لا تزال تداعيات خطاب رئيس الجمهورية التونسية قيس سعيّد يوم 18 أبريل/نيسان 2021 مستمرة، ومغذية لانقسامٍ حاد في المشهد السياسي التونسي بين مؤيد لسعيّد وخياراته، وبين منتقد لها وبشدة.
وفي الكلمة التي ألقاها الرئيس التونسي في موكب الاحتفال بعيد قوات الأمن الداخلي الذي أقيم في قصر قرطاج، بحضور هشام المشيشي رئيس الحكومة، وراشد الغنوشي رئيس البرلمان، وقادة المؤسسة الأمنية وعدد من كبار الضباط في الدولة، والتي كانت أقرب إلى محاضرة في مادة القانون الدستوري بكلية الحقوق، أعلن أنه القائد الأعلى للقوات المسلحة العسكرية والمدنية.
ويأتي هذا التصريح كتصعيد جديد حول الصلاحيات والقرارات بين الرئيس التونسي ورئيس حكومته هشام المشيشي، ليفتح نزاعاً حول جهاز حساس هو وزارة الداخلية، ويثير المخاوف بانقسام المؤسسة الأمنية، بينما لا تزال البلاد تواجه مخاطر الإرهاب وتعيش في ظل أزمة اقتصادية واجتماعية هي الأسوأ منذ 10 سنوات.
نزاع على الصلاحيات في تونس
لم يكن خطاب قيس سعيّد الأخير خارج سياق الأزمة السياسية التي تعيشها تونس منذ أشهر، وبالتحديد بعد استقالة حكومة إلياس الفخفاخ، الذي اختاره الرئيس سعيّد لتولي هذا المنصب بعد فشل رئيس الحكومة الذي رشحته النهضة للحصول على ثقة البرلمان.
وظهر للعيان بعدها رغبة سعيّد بالحفاظ على دور مؤثر في الحكومة التي اختار مستشاره السابق ووزير الداخلية حينها هشام المشيشي لتشكيلها بعد مشاورات كتابية شكلية، بالإضافة إلى تعيين مجموعة من الأسماء المقربين منه على رأس عدد من الوزارات.
الود بين سعيّد ورئيس الحكومة هشام المشيشي لم يستمر طويلاً حتى برزت للسطح جملة من الخلافات، كان أهمها رفض التعديل الوزاري الذي تم إدخاله على الحكومة، وعدم دعوة الوزراء الجدد لأداء اليمين الدستورية أمام رئيس الجمهورية، في سابقة هي الأولى في تاريخ تونس رغم حصولهم على ثقة البرلمان بأغلبية مريحة.
وتمسّك قيس سعيّد بقراءة مغايرة للدستور التونسي، معتبراً أن رفض قبوله لوزراء اتهمهم بالفساد من صلب اختصاصاته الممنوحة له، وأنه لا معنى لنيل ثقة البرلمان مادام الوزير لم يؤد اليمين الدستورية أمام رئيس الجمهورية.
وفي ظلّ غياب محكمة دستورية، تعاظمت التأويلات للنصوص القانونية من قبل رئيس الجمهورية قيس سعيّد الذي أكّد رفضه لأي مسار لانتخاب أعضاء المحكمة الدستورية بحجة تجاوز الآجال المحددة لانتخاب هذه المؤسسة والتي تم تحديدها بعام واحد بعد انتخابات عام 2014.
مواجهات علنية
لم يكتف الرئيس التونسي برفض ختم التعديلات التي تم إدخالها على قانون انتخاب المحكمة الدستورية، حتى عمد إلى البعث برسالة طويلة تم خطها بعناية في شكل شبّهه التونسيون على مواقع التواصل الاجتماعي برسائل الخلفاء إلى ولاتهم في المسلسلات التاريخية.
هذه الطريقة التي اختارها سعيّد لخوض صراعه مع رئيس الحكومة ورئيس البرلمان تكررت في مناسبات عديدة، حين ظهر في موكب عيد الشهداء يوم 9 أبريل/نيسان الجاري عارضاً رسماً كاريكاتيرياً، نُشر بصحيفة "الشباب" عام 1936، يُظهر البلاد مريضة ملازمة للفراش يُعالجها طبيب ينصح بـ"برلمان وطني محترم ووزارة كاملة مسؤولة"، متوجهاً بالكلام للمشيشي والغنوشي قائلاً: "وكأنّ الأمر يتعلق أيضاً بحالنا اليوم".
في نفس اليوم أوصى سعيد "المشيشي" بالتراجع عن قرار فرض حظر تجول الذي ينطلق من السابعة مساء، في محاولة للظهور في صفّ الفئات الاجتماعية الأكثر تضرّراً من الإجراءات الاحترازية لاحتواء وباء كورونا، ليكون رد المشيشي بأنّ القرار جاء بتوصية من اللجنة العلمية للقضاء على الفيروس. فيعقّب الرئيس التونسي: "ثمة المقترحات العلمية وثمّة أيضاً القرار السياسي".
وفي كلمته التي توجه بها لتهنئة الشعب التونسي بدخول شهر رمضان، قال سعيد من عتبة جامع الزيتونة، غداة عودته من زيارة مثيرة للجدل إلى مصر: "إن القرآن الكريم توجّه إلى المسلمين والمؤمنين وليس للإسلاميين"، متهماً تياراً محدداً بـ"بثّ التفرقة في المجتمع".
النهضة تتهم الرئيس
كل هذه المواقف التي أطلقها قيس سعيّد قوبلت بصمت، إلا أنه بعد خطابه الأخير لم يتأخّر رئيس الحكومة هشام المشيشي للرد عليه، إذ قال في تصريح إعلامي إنّ "تصريحات رئيس الجمهورية بخصوص صلاحياته خارج السياق"، مضيفاً أنّه "لا موجب للقراءات الفردانية والشاذة للنص الدستوري".
وشدد المشيشي على أنّ هذه "التصريحات تُذكّرنا أيضاً بالأولوية القصوى لتركيز المحكمة الدستورية والتي تمثّل الهيكل الوحيد للبت في مثل هذه المسائل".
في الوقت نفسه اتهمت حركة النهضة في بيان حمل توقيع زعيمها راشد الغنوشي رئيس الدولة بـ"خرق الدستور"، معتبرة أنّ "إقحام المؤسسة الأمنية في الصراعات يمثل تهديداً للديمقراطية والسلم الأهلي ومكاسب الثورة".
وأضافت النهضة في بيانها الذي اعتبره محللون أنه الأشد لهجة في تعامل النهضة مع خصومها السياسيين، أن "إعلان رئيس الدولة نفسه قائداً أعلى للقوات المدنية الحاملة للسلاح يعتبر دوساً على الدستور وقوانين البلاد وتعدياً على النظام السياسي وعلى صلاحيات رئيس الحكومة".
وأكدت النهضة "رفضها المنزع التسلطي لرئيس الدولة"، داعيةً "القوى الديمقراطية إلى رفض هذا المنزع واستكمال البناء الديمقراطي وتركيز المحكمة الدستورية".
وأمام تصاعد النزاع بين رأسي السلطة التنفيذية في تونس، وتوسع دائرة منتقدي رئيس الجمهورية، خاصّة بعد تأويله الأخير للدستور وإعلان نفسه قائداً أعلى للقوات المسلحة العسكرية والمدنية، اعتبر القيادي في حزب الأمل أحمد نجيب الشابي في تدوينة له يوم 19 أبريل/نيسان 2021 أن "قيس سعيد يستغل الثغرات القانونية من أجل الانقلاب على السلطة تدريجياً"، واصفاً سلوكهُ بأنّه "تأويل فردي لأحكام الدستور يستغلها لصالحه".
وأضاف المتحدث أن "الأخطاء الجسيمة لرئاسة الدولة أصبحت موجبة للمساءلة وحتى العزل"، وفسّر المرشح الرئاسي السابق أنّ "رئيس الدولة يستغل الثغرات لمحاولة الزحف على الحكم وبسط النفوذ".
بينما ذهب الحزب الجمهوري المعارض في بيان له إلى اعتبار أن "إقحام الأجهزة الحساسة للدولة في الصراع بين رأسي السلطة التنفيذية يهدد استقرار وأمن البلاد ويفتح مخاطر جمة قد تعصف بأركان الدولة الديمقراطية"، كما أن "الحوار الوطني 'يبقى السبيل الوحيد لمعالجة مشاكل البلاد وتجنيبها الانزلاق نحو مآلات وخيمة".
مواجهة لن يفوز فيها أحد
من جهته، يرى النائب والقيادي في حركة النهضة سمير ديلو أن "التّخوّف مشروع، ولكنّي متأكّد أنّ الرّوح الوطنيّة ستفرض على من هم في قيادة المؤسّسات المحافظة عليها، وأنّ التّحدّيات الكبيرة التي تعيشها البلاد -اقتصادياً وصحّيّاً وأمنيّاً- ستدفعهم إلى تغليب صوت العقل".
وأضاف ديلو في حديثه مع "عربي بوست" أن "ما يجري من تجاذبات إعلاميّة ومن تطوّرات متلاحقة بين سعيّد والمشيشي لا يبعث على التّفاؤل، ولكن لا خيار إلاّ بذل الجهد لمنع مواجهة لن يفوز فيها أحد".
وأكّد القيادي في النهضة أن "الحوار الوطني -بالمعنى التّقليدي- لم يعد ممكناً في الظّروف الحاليّة، لكن ما يجب أن يتمّ دون تأخير هو استعادة التّواصل والحوار وطرح النّقاط الخلافيّة بعيداً عن التّراشق بالتّصريحات السّياسيّة وعن تناطح التّأويلات الدّستوريّة".
واعتبر المتحدث أن "أصعب ما في الأزمة الحاليّة -بالمقارنة مع سابقاتها- هو عدم وجود أيّ رغبة في الحوار واللّجوء إلى الحلول القصوى سواء كان ذلك في صراع الصّلاحيّات أو في مفردات الخطاب التّواصليّ، الكثيرون يتصرّفون وكأنّهم يستعدّون لحرب لا مكان فيها لتنازلات، وهذا غير معقول ولا مقبول".
من جهته، يرى الناشط السياسي والمدير السابق لديوان رئيس الجمهورية عدنان منصر في حديث لـ"عربي بوست" أن "الأزمة مرشحة فعلاً للتصاعد، واستعمال مؤسسات الدولة في هذا الصراع واضح، وقد بدأ منذ أشهر، وأن ما نشهده اليوم هو مجرد منعرج في هذا الاستعمال".
وأضاف منصر: "في الأصل حوار وطني بالطريقة التي طرحها اتحاد الشغل أمر تجاوزته الأحداث، ولا أمل بنجاح أي مبادرة لا تأخذ بعين الاعتبار التطورات اللاحقة للأزمة، حيث إن الحوار يبدأ عندما تشعر الأطراف المتواجهة أن الخسارة ستصبح أمراً واقعاً إن لم يتلقف الأمر حوار ما فيما بينها. المشكلة هي أننا لم نبلغ إلى حد الآن هذه المرحلة، فأول مرحلة في الحوار هي إيقاف الهجمات الإعلامية المتبادلة، هذه أيضاً مرحلة لم تبدأ بعد، وأعتقد أنه بإمكان الاتحاد استئناف دوره، ولكن مع تحيين مبادرته، وعدم اتباعه نفس النهج الذي اتبعه في حوار 2013 ".
وأكّد عدنان منصر أن الأزمة ليست فقط بين قيس سعيد وراشد الغنوشي، لأن اعتبار الأمر كذلك سيحملنا لحلول توافقية ينتهي مفعولها بتغير الأشخاص، وهذا ما حصل اليوم مع توافقات 2013، ولا يجب أن نقع مجدداً في نفس هذا الفخ المنهجي الكبير.