حرب حزيران انتهت…
وحالنا والحمد لله على أحسن ما يكون…
وصوت فيروز، من الفردوس يأتي "نحن راجعون"
تغلغل اليهود في ثيابنا، و"نحن راجعون"
صاروا على مترين من أبوابنا، و"نحن راجعون"
وكل ما نملك أن نقوله:
"إنا إلى الله لراجعون"…
نزار قباني
ودخلنا الألفية ومر من الألفية ما يقارب الربع قرن وشهدنا بعد حزيران حروباً عديدة ثقيلة امتصت من أرواحنا وعمرنا الكثير، ولكن وفي هذا العام تحديداً عام 2021 لربما أستطيع القول "نحن راجعون". لقد بدأنا حرباً جديدة غريبة، فحرب غزة هذا العام رغم كل جراحها النازفة ستحمل في طياتها نقطة تحوّل سيشهدها التاريخ فهي لم تكن كأي حرب سابقة بل كانت (حرب المرة الأولى).
نعم، فهذه الحرب هي المرة الأولى في كل شيء، المرة الأولى التي تتوحد فيها فلسطين بكل خطوطها المقسمة، والمرة الأولى التي تنهض فيها الشعوب وتعلن أنها لن تسمح بنكبة وتغريبة فلسطينية، والمرة الأولى التي تشعر بأنك على الجبهة ولو من بعيد؛ لذا كان عليّ إخبار العالم ونزار ودرويش وكنفاني وناجي العلي بأنها لربما أيضاً ستكون المرة الأولى التي يستدير فيها حنظلة معلناً للعالم أن فلسطين ستبقى فلسطين.
فما يحدث في فلسطين الآن هو مشهد عظيم رغم المرارة، مشهد يدل على أن سبعين عاماً وأكثر من المخططات الصهيونية قد تمزّقت تحت وطأة الشعب الفلسطيني الثائر والعربي المساند الذي لم ينسَ تاريخه رغم كل محاولات التهويد والتقسيم. فعزيزي القارئ، فلسطين ليست أرضاً محتلة فقط بل هي أرض تم تقسيمها على مراحل مختلفة لتتحول إلى أربع مناطق رئيسية:
1. القدس العربية، وتعتبر منطقة خاضعة لسيطرة الاحتلال مع كون الأقصى تحت الوصاية الهاشمية.
2. عرب الداخل أو (الخط الأخضر)، وهي المناطق التي تسكنها الأقلية الفلسطينية العربية التي لم تغادر مناطقها وأجبرت على العيش مع المستوطنين كأقليات تحت سيطرة الاحتلال الإدارية والعسكرية ويطلق عليهم (عرب 48).
3. الضفة الغربية ورام الله التابعة للسلطة الفلسطينية، وتم تقسيمها هي أيضاً إلى 3 مناطق (أ،ب،ج).
4. قطاع غزة المحرر والمحاصر.
لقد قسّم الاحتلال فلسطين ودس فيها المستوطنين ظناً منه بأنه امتلك الأرض ولم يتبقَّ منها سوى غزة حجر عثرة في طريقه فيقوم بين الحين والآخر بشن الحرب عليها وقصفها تحت ستار المقاومة ولكن ما لم يكن في حسبانهم هذا العام أن عدوانهم على غزة لم يكن ككل المرات السابقة، بل كانت حرب المرة الأولى! فللمرة الأولى ومنذ سنين تتوحد الأقسام الأربعة في فلسطين وتثور ثورة واحدة في وقت واحد على قلب واحد، غزة تنتصر للقدس، واللد تحترق من أجل الأقصى، وعكا وحيفا ويافا والناصرة وبيت لحم وغيرها ينادون لبيك غزة فنحن لم ننسَ القضية!
للمرة الأولى ينتفض فلسطينيو الداخل المحتل بكل قوتهم ليصطدم الكيان بحجر عثرة جديد وغير متوقع يجعله لا يدرك ما يحدث ولا على أي جبهة سيحارب؟ فبعد أن ظنّوا أنهم استطاعوا طمس الهوية من عقول شباب عرب الداخل ومحوا التاريخ والأرض من ذاكرتهم اكتشفوا أن صرخة واحدة من قلب الأقصى وعلى باب العامود مزقت مصطلح (عرب 48)، وأحيت في قلبهم الهوية الفلسطينية، ومع هذه الثورة غير المتوقعة أعلن عرب الداخل أن فلسطين أرض واحدة فتسقط على حدود الخط الأخضر كل الاتفاقيات الدولية. وأما في الضفة ورام الله فتنتفض الأرض وعلى مشارف الخليل وأم الفحم يستشهد هذا ويصاب ذاك والكل يجتمع كطوفان بشري على باب مدخل حي الشيخ جرّاح ليعلن للعالم بأنه #آن_للنكبة_ألا_تستمر.
وللمرة الأولى يرفض الجيل الجديد مشاهدة الحرب على شاشات التلفزة، كما قال نزار قباني يوماً:
وتابعت كل الحروب على شاشة التلفزةْ
فقتلى على شاشة التلفزةْ وجرحى على شاشة التلفزةْ
أيا وطني: جعلوكَ مسلسل رعبٍ نتابع أحداثه في المساء.
فكيف نراك إذا قطعوا الكهرباء؟؟
صحيح أنه في هذا العام ما زال هناك شهداء على شاشات التلفزة وجرحى على شاشات التلفزة ولكن هناك أيضاً وللمرة الأولى صواريخ مقاومة تدك وسط تل أبيب وعسقلان وأسدود فتحترق شوارعهم ويسقط منهم القتلى والجرحى ويجلسون هم أيضاً يتابعون أخبارهم على شاشات التلفزة!
ولأنها المرة الأولى في كل شيء، ففي حرب هذا العام ينقلب السحر على الساحر لتصبح التكنولوجيا ووسائل التواصل الاجتماعية التي طوّرها الكيان الصهيوني على مدار أعوام كوسيلة لغسل العقول وتشتيت الأذهان، جبهة حرب إلكترونية إعلامية ينهض منها جيل التيك التوك واليوتيوب والإنستغرام مستخدماً صفحاته الخاصة كوسيلة لنقل الحدث مباشرة صوتاً وصورة معلنين للعالم ما يحدث ومطلقين أصواتهم بأن فلسطين حرة فينضم إلى أصواتهم مشاهير العالم ليسلطوا الضوء على الأحداث بعدما كانت مغيّبة عن العالم على مدار سبعين عاماً وأكثر.
ورغم كل مخططاتهم وسيطرتهم، للمرة الأولى يقف أعضاء الحركة الصهيونية عاجزين عن تكميم أفواه المشاهير العالميين كما فعلوا بالفنان الأمريكي ميل غيبسون قبل أعوام عندما أنتج فيلمه (آلام المسيح)، فيبدأ معظم المشاهير بإعلان تضامنهم مع فلسطين كمارك روفالو الذي أنشأ عريضة تضم ما يقارب المليوني صوت لدعم فلسطين، وبيلا حديد التي تعتصم في شوارع أمريكا وتعلن للعالم بأسره أن فلسطين حرة وعليها أن تستعيد أرضها ولو بعد حين.
ولكن أجمل ما في المرة الأولى من حرب هذا العام هي انتفاضة الشعوب، فزحف الشعوب نحو الحدود للمطالبة بفتحها نصرة للأقصى وفلسطين كان الحدث الأغرب والمدهش لدرجة الذهول. الأردنيون يتجمهرون على حدود فلسطين مرددين "عالقدس رايحين شهداء بالملايين"، واللبنانيون يركضون نحو الحاجز الشائك الذي يفصلهم عن فلسطين معلنين أنها أرض العرب الأولى والأخيرة ولن تكون لغيرهم يوماً.
وأما ما حدث بتاريخ 18/5/2021 للمرة الأولى ومنذ عقود فأن تعلن فلسطين إضراباً للكرامة يمتد من النهر إلى البحر في كل مناطقها وأحيائها ليصاب الكيان الصهيوني بالشلل واقتصاده بالسقوط ويتوحد الشارع الفلسطيني بمختلف أطيافه وأديانه ومعتقداته بين أكتاف شبابه الثائر لتصدق مقولة غسان كنفاني التي كتبها يوماً: "الوطن ليس شرطاً أن يكون أرضاً كبيرة، فقد يكون مساحة صغيرة جداً حدودها كتفان".
وها هو للمرة الأولى أيضاً يعلن الكيان المحتل وقف إطلاق النار فوق سماء غزة المنهكة بلا شروط وبلا عنجهية، فتنتصر المقاومة رغم الجراح والأرواح المسلوبة وتسقط أسطورة الجيش المحتل وصورته المزعومة باعتراف شعبي وعالمي وإنساني، نعم إنها (حرب المرة الأولى).
ورغم كل تلك المرات الأولى كم تمنيت أن يكون هناك مرة أولى لموقف عربي جديد هذا العام، فأخبركم بأنهم لم يشجبوا ولم يرفضوا ولم يستنكروا ولم يطلقوا الخطابات أمام الأمم المتحدة والمجتمعات الدولية، ولم ينتظروا إعلاناً خاوياً من مجلس الأمن الدولي في أربع جلسات وأكثر لحل القضية، بل وللأسف كانت هناك مرة أولى غير مسبوقة ينقسم فيها الرأي العربي العام بين مؤيد ومعارض لفلسطين كقضية وجودية، فيظهر أحد المؤثرين الاجتماعيين يعارضون التضامن معها، وآخرون يتجاهلونها، وبقية مغيّبة تعلن أنها ستار لإرهاب سياسي ومصالح فردية، وأكثر ما قد يثير صدمتك عزيزي القارئ أنها وللمرة الأولى في التاريخ وليست في حرب هذا العام فقط يمتدح إعلام الكيان المحتل داعية يدّعي الإسلام ويتّشح بثياب عربية!
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:opinions@arabicpost.net
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.