وصلت أزمة انقطاع الكهرباء في العراق أوجها وسط سخط شعبي كبير، فيما يعيش العراقيون في الظلام في بلد يقع على بحر من النفط، ويرى العراقيون أن نكبة الكهرباء أصبحت وصمة عار على جبين كافة الحكومات العراقية المتعاقبة، والتي أهدرت وفق تقارير ما لا يقل عن 40-45 مليار دولار من الميزانية المرصودة لها دون جدوى.
إيران تقطع الكهرباء عن العراق
تشكل لوبي ضغط مؤخراً داخل السفارة الإيرانية في العاصمة العراقية بغداد، يستهدف التأثير في المئات المشاريع، التي ازداد عددها بعد وصول مصطفى الكاظمي لرئاسة الوزراء، والتي ترى طهران أنها فقدت السيطرة عليها، منها مشروع استيراد الطاقة الكهربائية.
ولدى العراق اتفاق مع إيران لاستيراد الطاقة الكهربائية، بواقع 1200 ميغاوات عبر 4 خطوط؛ وهي خط (خرمشهر – البصرة)، و(كرخة – العمارة)، و(كرمنشاه – ديالى)، و(سربيل زهاب – خانقين).
وفي العام الماضي، تجدّدت الاتفاقية بين البلدين، لمدة عامين لأول مرة، إذ كانت تُوقع سابقاً لمدة عام واحدٍ، وهو ما اعتبرته أوساط عراقية محاولة من طهران للتأثير على مشروع الربط الكهربائي مع دول الخليج، والاستعداد له مبكراً، كما يسهم الغاز المستورد من إيران، بتشغيل محطات كهربائية عراقية ترفد المنظومة بما يقارب من 3300 ميغاوات.
وفي ذات السياق، أعلن السفير الإيراني في بغداد، أيرج مسجدي، في وقت سابق، أن بلاده ستباشر في إنشاء محطتين لتوليد الكهرباء في العراق، معتبراً أن "أحد هذين المشروعين سيتحول إلى محطة كبرى لإنتاج الطاقة الكهربائية".
ومثّل هذا الإعلان مفاجأةً للأوساط المعنية، ومسؤولي ملف الطاقة في العراق، حيث لم يُعلن سابقاً عن بوادر دخول طهران لإنشاء محطات توليد كهرباء داخل العراق، خاصة وأن الشركات الإيرانية غير مؤهلة للقيام بمثل تلك المشروعات.
بهذا الصدد تحدث مستشار نفطي في رئاسة وزراء العراق، طلب عدم الكشف عن اسمه، لـ"عربي بوست"، قائلاً: إن "هذا الإعلان عن وجود محطات ستُبنى قريباً شكّل مفاجأة، لعدم وضوح الاتفاق، ولا حتى سبب هذا التوجه في الوقت الحالي، إذ إن إيران تمنع الغاز الذي يشتريه العراقيون بأموالهم عن المحطات المحلية، وهو ما يؤكد وجود نية أخرى لهذا الإعلان".
وأضاف المستشار النفطي أن "مشروع الربط الكهربائي بين العراق ودول الخليج، مثّل ضربة لإيران، في ملف الطاقة والوقود، وهو ما دفعها إلى هذا الإعلان، بعد أن بلغ المشروع 80%".
ولفت إلى أن "الشركات الإيرانية ليست لديها القدرة على إنشاء مثل تلك المحطات الكبيرة، بسبب حاجتها إلى معدات ثقيلة، مثل التوربينات وغيرها، فضلاً عن عدم امتلاكها التكنولوجيا المختصة بذلك، ولكن إيران بدأت بمطالبة العراق بدفع الديون المتراكمة، وإلا قطعت الكهرباء في العراق، وفرضت شرطاً بتحويل الأموال بالدولار للالتفاف على العقوبات الأمريكية".
وأكد المستشار النفطي بالقول: "إيران لديها أجندات سياسية في داخل وزارة الكهرباء في العراق، فتحاول عبر الفصائل المسلحة التي تنتمي لهذه الأحزاب، ضرب المحطات الكهربائية المحلية العراقية، وذلك لإحراج الحكومة بشراء الكهرباء من إيران، وهذا يدل على أن إيران تستخدم العراق كورقة ضغط لتمويل صادراتها، فيما يعاني الشعب العراقي من أزمات منذ 18 عاماً وحتى هذه اللحظة".
ديون عالقة على العراق وإيران لا تصدر الكهرباء
غالباً ما تلبي واردات الغاز والكهرباء الإيرانية ما يصل إلى ثلث احتياجات الطاقة في العراق، ولكن تُدخل إيران الغاز إلى جارها من خلال خطي أنابيب يستخدمان لتوليد الطاقة في محطات الكهرباء في البصرة والسماوة والناصرية وديالى.
يُشار إلى أن هذه التخفيضات تحرم العراقيين من الكهرباء لتشغيل المستشفيات والشركات والمنازل مع ارتفاع درجات الحرارة. فيما يخشى كثيرون أن يؤدي هذا الوضع إلى تكرار الاحتجاجات العنيفة التي اجتاحت البصرة عام 2018، واستمرت في ثورة تشرين عامي 2019 و2020، وقد تزامنت في حينه مع انقطاع التيار الكهربائي الإيراني أيضاً بسبب مسألة عدم السداد.
بهذا السياق صرّح الخبير في مجال الطاقة عزيز السامرائي وتحدث لـ"عربي بوست" قائلاً: "العراق مدين لإيران بقيمة 4 مليارات دولار لواردات الطاقة، إلا أن الأزمة الاقتصادية في البلاد تسببت في تأخير جزئي للدفع، كما أن الخوف من العقوبات الأمريكية أدى إلى تباطؤ التحويلات".
كما أضاف السامرائي أن "إيران اشترطت على العراق تسديد جميع الديون المتراكمة عن الغاز المصدر إليه، والبالغة 4 مليارات دولار لإطلاق كامل كميات الغاز التي يحتاجها لتوفير الكهرباء لمواطنيه".
من جانبه صرّح مسؤول رفيع المستوى في وزارة الكهرباء في العراق، وقال إن "إيران تحاول الالتفاف حول العقوبات الأمريكية وتحرج الحكومة العراقية، بفرض شروط تعجيزية، لتحويل الأموال إلى أرصدة بنكية في إيران عن طريق سماسرة تابعين للأحزاب المسيطرة على وزارة الكهرباء في العراق وأبرزها "التيار الصدري" وائتلاف دولة القانون".
كما تابع المسؤول في حديثه مع "عربي بوست" أنه "على الحكومة العراقية أن تضع حداً لاستغلال إيران لمقدرات العراق، فهي تحرك ميليشياتها لتفجير محطات كهرباء، ثم بعد ذلك تبني محطات كهربائية تجارية إيرانية، وتنشر قوات عراقية تابعة لأحزاب سياسية في البرلمان العراقي، مهمتها حماية محطات الطاقة، وبهذه الحالة تسيطر على ملف الكهرباء في العراق، وتقحم العراق بصدامات دولية مع الولايات المتحدة، فضلاً عن محاولات الشركات الإيرانية على عدم تقديم الخبرات الفنية المتفق عليها، ما يؤدي إلى تعطيل محطات الطاقة في العراق".
الفساد هو السبب الحقيقي لاستمرار أزمة الكهرباء
بحسب خبراء في مجال الطاقة أشاروا إلى أن العراق يحتاج حالياً إلى رفع طاقته الإنتاجية بنحو الضعف لتأمين مستويات مستقرة من الطاقة الكهربائية، إذ ينتج ويستورد 19 ألف ميغاواط في الساعة، فيما يحتاج إلى نحو 40 ألف ميغاواط لتأمين الكهرباء في العراق للدور والمؤسسات الحكومية، وبإمكان الدولة العراقية حلّ هذه الأزمة إذا ما تعاملت بطريقة حازمة مع الأحزاب السياسية التي تهيمن على وزارة الكهرباء منذ 2003، وهي من تهدر الأموال وتعطل عملية ترميم وبناء محطات الطاقة الكهربائية.
بهذا الصدد تحدث عضو في لجنة النزاهة النيابية، مشدداً على عدم الكشف عن هويته، تجنباً لتهديدات الأحزاب بالقول إن "الفساد في ملف الكهرباء في العراق هو السبب الحقيقي لاستمرار الأزمة، وعلى السلطات القضائية متابعة الأحزاب المسيطرة على وزارة الكهرباء، ويأتي في طليعة هذه الأحزاب كتلة التيار الصدري، التي تُوقع على صفقات الفساد وتسرق الأموال بحيل غير معلنة".
وأضاف المسؤول في لجنة النزاهة النيابية في حديث لـ"عربي بوست" أن "العراق أنفق حوالي 80 مليار دولار منذ سقوط النظام السابق عام 2003، وهذه المليارات تكفي لمنح الشعب العراق 24 ساعة متواصلة من الكهرباء، بل تستطيع الدولة تصدير الكهرباء أيضاً، إذا ما كشفت عن منافذ هدر المال العام، ولكن يدفع المواطن العراقي ضريبة الفساد المنتشر، وسط اتهامات متبادلة بين الأحزاب السياسية على الصفقات المشبوهة التي تغلف عقود وزارة الكهرباء".
عمليات مشبوهة في داخل وزارة الكهرباء
يحتل العراق المرتبة 168 عالمياً ضمن الدول الخمس الأكثر فساداً في العالم، بحسب منظمة الشفافية الدولية، في تقريرها الصادر عام 2018، وهذا ما يُجبر العراقيين على العيش في دوامة المعاناة، ويزيد من أزماتهم.
بهذا الصدد، يتحدث مدير عام في وزارة الكهرباء في العراق لـ"عربي بوست"، ويقول: "إن الفساد في وزارة الكهرباء ينقسم إلى نوعين: أولهما الفساد المالي والعقود الفاسدة والعمولات التي استهلكت مبالغ طائلة في مشاريع لم يتم تنفيذها، أما النوع الثاني من الفساد فيدخل ضمن أدوات الفشل الإداري المستشري، وعدم توسد المختصين لمواقع صنع القرار في وزارة الكهرباء في العراق".
ويتابع المتحدث أن "هناك أوجهاً مختلفة تدل على الفساد المالي والإداري، وأبرزها تلك التي حدثت عند إنشاء محطات توليد كهرباء تعمل بالغاز، بالرغم من أن العراق بلد نفطي بالدرجة الأولى، وعلى الرغم من توفر احتياطات غاز محلية كبيرة فإنها لا تزال غير مستثمرة بطريقة مقصودة، وذلك للاستمرار في الاستيراد الخارجي والاستفادة من توقيع صفقات تجارية مع دول الجوار، وبالتالي فإن بناء محطات توليد كهربائية تعمل بالغاز بدل النفط الخام أو الديزل، يُعد فساداً مالياً وإدارياً كبيراً، وهو ما اضطر العراق إلى أن يستورد الغاز الإيراني بملايين الدولارات".
وأشار المتحدث إلى أنه "على الشعب العراقي أن يفهم أن الصفقات المشبوهة تمضي على قدم وساق، فهناك اتفاقيات مشبوهة تتم في أروقة وزارة الكهرباء في العراق، إذا ما عدنا لتاريخ صفقات الفساد علينا أن نتذكر أن أبرز فترات الفساد كانت في أيام حكم رئيس الوزراء السابق نوري المالكي، إذ يستحيل الحصول على عقود كبيرة في الكهرباء إلا عن طريق شركة International free company لصاحبها رجل الأعمال علي شمارة المرتبط بالمالكي، وقد رسم المالكي خطة رسمية بتعيين وكيل وزارة الكهرباء في العراق عبدالحمزة هادي عبود، ليضمن توقيع الصفقات مقابل الحصول على عمولة من الأرباح، والأخير عبدالحمزة يعتبر أحد أركان الفساد في وزارة الكهرباء".
كما يكشف موظف في قسم العقود بوزارة الكهرباء لـ"عربي بوست" عن وجود فساد كبير عن طريق تعاقد مستشار وزير الكهرباء في العراق الحالي عبدالحمزة هادي عبود مع شركة "ستلر" للطاقة، بقيمة 900 مليون دولار حول تجهيز مولدات تبريد الهواء في المحطات الغازية بالمناطق التي شهدت عمليات عسكرية تعرضت لدمار كبير في بنيتها التحتية، ومنها شبكات الطاقة الكهربائية".
تفجيرات في المحطات وعراقيل لربط طاقة العراق بالخليج
تواصل مراسل موقع "عربي بوست" بعد محاولات متكررة مع رئيس قسم بوزارة الكهرباء، والذي قال إن "المنظومة الكهربائية في العراق فقدت على إثر تفجيرات محطات الطاقة في صلاح الدين والأنبار ونينوى، أكثر من 12 ألف غيغا واط، وإن الحادث الذي سببته درجات الحرارة المرتفعة ونقص الصيانة المهنية والهندسية تزامن مع هجوم صاروخي على محطة صلاح الدين الحرارية، تسبب بإخراجها من الخدمة".
وتفتقد المنظومة حالياً، بحسب رئيس القسم، أكثر من 3 آلاف غيغا واط، بينما يحتاج العراق لتشغيل مستمر للطاقة إلى نحو 30 ألف غيغا.
ويقول المسؤول إن "العراق كان يحصل على 1400 ميغا واط من إيران في العام الماضي، لكن طهران خفضتها إلى 200 ميغا فقط، مؤكداً أنه "حينما نتجاوز الحصة بميغا واحد فسيتصلون بنا مهددين بقطع الخط بالكامل".
ويقول مدير آخر في قسم العقود بوزارة الكهرباء إن "الخط الإيراني توقف بسبب مشاكل بتسديد المستحقات المالية نتيجة العقوبات المفروضة على طهران".
لكنه يستدرك بالقول لـ"عربي بوست" إن "التجهيز الإيراني لم يكن ليكون ضرورياً أساساً، وهو كان في البداية على شكل خدمة يقدمها العراق لدعم الاقتصاد الإيراني، قبل أن نعتمد عليه بشكل كبير".
ويضيف المسؤول -الذي طلب عدم كشف اسمه- إن "وجود هذا الخط تحول فيما بعد إلى نقمة؛ لأن الأموال التي يوفرها لإيران كانت مهددة في حال تحسن قطاع الكهرباء العراقي، وربما يكون هذا سبباً لعدم تحسنها".
وحاول مراسل "عربي بوست" الحصول على رد رسمي من وزارة الكهرباء العراقية بشأن تدخلات إيرانية، لكن من دون جدوى، مشيراً إلى أن هناك تحركاً لربط العراق بالمنظومة الكهربائية الخليجية، ولكنه يواجه عراقيل صارمة من قبل أحزاب سياسية.
وزارة الكهرباء تُبرّر
بعد استمرار محاولات تواصل "عربي بوست" مع ممثلين من وزارة الكهرباء لعدة أيام، كشفت وزارة الكهرباء سبب انهيار منظومة الطاقة في البلاد.
وقال الناطق الرسمي باسم وزارة الكهرباء، أحمد العبادي، في تصريح خاص لـ"عربي بوست": "تعرض محطات الطاقة الكهربائية لتفجيرات من قبل جماعات إرهابية مسلحة، ما أدى إلى انقطاع التيار الكهربائي في محافظات عدة، فالإطفاء حدث بسبب خروج محطات التوليد الرئيسية في المحافظات عن الخدمة في بغداد والبصرة وبابل والنجف وذي قار وميسان وكربلاء والديوانية والمثنى وديالى".
وأضاف العبادي أن "ذلك تسبب بإطفاء في المحافظات المذكورة وبقية المحافظات المرتبطة بها"، مبيناً أن "فُرق الصيانة تحاول منذ ساعات الليل المتأخرة إعادة الخطوط الناقلة للعمل".
وأكد المتحدث الرسمي باسم وزارة الكهرباء في حديثه أن "الطاقة الكهربائية قد بدأت بالعودة التدريجية في عدة مناطق داخل بغداد، بعد إطفاء عام استمر أكثر من 7 ساعات"، موضحاً أن "التيار الكهربائي قد عاد في مناطق زيونة، والقاهرة، والغزالية، والكريعات، والشعب، والمنصور، والكاظمية، والدورة".
وأشار العبادي إلى أن "الكهرباء ستعود تدريجياً إلى المناطق الأخرى تباعاً مع ارتفاع الإنتاج خلال الساعات المقبلة وصولاً إلى المستوى ما قبل الانطفاء بطاقة أكثر من 19 ألف ميغا واط"، لافتاً إلى أنّ "محطات التوليد في العراق قد بدأت بالعودة للإنتاج الكلي من الشبكة الوطنية وقد استعادت لغاية الآن 400 ميغاواط".
كما أشار العبادي إلى "تعرض أبراج لنقل الطاقة إلى عمليات إرهابية جديدة، ما ساهم أيضاً في الأزمة، لارتباط الأبراج بمحطات التوليد، ما يعني هدر الطاقة الموجهة إلى المحافظات".
وختم العبادي بالقول إن "الوزارة تعي مسؤوليتها تجاه الشعب العراقي وتعمل بكل إمكانياتها لتوفير ساعات تجهيز تغطي الحاجة لبغداد والمحافظات".