في خضم الأحداث الجارية في فلسطين الغالية، ترقب في هذه الموجة العاتية من الدفاع عنها والتبني الجاد لقضيتها من شباب هذه الأمة رجالهم وإناثهم، أن الخير الذي تأسس في نفوس هؤلاء عصي على الانتهاء، وأن الوازع الديني في نفوسهم كذلك عظيم، ليس من السهولة محوه، وأن لهذا الدين من قدسيته في النفوس ما ييسر على أبناء هذه الأمة الدفاع عنه والوقوف أمام انتهاك محرماته والتضحية إن لزم الأمر في سبيل ذلك، ما أبهر العالم وجعل القيادة الإسرائيلية تصرح بأن الشعوب هي العقبة التي لا يتم تجاوزها رغم تجاوز عقبة الحكام منذ زمن بعيد.
التوحد خلف قضية فلسطين كذلك يصنع في نفوس الشباب الحلم والتطلع نحو التحرر الحقيقي الذي لا يرونه في بلادهم، وخاصة بعد وأد ثورات الربيع العربي والانقضاض عليها، ما أحدث ارتداداً في نفوس الكبار قبل الصغار، واستدعى حاجز الخوف من جديد، وأبعد الأمل خطوات وخطوات، إلا أن رياح الربيع تأبى أن تفارق أصحابها كما يأبى أصحابها كذلك، فنجد الحين بعد الحين أحداثاً متفرقة في البلاد العربية توقظ روح التحرر من جديد أو تبث في النفس آمالاً، ولكن سرعان ما ينطفئ نورها وتهدأ جذوتها ويغيب أثرها، إلا أنها القضية التي ساقها الله وجمع حولها القلوب وهي قضية القدس وفلسطين، فنورها لا يَنطفئ وجَذوتها لا تَهدأ وتَصدرها لا ينازعه فيه غيرها، وهي التي تضع الشعوب والحكام أمام اختبارهم الحقيقي الذي تنكشف فيه المعادن الأصيلة من غيرها.
العقل الجمعي لشباب هذه الدول أصبح مختلفاً، وتغيّر إدراكه عما كان في السابق إذا ما تمت مقارنته مع العقل الجمعي ما قبل أحداث الربيع العربي، لقد شاركت تلك الأحداث التي تم الانقضاض عليها فيما بعد في خلق حالة جديدة في ميدان العقل والإدراك وبالتالي تشكيل الوعي بأكمله.
ربما السمة التي يتسم بها عدد كبير من الشباب في نقصان البناء الثقافي والاطلاع على التاريخ وتخليص العبر منه قد أسعفه العَيان وعين المشاهدة التي رأوا بها انتفاضة الشعوب وإحداث تغيير حقيقي أمام أعينهم لم يكن في الحسبان، واستبدال مقاعد الحكم لِتؤول إلى أشخاص وتيارات خرجت من بين صفوف الشعب على غير المعهود، وإذا ما تم الانقلاب على ذلك فتبقى إعادة المحاولة فكرة شابة حية في نفوس الكثير لن يستطيع الاستبداد محوها بهذا القدر من اليسر والسهولة.
وإذا كان هذا الجيل قد نشأ على أمة متفرقة تُعرف بِانقسامها مذهبياً وقومياً واجتماعياً وسياسياً ما أبعدَ عن الأذهان صورة الأمة الواحدة والقضية الجامعة والصف الواحد، التي كان عليها أسلاف المسلمين، فربما أسعف ذلك أيضاً قضية بيت المقدس التي تشهد تطورات كبيرة استدعت ما تبقى من هذا الشعور في نفوس كل حامليه وجمعته في اتجاه واحد ووجهته نحو نصرتها، فاستفزت مشاعر الشباب ووجهتهم نحو السؤال وأثارت في عقولهم قضية أخرى أصبح الوعي بها معلوماً للجميع.
لقد شاركت قنابل الغاز وطلقات الرصاص ودماء الشهداء في محو أثر خطب تخديرية لا تدعو إلا إلى الرضا الزائف واستكانة النفوس، وأقامت قدوات حقيقية لم يصنعها المال أو وسائل الإعلام، وبطولات مدهشة ليست في ساحات المسارح ودور السينما، وشكلت قضية جامعة ليست بفعل دعاية سياسية أو توجه أيديولوجي، فصنعت إدراكاً حقيقياً إيجابياً يدفع نحو عمل إيجابي كذلك، وشكلت تياراً جديداً ليس بمعنى حزب سياسي أو حركة دينية، ولكن انتفاضة في العقول وسعة في الإدراك، وربما ينتج ثماراً يانعة في مستقبل الأيام كبير.
الإعلام كذلك بأدوات هذا العصر، الذي خرج لحسن الحظ من تحت سيطرة النظم العربية ساعد أيما مساعدة في تواصل الشعوب مع بعضها البعض، بل أبناء الشعب الواحد ومما يبشر بانتشار حالة وعي كبيرة بخصوص هذا الأمر، فالشباب يدركون جيداً أن هذا الدور هو دورهم أن يتواصلوا ويُعرّف بعضهم بعضاً، بل يُعرفون العالم بقضيتهم العادلة ويدركون أنه سلاح لا يُستهان به في التعريف بالقضية وتداولها في ظل الحرب القائمة.
من يقرأ أحداث العشر سنوات الأخيرة هذه من حدوث ثورات الربيع العربي وينظر إلى قضية فلسطين التي اشتعلت من جديد يجد أن الثورات وإن كانت فشلت في إصلاح النظم السياسية إلا أنها نجحت في إصلاح النفوس، فبدا ذلك قوياً من لغة الخطاب والتفاعل مع الأحداث وتبني القضايا وخاصة من قبل الشباب، وأصبحت نفسية الانكماش والخوف أو الجهل والضعف تتراجع شيئاً فشيئاً لتحل محلها نفسيات البناء والقوة ومحاولة الوصول إلى الحقيقة، ربما يحتاج ذلك إلى المزيد من البناء والمزيد من التعليم والمزيد من التنظيم حتى يستطيع الشباب أن يكونوا رقماً صعباً حقيقياً في أوطانهم، لكنه بلا شك يتجه نحو ذلك، وأصبح من الصعب أن يتراجع، وبدا في الأفق ملامح الشروق الذي ننتظره جميعاً.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:opinions@arabicpost.net
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.