قبل أكثر من 7 سنوات، وتحديداً في أكتوبر/تشرين الأول من عام 2013، تحدث الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي، حينما كان لا يزال وزيراً للدفاع، في لقاء خاص مع ضباط الجيش المصري، عن حاجة القوات المسلحة لأذرع إعلامية لكي تضمن ولاء الإعلام المصري وتتجنب أي انتقادات، لكنَّ أحداً لم يكن يتخيل أن يكون تصوُّر السيسي لتلك الأذرع هو السيطرة الكاملة تقريباً على وسائل الإعلام التي كانت مستقلة، عبر شركات وكيانات تابعة لأجهزة المخابرات المختلفة.
لا يثير المشهد الإعلامي في مصر قلق المنظمات الحقوقية وآلاف الإعلاميين المصريين فقط ولكنه أيضاً يثير دهشة المتابعين، بسبب استمرار النظام المصري في محاولات الهيمنة على وسائل إعلامية جديدة، رغم الفشل الظاهر في إدارتها من قِبل الأجهزة السيادية التي أنشأتها الدولة، سواء بشكل صريح أو من خلال التعاون مع رجال أعمال على مدى السنوات الماضية.
هذا المشهد المهترئ وصفه بوضوح، الدكتور أيمن منصور ندا، أستاذ الإعلام ورئيس قسم الإذاعة والتلفزيون في كلية الإعلام بجامعة القاهرة، في مقال على صفحته بفيسبوك، وعلى الرغم من حذفه فإنه تم تداوله من بعض الإعلاميين، منهم الإعلامي حافظ الميرازي: "ما حدث خلال السنوات السبع الماضية في ملف الإعلام، لو تم تكليف أحد، عامداً متعمداً، بتخريب البيئة وتجريف الأرض الإعلامية ما قام بأكثر مما تم.. وسوف نظل نعاني سنوات عديدة قادمة، من جراء ما حدث.. تم ترسيخ ممارسات غير مهنية، وتصعيد إعلاميين غير محترفين.. والتخلص من كفاءات حقيقية.. واختيار قيادات غير مناسبة في المواقع المختلفة.. وسادت أخلاقيات ممارسة ما كان لها أن تسود.. وكله بالقانون، وكله تحت عين وسمع الدولة ومباركتها..".
خطة للسيطرة على الإعلام..
وكانت خطة الدولة للسيطرة على أجهزة الإعلام قد تبلورت لأول مرةٍ عام 2016، حينما قام رجل الأعمال المثير للجدل أحمد أبوهشيمة بشراء مجموعة قنوات أون من مالكها السابق الملياردير نجيب ساويرس، وذلك من خلال شركة إعلام المصريين التي أسسها أبوهشيمة في ذلك الوقت، لتكون الذراع الإعلامية -كما قيل وقتها- لشركته الأساسية "حديد المصريين".
وعلِم "عربي بوست" من مصادر موثوقة على علاقة بالصفقة، أنها بدأت بما يشبه الصدفة، حين كان ساويرس يتلقى ملاحظات مستمرة من الأجهزة الأمنية تنتقد أداء القناة وتوسعها النسبي في انتقاد سياسات الحكومة، وهو ما كان يُغضب السيسي، الذي يعتقد أن دور الإعلام المهني المحايد هو الإشادة بالإنجازات فقط دون التطرق إلى المشاكل أو أوجه التقصير.
استغلت الأجهزة تورط ساويرس في انتقاد السيسي شخصياً وكثير من الشخصيات المعروفة في الدولة، خلال جلسة خاصة مع مذيعة مشهورة بالقناة نفسها في ذلك الوقت، ليتم استدعاء الملياردير وتهديده ببيع قناة "أون تي في" أو تحويل أمره إلى التحقيق، فرضخ ساويرس ووافق على بيع القناة إلى رجل الأعمال أحمد أبوهشيمة مقابل نصف مليار جنيه مصري، رغم أنه كان قد عرضها للبيع قبل ذلك بعام واحد مقابل 230 مليون جنيه فقط ولم يجد من يشتريها.
أبو هشيمة تلقى تعليمات لشراء قناة "أون تي في" من ساويرس قبل أن يتم إبعاده في العام التالي
مثلما حدث مع ساويرس دار الأمر نفسه مع أبو هشيمة الذي تلقى تعليمات واضحة بشراء القناة، وجرى دعمه مالياً بنحو نصف مليار جنيه من جهاز سيادي مهم، لإنجاز الصفقة والشروع الفوري في تطوير القناة، وهو ما كان يعني طرد كل الأصوات المستقلة منها وعلى رأسهم المذيعة اللبنانية البريطانية ليليان داود.
اللافت أن أبوهشيمة لم يكتفِ بشراء "أون تي في"، ولا بإطلاق قناة رياضية متخصصة تحمل اسم "أون سبورت" وأخرى للمنوّعات باسم "أون إي"، لكنه تغلغل من خلال شركته في نسيج الإعلام المصري، فاستحوذ على جرائد اليوم السابع ودوت مصر وصوت الأمة وغيرها بخلاف عدد من المواقع الإلكترونية الإخبارية. لكن أبو هشيمة غادر المشهد الإعلامي بشكل مفاجئ وغريب في العام التالي، حين اشترت شركة إيجل كابيتال القابضة التي تمتلكها المخابرات العامة، نسبة حاكمة من أسهمها.
يقول إعلامي معروف عمِل فترة في الإدارة العليا لشركة إعلام المصريين، لـ"عربي بوست"، إنه تم استبعاد أبو هشيمة لسببين جوهريين كما قيل لنا وقتها: الأول أنه كان مجرد واجهة للمخابرات العامة في "إعلام المصريين"، وبدأ يتصرف كما لو أنه المالك الفعلي للمجموعة الإعلامية، والثاني عدم رضى الدولة (ويقصد بها الرئيس شخصياً) عن أداء قنوات أون ودورها في تعزيز شعبية النظام، فتقرر أن تتولى المخابرات بنفسها ادارة المجموعة الإعلامية.
المفارقة، كما يقول الإعلامي، أن الاجتماع الأول مع داليا خورشيد، رئيسة مجلس إدارة شركة إيجل كابيتال ووزيرة الاستثمار السابقة، كشف عن تخبُّط واضح وافتقاد الرؤية لما تريده الدولة والرئيس والمخابرات من المجموعة الإعلامية، فهي طالبت القيادات الحاضرة في الاجتماع بأداء إعلامي قوي يوضح الدور المهم الذي تقوم به الدولة للحفاظ على البلد من الأخطار الخارجية والداخلية التي تحيط بها، والتركيز على إنجازات الرئيس وأهميتها لخدمة الشعب، لكنها في الكلمة نفسها أكدت ضرورة أن تحقق كل المنصات الإعلامية أرباحاً حتى تستمر، دون أن تعي التضارب الواضح بين الهدف التجاري والرسالة الإعلامية التي طالبت بتوصيلها.
تراكم الخسائر لم يمنع "إعلام المصريين" وقياداتها المخابراتية من شراء مزيد من القنوات
علِم "عربي بوست" من مصادره داخل المجموعة، أنها أخفقت في تجنب الخسائر المادية الباهظة رغم إشراف المخابرات المباشر على عمليات التشغيل، من خلال قيادات مخابراتية تشارك في إدارة المجموعة، إلى جانب تامر مرسي، صاحب شركة سينيرجي للإنتاج الفني وهو رجل مخابرات سابق أيضاً، حيث بلغت الخسائر في عام 2018، ما يزيد على 6 مليارات جنيه.
لكن الخسائر المتراكمة لم تردع القائمين على "إعلام المصريين" عن مواصلة سياسة الاستحواذ على قنوات جديدة، لأن الأمر لا يتعلق بدراسات سوقية أو دراسات جدوى، ورؤى واضحة حول ما تريده إدارة المجموعة من استحواذها على تلك القنوات، بقدر ما يتعلق بتنفيذ تعليمات "عليا" بشراء مزيد ومزيد من القنوات الخاصة؛ حتى تشارك في طابور الإشادة بإنجازات الرئيس.
وفي عام 2018 استحوذت "إعلام المصريين" على مجموعة قنوات "سي بي سي" المملوكة لشركة المستقبل التي كان يملكها رجل الأعمال "الغامض" محمد الأمين، الذي ظهر فجأة في المشهد الإعلامي المصري بعد ثورة 25 يناير/كانون الثاني من عام 2011، حيث أسس قناة "سي بي سي"، ثم توسع في السنوات اللاحقة فأطلق عدة قنوات إضافية مثل إكسترا الإخبارية وسفرة ودراما.
وواجه الأمين اتهامات عديدة بأنه كوَّن ثروته من غسل الأموال، لكن المعروف عنه أنه كان مهندساً عمِل لسنوات طويلة في مجال توريد الأدوات الصحية بدولة الكويت، إنما لم يُعرف الكثير عن ثروته ومصدرها.
وفي العام نفسه اشترت "إعلام المصريين" مجموعة قنوات الحياة من شركة فالكون للخدمات الأمنية التي استحوذت عليها في عام 2017 من مالكها السيد البدوي، كما استحوذت أيضاً على قنوات النهار من صاحبها علاء الكحكي.
شركة فالكون الأمنية تستحوذ على قنوات الحياة مقابل الملفات السوداء للسيد البدوي
يقول ي. س، وهو خبير إعلامي مصري، إن مسألة استحواذ الأجهزة السيادية على المجموعات الإعلامية المختلفة، لم تواجه أي صعوبات، ليس لأن أصحاب تلك القنوات لديهم دوافع وطنية أو تفهُّم لضرورة سيطرة الدولة على الإعلام، ولا حتى لطمعهم في تحقيق أرباح من صفقات البيع، وإنما لأن الأجهزة السيادية تملك ملفات سوداء لكل منهم، تهددهم بإخراجها وقت الحاجة، ما يجعل كل صاحب قناة يهرول للتخلي عنها.
أبرز دليل على ذلك ما حدث في صفقة شراء مجموعة قنوات الحياة التي كان يملكها السيد البدوي رجل الأعمال الشهير في قطاع الدواء، ففي عام 2017 أعلنت شركة فالكون، وهي في الأساس شركة تابعة لإشراف وزارة الداخلية المصرية متخصصة في الخدمات والاستشارات الأمنية، أن مجموعة "تواصل"، إحدى شركات مجموعة "فالكون"، وشركة "سيجما" للإعلام، وقّعتا اتفاقية إطارية تستحوذ من خلالها الأولى على شبكة قنوات "الحياة" الفضائية، وبدلاً من التفاوض مع البدوي على المبلغ المناسب للتخلي عن المجموعة، قام المفاوض بإخراج ملفات من درج مكتبه، تخص كل مخالفات البدوي منذ بدء نشاطه التجاري، متضمناً عدداً غير قليل من الشيكات المرتجعة بدون رصيد، وأحكام قضائية بسجنه حصل عليها أصحاب الشيكات المرتجعة، وبالتالي قام الرجل بتوقيع عقد بيع مجموعة "الحياة" دون أن يقبض جنيهاً واحداً.
وحول الهدف من السيطرة على المنصات الإعلامية الخاصة كافة، دون الاهتمام بإنفاق تلك المليارات على تطوير الإعلام الحكومي الذي يُصطلح على تسميته في مصر بالإعلام القومي، قال الخبير الإعلامي، إن السيسي يؤمن بالحكمة التي تقول "شراء العبد ولا تربيته" بمعنى أن الأسهل شراء كيان جاهز بدلاً من إضاعة الوقت والجهد في بناء كيان من الصفر وقد لا ينجح، لكن المفارقة أن كل القنوات التي استحوذت عليها الأجهزة الأمنية تحقق فشلاً ذريعاً إعلامياً ومالياً، لسببين: أولهما سوء إدارة الضباط لتلك الكيانات الإعلامية وافتقادهم الرؤية والهدف، وهو ما قاد إلى السبب الثاني الذي يتمثل في أن القنوات التابعة للأجهزة أصبحت تقدم إعلاماً تعبوياً، مثل ذلك الذي كان يقدَّم في عهد الرئيس الراحل عبدالناصر الذي يحسده السيسي على أنه كان لديه إعلام مساند وداعم، لكن هؤلاء الضباط لا يدركون أن ما كان يصلح أيام عبدالناصر لم يعد يصلح الآن في زمن مواقع التواصل الاجتماعي والإنترنت والفضاءات المفتوحة التي مكَّنت أعداداً غير قليلة من المصريين من متابعة القنوات المعارضة التي تُبث من تركيا؛ بحثاً عن معلومات حقيقية لا يقدمها لهم الإعلام المحلي في مصر.
تجربة غير موفقة للمخابرات الحربية مع قنوات "دي إم سي"
في يناير/كانون الثاني من عام 2017، أقدمت المخابرات الحربية على إطلاق مجموعة قنواتها الخاصة التي حملت اسم "دي ام سي"، فيما بدا أنه انعكاس للصراع الدائر بين الأجهزة السيادية في مصر على توسيع مناطق نفوذها، وأسندت إدارة المجموعة الى طارق إسماعيل الذي كان قد أسس شركة دي ميديا للإنتاج الإعلامي قبل ذلك بفترة بسيطة، بينما كان نشاطه الرئيسي قائماً على تجارة الملابس والسيارات باعتبار أنه يملك واحداً من أكبر معارض السيارات في مصر باسم معارض الطارق.
يحكي م. ا، وهو أحد الإعلاميين الذين عمِلوا في منصب قيادي بقناة "دي إم سي نيوز" التي لم ترَ النور، أنهم تعاقدوا معهم وظلوا عامين تقريباً يجهزون للإطلاق، لكن ذلك الموعد لم يأتِ قط رغم حماسة السيدة منال الدفتار رئيسة القناة وبقية فريق العمل، مضيفاً بابتسامة سعادة، أنه شخصياً لم يتضرر من التأجيل المستمر وصولاً إلى إلغاء صدور القناة من الأصل، لأنه كان يتقاضى راتبه مثل بقية فريق العمل بانتظام، مؤكداً أنه اعتبر راتب عامين دون عمل حقيقي "حلالاً"، لأنه تعويض عن الضرائب والرسوم الباهظة التي تحصّلها الدولة منه دون وجه حق أو أن تكون لديه القدرة على الاعتراض!
القناة الإخبارية لم تكن التجربة الوحيدة الفاشلة في مجموعة قنوات المخابرات الحربية، وإنما سبقتها قناة "دي إم سي سبورت" التي أُسندت إدارتها إلى موظف سابق بمكتبة التلفزيون، وتولى تقديم أغلب برامجها إعلامي شاب لا يلقى قبولاً كبيراً في الوسط الرياضي وهو إبراهيم فايق، لكن القناة لم تستمر سوى عام وبضعة أشهر، ثم تم إغلاقها، بسبب الخسائر المالية الفادحة التي تكبدتها المجموعة، دون أن تكون هناك عوائد إعلانية مناسبة، كما أنها مُنعت من بث مباريات الدوري المصري بعد استحواذ قناة "أون سبورت" المملوكة للمخابرات العامة على حقوق البث منفردة.
ولم يبقَ من المجموعة سوى قناة "دي إم سي" العامة التي لا تحظى بنِسب مشاهدة تُذكر، وقناة الدراما التي تعد الوحيدةَ في المجموعة التي تملك نسب متابعة مقبولة، ربما لأنها تقدم مسلسلات فقط دون برامج تعبوية.
شركة خدمات أمنية تستحوذ على قناة المحور وجريدة يومية
شهد عام 2017، دخول كيان أمني جديد إلى الساحة الإعلامية وهو شركة فالكون للخدمات والاستشارات الأمنية، التي تتبع وزارة الداخلية كما قال أحد العاملين فيها، وقد عرفها المصريون من خلال دورها في تأمين المباريات الدولية التي تستضيفها الأندية المصرية والمنتخب الوطني بحضور الجماهير.
وفي بادرة غريبة قررت الشركة الاستحواذ على مجموعة قنوات الحياة عام 2017، لكنها سرعان ما تخلت عنها لصالح مجموعة "إعلام المصريين" في العام التالي مباشرة، دون توضيح أسباب إقدام الشركة على الاستحواذ على القنوات أو أسباب تخلّيها عنها، وبعد 3 أعوام من الاختفاء عن المشهد الإعلامي، عادت فالكون إلى الأضواء مجدداً في شهر مارس/آذار الحالي، بعدما استحوذت على نسبة في قناة المحور التي كان يملكها رجل الأعمال حسن راتب، فيما ذهبت النسبة الحاكمة إلى محمد منظور، عضو مجلس النواب عن حزب مستقبل وطن الموالي للرئيس، لكن مصدراً داخل الشركة كشف لـ"عربي بوست"، أن منظور ليس سوى واجهة مدنية وأن نسبته من أسهم القناة مملوكة في حقيقة الأمر لشركة فالكون.
كما ذكر المصدر نفسه، أن الشركة بصدد تملُّك نسبة حاكمة من أسهم صحيفة يومية بعدما تم الاتفاق مع مالكها رجل الأعمال على التخلي عنها، ولم يتبقَّ سوى التوقيع على العقود الرسمية لذلك.
تجدر الإشارة إلى أن علاقة الرئيس المصري نفسه بالإعلام علاقة متناقضة ومترددة، فهو يدرك- كما قال في أكثر من مناسبة- أهمية الإعلام ودوره كقوة ناعمة لنظامه، لكنه دائم التعبير عن غضبه من أداء الإعلام، والغريب أنه لم يكتفِ بتوجيه انتقاداته للأصوات الإعلامية التي تعارض أو تنتقد على استحياء، وإنما امتد غضبه إلى الأصوات الموالية له والمعروفة بصِلاتها القوية مع الأجهزة السيادية، حيث جرى خلال السنوات الماضية "شد أذن" عدد من المذيعين المعروفين بتأييدهم للسيسي مثل توفيق عكاشة مالك قناة الفراعين السابق، وخيري رمضان، وغيرهما كثيرون.