لا تختلف قواعد المفاوضات السياسية كثيراً، فمن الطبيعي أن تجد في هذه اللُّعبة خطوة للأمام من أحد أطراف المعادلة، وتراجعاً للخلف في التوقيت نفسه، بل والثناء على كلا التصرفين في آن واحد! لذا أصبح من المعلوم للجميع أن مصر وتركيا تستعدان لفتح صفحة دبلوماسية جديدة، بعدما غازل كل منهما الآخر بتهدئة النبرات الإعلامية على أرضه، أو ما يُعرف بـ"الالتزام بقواعد المهنية"، لكن الغريب في الأمر أن الشاشات في كلا الطرفين مصرية.
استباق الأحداث.. هل تحدّث الضابط أشرف؟!
مساء الـ16 من يناير/كانون الثاني الماضي 2021، ظهر الإعلامي أحمد موسى، المقرب من الأجهزة الأمنية للسيسي، على فضائية صدى البلد، يتوعَّد المُعارضة المصرية في إسطنبول بغلق قنواتهم قريباً كحدٍّ أدنى -حسب وصفه- ومن بعدها ستكون هناك قائمة بأكثر من 200 اسم لتسليمهم، أخذ موسى يُكرر انفرادَه متفاخراً بابتسامة عريضة مصحوبة بنشوة النصر، وكأنه يُصرّح بموعد استرداد مصر حصة مياه النيل!
بعد هذا التاريخ بشهرين تقريباً، في الـ18 من مارس/آذار 2021، طلبت تركيا من قنوات المعارضة المصرية في إسطنبول الالتزام بالخط التحريري المنضبط تجاه النظام المصري، لخلق بيئة دافئة تحتضن مفاوضات قطبي المتوسط، ليستفيد منها الطرفان في ملفات مشتركة، سواء على الأرض في ليبيا، أو بحراً، لترسيم حدود شرق المتوسط، وجاء هذا بعد أشهر من التواصل الاستخباراتي رفيع المستوى للطرفين منذ أحداث 2013، عقب اعتقال الرئيس محمد مرسي والانقلاب عليه، كما وصفته تركيا.
معايير المهنية المطلوبة من الطرفين وجدية الالتزام بها
لم تكد شمس اليوم الذي أبلغت فيه تركيا المعارضة المصرية بالقرارات الجديدة تغرب إلا وامتلأ الإعلام المصري المؤيد للنظام وتابعوه من قنوات السعودية والإمارات بالأخبار المُفبركة. فضائية "العربية" بالتحديد أمطرت الأخبار العاجلة التي تحرك الأدرنالين فقط من مكانه، لكنها لا تمتّ للواقع بصلة، حيث ادَّعت وضع عدد من قيادات الإخوان في تركيا تحت الإقامة الجبرية، وإمكانية تسليمهم للقاهرة، وغلق القنوات أو تحويلها لمنوعات، وهو ما لم تثبت صحته على الإطلاق، ولم يتم حتى الاعتذارعنه! والبرنامج الوحيد الذي اعتذر عن الظهور هو برنامج الشارع المصري على قناة الشرق، حسب صفحته الرسمية، دون توضيح السبب.
أما عن مهنية القنوات المناهضة للسيسي فلا يُنكر أحد بداخلها ضرورة التطوير والتدقيق والاحتياج لاتساع رقعة الإمكانيات، لا أحدثك عن تحليل للأمر، لكن أُخاطبك كترس سابق داخل إحدى هذه الفضائيات لفترة ليست بالقصيرة.
أكد الإعلامي محمد ناصر، المذيع بقناة مكملين، على شاشة الجزيرة، أن الضبط والتطوير يُناقش كل يوم قبل كل حلقة بين أفراد الإعداد، ولكن دعني أنقل أنا لك الحقيقة الكامنة حول ما ترونه من حدة اللهجة المُقدمة علناً على الشاشات، حيث إن 90% منها لا يُكتب في "الاسكريبت" المُقدم، لكنه نابع من "خطايا السيسي"، حيث لا يخلو منزل لكل مَن يظهر على هذه الشاشات من مختطف في السجون، أو مختفٍ قسرياً، أو مصاب، أو شهيد في مجزرة، أو متهم بالخيانة كل يوم في إعلام السيسي ويواجه مئات القضايا!
على سبيل المثال شقيق الإعلامي معتز مطر تعرّض للاعتقال، ومثله شقيق المتحدث السابق باسم حزب الحرية والعدالة حمزة زوبع، وحرق منزل حسام الشوربجي في سيناء، واعتقل قبل سنوات شقيق الإعلامي أحمد سمير ومحمد ناصر وأقارب هشام عبدالله. (حسب منظمة العفو الدولية في تقرير الانتقام من أقارب المعارضين).
فالحقيقة التى يراها هؤلاء هي أن أدوات الحرب غير عادلة حتى تتحدث عن المهنية، فلا تقارن شاشات تبث من مصر يساندها السلاح والمال والأدوات والنظام، بمن لا يملكون إلا الكلام ليعبروا عما يتعرضون له من ظلم، ورغم هذا فليس هناك مبرر للحياد عن المهنية، لكن وجب ذكر بعض الأسباب.
مهمة الإعلام الحقيقية وهل نجح إعلام المعارضة في الدور المنوط به؟!
بالطبع العمل الإعلامي لم يُخلق لتنتصر لنفسك على الشاشات، لكن المهمة الأمثل هي توعية الجمهور ليكون قادراً على اتخاذ قراره نحو ما يدور حوله من فساد، لذا فمهمة الإعلام كشف الحقائق للشعب، وليس أن يأخذ الشعب من يديه للميدان.
وليس المقصود هنا تحميل الشعب أكثر من طاقته، فهو يخشى السلاح الباطش في يد السلطة، وإذا سمح النظام بفتح الميادين فسترى كيف قام الإعلام المعارض بدوره في نقل الحقائق التي لا يجدها عند أحمد موسى وعمرو أديب وباقي الأذرع الإعلامية لنظام السيسي، وحين تأتي هذه اللحظة ستجد الجميع يُثني على إعلام المعارضة، الذي لو اختفى من الساحة ستتحول مصر إلى كوريا الشمالية، لا يعرف الشعب إلا ما يريده إعلام السيسي فقط، ولا صوت سيعلو على صوت السلاح، ولا يميز الشعب بين الحقيقة والتزوير، ولنا العبرة بعهد عبدالناصر أيضاً، الذي لم يكتشف المصريون حقيقة سياسته إلا في أوقات متأخرة.
هل تتحمل تركيا الفاتورة.. وما مستقبل هذا التقارب؟
رحّب وزير الإعلام المصري في حكومة السيسي أسامة هيكل بالخطوات التركية، كما رحبت رموز تركية بنفس الخطوة، حيث كشف أستاذ علاقات دولية في جامعة تركية، أن هناك زيارة مرتقبة لأعضاء حزب الشعب الجمهوري للقاهرة، وهو الحزب المعارض لنظام أردوغان، كما اتفق معظم إعلاميي المعارضة، من بينهم محمد ناصر ومعتز مطر، على عدم تحميل تركيا فاتورة كبيرة مما يحدث أو ما سيحدث، لكن لماذا تتفاوض مصر مع تركيا على إعلام المعارضة المصرية؟ أليس من الأولى أن تطلب مصر اعتراف نظام تركيا بشرعية النظام المصري؟
لذا يرى بعض المعارضين أنه سيكون هناك سقف أعلى من المطالب للنظام المصري، وعليهم الخروج من تركيا حتى لا يكونوا داخل معادلة سياسية لا يعرف مدى تطوراتها في المستقبل، وهذا ما أكده الإعلامي محمد ناصر، بأنه لن يحتمل التضييق، وربما يبحث عن بلد آخر؛ "كندا أو أمريكا"، ليعبر عن نقده لنظام السيسي.
وتخشى تركيا أن تنجرف للتنازل عن مبادئها، لذا شرعت في حماية بعضهم بمنح الجنسية لأكثر من 700 معارض مصري خلال السنوات الماضية، حسب موقع "ميديل إيست آي" البريطاني، كما أكدت تركيا على التزامها بالميثاق الأخلاقي والحقوقي تجاه هؤلاء المعارضين.
ويبقى السؤال هو، ما أثر التقارب المصري التركي على قنوات المعارضة المصرية مستقبلاً؟
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:opinions@arabicpost.net
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.