبدّي اتديّن لإقدر آكل!"
"إن شاء الله ما نمرض" كرّرتها سميرة أكثر من مرّة بين فكرة وأخرى، ليس لأنّها لا تملك مالاً فقط؛ بل لأنّ الدّواء مقطوع من كافة الصيدليّات. تقسّم سميرة حبّة الدّواء إلى ثلاثة أيّام متقطّعة، على سبيل المثال، دواء القلب الذي يجب أن تأخذ منه حبّتين يوميّاً، تأخذ منه حبّة كل ثلاثة أيّام، تقول سميرة: "كل ما أشعر بألم في قلبي، آخذ حبّة من الدّواء، أخاف أن تنتهي العلبة ولا أجده أو لا أجد بديلاً عنه".
الثياب من الرّفاهيات
تسطير العتمة على شارع الحمرا منذ الثامنة ليلاً، وغدت أسواق بيروت عبارة عن مدينة أشباح، والأسواق الشعبية أصبحت خالية من روّادها، هذه الأسواق التي كانت تعجُّ بالنّاس ليل نهار، أصبحوا يزورونها فقط للتسلية؛ إذ أصبحت أسعار الملابس فلكية.
من هنا، قالت إيمان إنّ ملابسها وملابس أولادها عبارة عن ترقيع، فلا قدرة على شراء أي قطعة جديدة وليست من الأولويات أساساً. تشدّد إيمان على أنّ اليوم، الهاجس الأساسي تأمين الطّعام والأساسيات البديهيّة من مياه وحاجات المنزل، والملابس يمكن تأجيلها والاستغناء عنها في الوقت الحالي.
في مدينة طرابلس الشمالية، التي باتت أفقر مدن المتوسط، يروي جهاد سيور، وهو شاب خريج هندسة في الجامعة اللبنانية الرسمية، أنه لم يشتر بنطالاً أو كنزة صيفية منذ صيف 2019، وحتى الثياب المستعملة والتي تسمى في لبنان "البالة" باتت أسعارها مخيفة وتضاعف سعرها 5 مرات بسبب الواقع المأساوي. يتذكر جهاد أياماً يصفها "بأيام العز" حيث كان يتمكن من شراء أفضل الألبسة في المناسبات والأعياد من علامات تجارية عالمية لكنها أصلاً أغلقت منذ أقل من سنة، يتحدث خريج الهندسة لـ"عربي بوست": "إننا نعيش ظروف حرب دون قصف ودمار".
وفي سوق طرابلس للألبسة، يتحدث يحيى عيسى، صاحب أحد محال الألبسة في المدينة، قائلاً إن الإفلاس هو سيد الموقف بالنسبة لتجار وأصحاب محال الألبسة؛ لأنه وباختصار لا صناعة وطنية ومحلية للألبسة، والتجار يستوردون من تركيا أو أوروبا أو أمريكا اللاتينية، والتعامل مع شركات خارجية يكون بالدولار، وسعر صرف الدولار بات خيالياً، وحتى لو تأمن الدولار لشراء شحنة ألبسة، فبيع البضائع قد يكون حلماً لأن اللبنانيين لا يمكنهم مجاراة الأسعار بالدولار.
أماكن التنزه: للمغتربين والأجانب ورواتب الدولار
على مدى العقود الماضية، كان لبنان مساحة كبيرة للسياحة والتنزه، وكان آلاف السياح يحطون رحالهم شتاء في منتجعات الجبال الثلجية وصيفاً على شواطئ لبنان، لكن ومنذ اندلاع الأزمة الاقتصادية يعاني القطاع السياحي نكسات متتالية تضاف إليها تداعيات أزمة الكورونا والتي أنهكت القطاع السياحي بشكل كبير.
فيما كانت الأسر اللبنانية ذات الدخل المتوسط تستطيع النزول صيفاً إلى المنتجعات البحرية، وفق وائل، والذي يروي لـ"عربي بوست" أنه وعائلته حُرموا منذ السنة الماضية خيار "الشاليه"، أو بيت المصيف في جبل لبنان في قرية صوفر، لأن الواقع يقول إن الرواتب لا تكفي لشراء الأكل ودفع فواتير الكهرباء.
ووفقاً لوائل، فإن المنتجعات والمصايف باتت فقط للسيَّاح أو المغتربين أو للموظفين الذين يقبضون رواتبهم بالدولار.
ويقول غسان لـ"عربي بوست"، وهو أب لعائلة من 4 أفراد، إنه لو قرر الاصطياف، كما جرت العادة، فإنه يواجه معضلة وجود الوقود للسيارة، أو في المنتجع نفسه، في ظل غياب البنزين والمازوت ووقوف اللبنانيين في طوابير الذل ليل نهار لتعبئة سياراتهم بسقف تحدده ما أسماهم "مافيات" أصحاب محطات الوقود؛ لذا فإن غسان يفضل البقاء في المنزل، خاصة أن الظروف الأمنية والاجتماعية لم تعد مطمئنة.
الشباب: الطموح الصمود إلى الغدّ!
المؤكّد أن الشباب اللبناني يعيش مرحلة قاسية، من الجامعة إلى العمل الشّاق إن وُجد، في بلد تجاوزت نسبة البطالة فيه الـ45%.
محمّد صبّاغ، البالغ 28 سنة، الذي أجبر على تغيير عمله للحصول على راتب يستطيع من خلاله أن يعيش حياته بشكل طبيعي، ازداد تأزُّم الوضع أكثر مع محمّد الذي يسعى إلى الزواج لتأسيس عائلة، كما كان يحلم دائماً.
يقول محمد إن شراء منزل صغير للزواج ليس وارداً الآن، فأسعار المنازل خيالية ودفعها بالدّولار، حتّى الإيجار قد يصبح مستحيلاً إذا استمرّ الاحتكار وطلب المالك دولاراً نقدياً أو على سعر الصرف اليومي.
لا شكّ أن الهجرة أو الاغتراب مشروع قائم بالنّسبة لمحمّد، حسب قوله. فهذه الساعات الطويلة تحت الشّمس الحارقة، كونه مهندس مواقع، لا يستحق الاستمرار في بلد لا يقدّم له شيئاً من مقوّمات الحياة الأساسيّة، فبعد الأزمة شعر أنّه كبر سنين، وأنّ على أكتافه مسؤولية تكاد تكسر ظهره.
مشاريع النزهة اقتصرت على انتظار لساعات طويلة أمام محطّات الوقود، يقابلها مبلغ هائل لتزويد السيّارة بالوقود، ومن ثمّ المحاولة لتناول الغداء في مطعم قد يكلّف نصف الرّاتب.
تستمر معاناة اللبنانيين والصراع من أجل البقاء قدر المستطاع، ينشغلون بتأمين حاجاتهم اليوميّة بشقّ الأنفس، ينتظرون لساعات طويلة من أجل تزويد سياراتهم بالوقود، ووسط الانهيار غير المسبوق التي يطال لبنان، يقف المسؤولون كمتفرّجين ويطلبون من الدّول المساعدة لإنقاذ البلد،… لكن "دق الميّ، هي ميّ"!