موجة غضب عارمة تشهدها مدينة القدس بعد قيام عشرات المستوطنين بإقامة احتفالات في المدينة، على وقع تسريب للعقارات، قامت بها جمعية "عطيرت كوهنيم" الاستيطانية، تضمنت نقل ملكية 3 عقارات في حي سلوان ذي الموقع الاستراتيجي المطل على المسجد الأقصى من البوابة الجنوبية من ثلاث عائلات مقدسية إلى مواطنين إسرائيليين.
الحادثة تسببت في صدمة كبيرة لدى الأوساط المقدسية، كون العقارات المسربة تقع في منطقة بطن الهوى داخل سلوان، وهي أعلى نقطة بالحي، يمكن من خلالها مشاهدة معالم المسجد الأقصى كاملة.
جرت الحادثة في صمت دون أي مقدمات، تم الكشف عنها بعد أن وفرت شرطة الاحتلال حماية أمنية لنحو 100 مستوطن في ساعة متأخرة من مساء الجمعة التاسع من أبريل/نيسان، لإقامة احتفالات داخل الحي، وتم رفع العلم الإسرائيلي على سقف المباني المسربة، وهي عبارة عن عمارتين متلاصقتين من 4 طوابق تضم 16 شقة سكنية وقطعة أرض بمساحة 500 متر مربع.
شركات الاستيطان والدور الإماراتي
فتحت هذه الحادثة الباب لفتح ملف تسريب العقارات في مدينة القدس، والأسباب التي تؤدي لوقوع مثل هذه الحوادث بشكل متكرر، وتحديداً في الأشهر الأخيرة، والدور الذي تلعبه شركات الاستيطان الإسرائيلية بالتواطؤ مع بلدية القدس التابعة للاحتلال.
جمال عمرو الأكاديمي الفلسطيني من القدس والخبير في شؤون الاستيطان قال لـ"عربي بوست" إن "الطرق التي جرت بها عملية تسريب العقارات الأخيرة في سلوان هي ذات الطرق المتبعة في السابق، ومن ذات السماسرة الذين يتسترون بلباس ديني وباتوا ينشطون في المدينة في الأشهر الأخيرة، وبعضهم مرتبط بجهات خليجية، يأتون لصاحب العقار لمفاوضته على بيع العقار أو تأجيره بحجة إيواء الحجاج المسلمين من الخليج الذين يأتون للمدينة بين الفينة والأخرى لزيارة المسجد الأقصى، وزاد عددهم بعد اتفاق التطبيع الإماراتي- الإسرائيلي، وفجأة تجد أن العقار تم بيعه لإسرائيليين من خلال ثغرات يتضمنها عقد الإيجار أو البيع".
وأضاف أن "قيمة كل عقار تم بيعه في الصفقة الأخيرة تتجاوز المليون دولار، والمرجح لدينا أن أصحاب هذه العقارات تمت مساومتهم لتسوية الغرامات المفروضة عليهم دفعها للبلدية مقابل بيع العقار، وتوفير ممر آمن لخروجهم لإحدى الدول الأوروبية أو العربية، لأن بقاءهم في القدس أو الضفة الغربية سيعرض حياتهم للخطر".
وتابع أن "بلدية القدس التابعة للاحتلال تفرض غرامات على 22 ألف منزل عربي في مدينة القدس بما فيها البلدة القديمة تتراوح ما بين 10-20 ألف دولار سنوياً، وهو رقم يعد كبيراً جداً بالنظر لمستوى المعيشة لسكان القدس الذي بالكاد يستطيعون توفير لقمة العيش لأسرهم بسبب نظام الضرائب الباهظة التي تفرضها وزارة المالية أو بلدية الاحتلال".
لافتاً إلى إن "الشعور العام لدى سكان القدس بأن دورا مشبوها للإمارات يقف خلف عملية تسريب العقارات الأخيرة للمستوطنين، مشيرا إلى أن وجود بعض المؤسسات الإماراتية في القدس كمؤسسة القدس للتطوير والتنمية التي يديرها رجل الإمارات سري نسيبة، يثير الكثير من القلق عن مساعي الإمارات لتسهيل عملية بيع العقارات من سكان القدس إلى المستوطنين". وأضاف أن "هيئة علماء مسلمين في القدس ومجلس الإفتاء الأعلى رصد خلال السنوات الأخيرة، مسؤولية الإمارات عن تحويل عشرات الملايين من الدولارات لشراء عقارات في مدينة القدس، ثم يتم نقل ملكيتها إلى المستوطنين". وفي وقت سابق من يوم أمس اتهم حسن خاطر رئيس مركز القدس الدولي دولة الإمارات بالمسؤولية المباشرة عن عملية تسريب العقارات الأخيرة في سلوان، مشيرا إلى أن الأموال التي جاءت لشراء العقارات حولت من الإمارات.
غياب المستوى الرسمي
تركت هذه الحادثة أصداء واسعة على مستوى التعامل الرسمي الفلسطيني مع المتورطين أو المتهمين في تسريب العقارات، حيث وجهت انتقادات شديدة اللهجة لغياب منظومة قانونية وتشريعية تلاحق من يثبت تورطه في عمليات تسريب العقارات، سواء أكانوا بشكل شخصي أو من خلال الكيانات التي يمثلونها.
وسارعت الأوساط الدينية الإسلامية إلى إدانة حادثة تسريب العقارات، واصفة ما جرى بالأمر الخطير، وأصدر خطيب المسجد الأقصى الشيخ عكرمة صبري فتوى تصف من يتورط في عمليات تسريب العقارات في القدس، بارتكاب الخيانة العظمى للدين والوطن.
كما أطلق أهالي حي سلوان وثيقة شرف، لمقاطعة مسربي العقارات والأراضي وبائعيها للمستوطنين، وتضمنت عدم الزواج منهم، أو تزويجهم، وعدم الغسل والتكفين أو الدفن بمقابر المسلمين، أما العائلات التي تورط بعض أبنائها في الحادثة فأصدرت بياناً تتبرأ من قاطني المنازل المسربة، ورفع الغطاء العائلي والعشائري عنهم.
حنا عيسى، الوكيل المساعد للشؤون المسيحية في وزارة الأوقاف، والأمين العام للهيئة الإسلامية المسيحية لنصرة القدس، قال لـ"عربي بوست" إن "ما جرى في حي سلوان امتداد لسلوك يقوم به الطابور الخامس الذي يحاول أن يفرض نفسه في المعادلة السياسية بتمويل من إحدى دول الخليج، فالمتتبع لما يجري في القدس في الأشهر الأخيرة يرى بوضوح تسارعاً في عمليات تسريب العقارات تنم بطريقة ممنهجة وخطيرة، من خلال الادعاء بأن شراء العقارات موجه لخدمة الحجاج المسلمين القادمين من دول الخليج، ولكن حقيقة الأمر أن عملية الشراء والبيع تديرها جمعيات الاستيطان الإسرائيلية عبر محامين عرب ورجال دين قادمين من الخارج".
وأضاف أن "السلطة الفلسطينية ليس بمقدورها مواجهة هذه الحوادث المتكررة، فهي لا تمتلك السيطرة على المدينة، والتغول الإسرائيلي مكّن الاحتلال من السيطرة على أكثر 88% من إجمالي مساحتها، ولكن ما هو مطلوب من المستوى الرسمي أن يعاد تشكيل صياغة القوانين التي تجرم هذه الحوادث عبر المجلس التشريعي القادم أو مراسيم رئاسية تلاحق المتورطين، كون جزء من هذا النشاط يتم عبر أطراف فلسطينية وعربية مسنودة من شخصيات توفر لها غطاء وحماية".
تعد مدينة القدس ذات خصوصية عن باقي المدن الفلسطينية، فهي من جهة يعتبرها الفلسطينيون عاصمتهم الأبدية، في حين ترفض دولة الاحتلال الاعتراف بهذه المكانة، وتعتبرها امتداداً لها، وتحاول ترسيخ سياسة الأمر الواقع من خلال سلوكيات مختلفة لتغيير الواقع الجغرافي والديموغرافي فيها، بما يدعم مشروعها القومي لتحويل المدينة إلى عاصمة أبدية لدولتهم، حيث يتركز نشاط تسريب العقارات في البلدة القديمة التي تضم المسجد الأقصى وكنيسة القيامة، وتقدر مساحتها بأقل من كيلومتر مربع وأشهرها حي سلوان وحي الشيخ جراح.
أحمد أبوحلبية المقرر السابق للجنة القدس في المجلس التشريعي قال لـ"عربي بوست" إن "ما يجري في القدس هو إنذار بخطورة الوضع على بقاء المدينة تحت السيطرة الفلسطينية، فعمليات التهويد وتسارعها تنذر بأن القدس مقبلة على كارثة كبيرة قد تصل إلى طرد المقدسيين من المدينة، وتغيير الوضع القائم داخل المسجد الأقصى، بما يسمح بتغيير التقسيم الزماني والمكاني لتقاسمه بين اليهود والمسلمين، وهذا لن يحدث إلا بعد إفراغ المدينة من حضورها العربي عبر مخططات تسريب العقارات".
من الواضح أن ما يجري في القدس معركة يقودها الفلسطينيون بصمت، برفض الانجرار وراء مربع التهويد الذي تقوده إسرائيل ضمن ثلاث حلقات مرتبطة ببعضها البعض، تبدأ ببلدية الاحتلال التي تفرض غرامات مالية كبيرة على سكان المدينة لدفعهم لمغادرة المدينة، مروراً بجمعيات الاستيطان وأهمها "عطيرت كوهنيم" و"إلعاد" لمقايضة أصحاب هذه العقارات عبر محامين فلسطينيين مشبوهين لنقل ملكية هذه العقارات للمستوطنين، وانتهاء بدولة الإمارات وأذرعها المختلفة في المدينة التي تمول عمليات الشراء لنقل ملكية العقارات من الجانب الفلسطيني إلى الإسرائيلي لاحقاً.