عندما نعود خطوة للوراء ونلقي نظرة خاطفة على تاريخنا الذي يعد المدرسة الأولى لنا لتحليل الحاضر واستقراء المستقبل، ونشاهد كيف كان العرب متناحرين، وتقوم حرب كاملة بين قبيلتين من أجل عنزة أو من أجل أطماع وفرض النفوذ، وتقدم للحرب القرابين البشرية لتكون محرقة ووقوداً لهذه المعارك الطاحنة، فتتحول قيمة الإنسان العليا الذي قدرها الله له "وإنك لعلى خلق عظيم" إلى قيمة دنيوية دنيئة، ويصبح الإنسان وقوداً لتلك الحروب المدمرة والنزاعات التي تداعب شهوة الربح عند الإنسان فتارة تتنازع قبائل حول ناقة، مثل معركة البسوس التي أزهقت في سبيلها الأرواح وسقيت الحروب من دماء الأبرياء والضحايا، وحتى تلك الحروب الضارية التي حدثت قبل الإسلام بين قبيلتي الأوس والخزرج والتناحر بينهما حتى شبت نار الفرقة التي التهمت الناس كما تلتهم النار الحطب بشراهة وبدون اكتفاء منها.
وبعد أن ضُربت علينا الذلة والمشقة وكتب علينا أن نسيح في الأرض مختلفين لعدة فرق وتناحرهم فيما بينهم وصعوبة الحال وتصارع المصالح واختلاف وجهات النظر في المنطقة، انقلبنا إلى تحزب وتخندق وتوتر كبير، فبعد أن تمكنت منا سياستهم "فرّق تسد"، وضعفت بنا أواصر الوحدة وفقدنا الإيمان بـ"واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا"، ونسينا أن الأعواد المجتمعة لا تكسر وإن اشتدت قوة الكاسر، وأن الأعواد المتفرقة تكسر وإن ضعفت قوة الكاسر، ووصلنا مرحلة من الاختلاف والتشتت بأن الإنسان قد لا يجد ما يختلف به فيحاول أن يشرخ الصف مجدداً ويخرج علينا بما هو جديد لتشتيت الأمة وشق صف الوحدة.
في كل مرة ينصر الله الحق على الباطل ويميز الخبيث من الطيب ويفشل المخططات المزعومة ويجعل كيدهم في نحرهم، فوحد الله المسلمين مجدداً بل وحد العالم بأسره هذه المرة فاتفق الجميع أن فلسطين محتلة وأن المسجد الأقصى أسير وأن الكيان الصهيوني عدو وأنه لا يوجد شيء اسمه "دولة إسرائيل"، وهذا الأمر لا يختلف عليه اثنان فينا، وأن نصرة القدس واجبة فهي مسرى الرسول صلى الله عليه وسلم وثالث الحرمين، وأن أي مساس بها فهو مساس لنا جميعاً، وأن القضية الفلسطينية بعدما تحولت إلى قضية عالمية، ولا شك أنها تمثل كل إنسان ظُلم في هذا العالم، وكل إنسان تعرض لتهميش وقتل وسلب ونهب، هي صرخة ظلم معنفة وجه الظالم، القضية التي ستبقى أيقونة يخلدها التاريخ، ويتذكر أبناؤها بأنهم فتية آمنوا بربهم خرجوا كما خرج سيدنا الحسين سبط رسول الله صلى الله عليه وسلم بوجه الجور والظلم والقهر، وحد الله صفوفنا بلحظة يأس وفقدان أمل بأن يتحد هذا الصف مجدداً مرة أخرى.
اتفق الجميع على حب فلسطين وتبني قضيتهم ورفع راية الأقصى عالياً، وشهد العالم أجمعه مظاهرات من كل الأنحاء نصرة للحق، فإن الله لو أراد أن ينصر الحق فإنه ينصره ويشهد العالم كله على نصره ويذل الظالم وينكس علمه، وها نحن شاهدنا أخيراً مدى قوتنا ومدى تأثيرنا على العالم، ولو توحدنا وسد الخلل لأقيم الحق وازدهرت الدنيا كلها بنا.
نحن الآن بحاجة الى أمر أهم بكثير من أولويات الحياة وهو وحدة الصف، أن يتماسك المجتمع فيما بينه، أن ينصر الأخ أخاه ويشد أزره ويقف بجانبه، ها هو واجبنا أن نقف مع إخوتنا المستضعفين في فلسطين، وأن نشد أزرهم ونكون لهم خير سند ولو بكلمة، ويكون الصديق عوناً في الخير لصديقه والجار يكون جداراً يتكئ عليه جيرانه في الشدة وفي المصائب، وأن يكون الصاحب ناصحاً بالخير محباً لأخيه، فقال رسول الله ﷺ: انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً، فقال رجل: يا رسول الله، أنصره إذا كان مظلوماً، أفرأيت إذا كان ظالماً كيف أنصره؟ قال: تحجزه أو تمنعه من الظلم فإن ذلك نصره.
"وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ".
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:opinions@arabicpost.net
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.