نقل موقع Middle East Eye البريطاني، عن قادة وسياسيين ومسؤولين عراقيين قولهم إن التنافس بين أجهزة الاستخبارات الإيرانية العاملة في العراق لا ينفك يلقي بظلال شديدة الأثر على المشهد الأمني العراقي، ويعمّق الخلافات بين حلفاء طهران ويضاعف انقساماتهم.
حسب تقرير الموقع البريطاني، الذي نشر الأربعاء 17 مارس/آذار 2021، فمنذ الغزو الأمريكي للعراق في عام 2003، كان العراق ساحةً رئيسية بين القوى العالمية والإقليمية، خاصة الولايات المتحدة وإيران.
غير أن إيران، أكثر من أي دولة أخرى، عمدت إلى بناء شبكة قوية من الجماعات السياسية والدينية والمجموعات المسلحة، التي جعلت من اتساع نفوذ إيران في البلاد هدفها الأسمى.
4 أجهزة استخباراتية إيرانية في العراق
استخدمت إيران تلك الشبكة طوال عقد ونصف العقد لتجسيد إرادة إيران وأهدافها. لكن ماذا يحدث عندما يتلقى حلفاء إيران ووكلاؤها تعليمات متضاربة من طهران؟ هذا ما كشفت عنه الأيام الأخيرة:
تُمرر السياسات الإيرانية في العراق من خلال أربعة أجهزة استخبارات.
تتعامل وزارة الاستخبارات والأمن الوطني الإيراني مع إحداها.
أما الجهاز الثاني، فيُشرف عليه "البيت الرهبري" (بيت القيادة)، وهو القسم الخاص بإدارة الشؤون الخاصة للمرشد الأعلى علي خامنئي، والجهاز الثالث مرتبط بالحرس الثوري، والرابع يتبع مكتب المرشد الأعلى.
يقول سياسيون ومسؤولون عراقيون مقربون من إيران، لموقع MEE، إن الأجهزة الثلاثة الأخيرة تتلقى تعليماتها مباشرة من المرشد الأعلى خامنئي وأقرب مساعديه.
فيما يسيطر كل من هذه الأجهزة على عشرات من الفصائل المسلحة العراقية وقادة سياسيين وأمنيين ومؤسسات إعلامية ودينية. ورغم أن عمل هذه الأجهزة يعتمد في المقام الأول على قوات شيعية، فإنها عملت أيضاً على جذب وتجنيد العراقيين من سنة وأكراد ومسيحيين وأيزيديين أيضاً.
التنافس يشكّل خطراً كبيراً على العراق
خلال الأسبوعين الماضيين، زادت أنشطة تلك الفصائل، وكلما تصاعد نشاطها على الأرض ظهر على نحو صارخ حجم الاختلاف في رؤى وتوجهات وأهداف تلك الأجهزة المتحكمة فيها.
إذ قال خبير في الشؤون الإيرانية لموقع MEE: "كان هناك تصعيد على مستويات مختلفة في العراق، على مستويات أمنية وسياسية وإعلامية".
في حين انهمك عملاء وزارة الاستخبارات في حث وكلائهم على الهدوء، فإن الأجهزة التي تتلقى تعليماتها من خامنئي ومساعديه استمرت في إثارة الأوضاع. ورغم أن الموالين للمرشد الأعلى يسعون جميعاً لإرضائه، فإن مناهجهم وأساليبهم كثيراً ما تتباين بشدة.
على الجانب الآخر، فإن هذا التنافس يشكّل خطراً كبيراً على العراق، حيث تتصاعد التوترات بين طهران وواشنطن بشأن المفاوضات المحتملة لإعادة الولايات المتحدة إلى الاتفاق النووي لعام 2015.
يقول الخبير في الشؤون الإيرانية: "الإيرانيون يعتقدون أن الإدارة الأمريكية الجديدة ضعيفة، ولذلك يضغطون [بضرب القوات الأمريكية وقوات الحكومة العراقية] لإجبار الأمريكيين على العودة إلى الاتفاق النووي، ورفع العقوبات الاقتصادية عن إيران قبل بدء أي مفاوضات".
أضاف: "إنهم يريدون تقديم قرار رفع العقوبات الاقتصادية على أنه انتصار، ومن ثم فهم يمارسون مزيداً من الضغط على الأمريكيين ليعلن هؤلاء رفع العقوبات قبل العودة إلى أي مفاوضات".
إيران تفقد السيطرة
أُنشئت وحدة الاستخبارات الخارجية في الأساس لتكون ذخيرة وزارة الاستخبارات والأمن القومي الإيرانية في الخارج، لكن فيلق الحرس الثوري، لا سيما وحدة النخبة في فيلق القدس، هي التي أصبحت إلى حد بعيد الذراع الإيرانية الأكثر نفوذاً على الصعيد الدولي، بسبب ارتباطها المباشر بمكتب المرشد الأعلى.
عمل قاسم سليماني، قائد فيلق القدس، على تعزيز قبضة الحرس الثوري على الشؤون الخارجية، وتقول المصادر إن الجنرال الذي قتل العام الماضي في غارة جوية أمريكية فعلَ ذلك على حساب جميع أجهزة الاستخبارات الأخرى، وإن جميع الفصائل السياسية والمجموعات المسلحة المدعومة من إيران قد تتلقى تعليماتها منه.
لكن الوضع تغير تغيّراً كبيراً منذ اغتيال سليماني.
فوضى كبيرة لا يمكن السيطرة عليها
قُتل سليماني ومعه أبو مهدي المهندس، الأب الروحي لمعظم الفصائل العراقية المسلحة، في قصف لطائرة مسيّرة أمريكية، في 3 يناير/كانون الثاني 2020.
تقول المصادر إن هذه الاغتيالات خلّفت وراءها فوضى كبيرة انعكست على نحو مباشر وواضح على عمل أجهزة الاستخبارات الإيرانية الأربعة والفصائل المسلحة التابعة لها والقوى السياسية المرتبطة بها.
يقول الخبير في الشؤون الإيرانية: "إن سليماني كان حلقة الوصل التي تربط كل الفصائل والقوى السياسية معاً، لكن الأمريكيين قتلوه وقتلوا أيضاً أبو مهدي المهندس، الذي كان من الممكن أن يخفف وجوده من حدة الانقسامات القائمة الآن".
لقد فشل الإيرانيون في تعويض الاثنين حتى الآن، والنتيجة هي فوضى كبيرة لا يمكن السيطرة عليها.
بحسب المصادر، فإن الفصائل المسلحة والسياسية المختلفة ربطت نفسها في وقت لاحق بأجهزة إيرانية مختلفة.
ضعف الجنرال قآني خليفة قاسم سليماني
تعليقاً على ذلك، يشير الخبير في الشؤون الإيرانية إلى أن ذلك هو "ما جعل الخلافات القائمة داخل إيران تنعكس على أداء هذه الفصائل والقوات في العراق".
بحسب المصادر، فإن ضعف الجنرال إسماعيل قآني، الذي خلف سليماني في قيادة فيلق القدس، وافتقاره إلى العلاقات القوية مع القادة العراقيين، ومحدودية صلاحياته، كلها عوامل فتحت الباب على مصراعيه لعودة وزارة الاستخبارات الإيرانية وغيرها من الأجهزة للعمل في العراق.
كما تقول المصادر إن تفلُّت السيطرة على الفصائل المسلحة من أيدي قآني خلال الأشهر الأخيرة دفع خامنئي إلى تشجيع "بيت الرهبري"، التابع له، على التدخل والاضطلاع بدور أكبر في العراق.
أصبح علي أصغر حجازي، المستشار الأمني لخامنئي والمسؤول عن "بيت الرهبري"، مسؤولاً مسؤولية مباشرة عن أبرز الفصائل العراقية المسلحة، ومنها كتائب حزب الله العراقي وعصائب أهل الحق.
بينما قال زعيم سياسي مقرب من إيران لموقع MEE: "قآني هو الحلقة الأضعف، فقادة الفصائل [العراقية المسلحة] لا يقيمون له وزناً، ولا يخشون انتهاك أوامره. والزعيم الفعلي للفصائل في الوقت الحالي هو حجازي، وعندما يريد شيئاً منهم يطلبهم للقائه في مكتب خامنئي [في طهران]".
وفقاً للزعيم السياسي، فإن إيران تبذل جهدها للعثور على شخص قادر على ملء مكان سليماني. وأوضح أن "المرشد الأعلى يحاول استعادة سيطرته على الأجهزة العاملة في العراق والقوات المحلية المرتبطة بها لتوحيد القرارات والحد من الأضرار الناجمة عن هذه الفوضى".
المزيد من الانقسامات
تجلت هذه الانقسامات ومداها في أعقاب الضربة الجوية الأمريكية، في 26 فبراير/شباط 2021، ضد مقاتلي كتائب حزب الله وكتائب سيد الشهداء في سوريا، بالقرب من الحدود العراقية.
رغم مصرع مقاتل وإصابة ثلاثة آخرين، التزمت معظم الفصائل العراقية المسلحة المدعومة من إيران الصمتَ، في حين دعت قيادة الحشد الشعبي الحكومة إلى التحقيق فيما إذا كانت الغارة وقعت على الأراضي السورية أم العراقية.
فيما دعا أصغر حجازي زعيم الحشد الشعبي أبو فدك وعدداً من الفصائل العراقية إلى اجتماع "عاجل" في طهران. وفي الوقت نفسه، دعا زعيم حزب الله اللبناني، حسن نصر الله، قادة عدد من الفصائل الأصغر إلى اجتماع آخر في بيروت.
مع أن الاجتماعين عُقدا في الوقت نفسه تقريباً في 28 فبراير/شباط، فإن نتائجهما جاءت مختلفة. وفي حين أوصى نصر الله بالهدوء وعدم التصعيد ضد القوات الأمريكية والحكومة العراقية، حثَّ اجتماعُ طهران على عكس ذلك، وفقاً لما قاله قادة مطلعون على منتائج الاجتماعين لموقع MEE.
لما كان صوت الأجهزة المرتبطة بمكتب خامنئي هو الأعلى والأكثر نفوذاً، فقد انتصرت أوامر طهران، واجتمع قادة الفصائل الممثلة في "الهيئة التنسيقية لفصائل المقاومة العراقية" في اليوم التالي في بغداد للتخطيط للتحركات التالية.
سُرعان ما تُرجم قرار التصعيد إلى هجوم صاروخي، ففي 3 مارس/آذار تستهدف قاعدة عين الأسد العسكرية في محافظة الأنبار الغربية، والتي تستضيف أكبر وجود عسكري أمريكي. وقال الجيش العراقي إن الهجوم لم يسفر عن سقوط ضحايا، لكن وزارة الدفاع الأمريكية قالت في اليوم التالي إن متعاقداً أمريكياً توفي خلال الغارة جراء إصابته بنوبةٍ قلبية.
في الوقت نفسه، شنَّت وسائل إعلام موالية للقوات المدعومة من إيران حملةً إعلامية مكثفة ضد الحكومة العراقية، زاعمةً أن رئيس الوزراء مصطفى الكاظمي يسعى إلى زيادة عدد القوات الأمريكية في العراق وتوفير غطاء لتمديد إقامتهم كجزء من بعثة الناتو.
الكاظمي مكافح الحرائق
قبل أن تهدأ الزوبعة حول الناتو ومستقبله في العراق، تعرضت البلاد لكارثة جديدة.
ففي 8 مارس/آذار، انفجرت قنبلة يدوية قال مسؤولون أمنيون إنها وضعت كمصيدة في مكب نفايات بالقرب من جسر الأئمة في بغداد، واستهدف الانفجار حجاجاً شيعة في ذكرى استشهاد الإمام موسى الكاظم.
مثل هذه الحوادث ليست نادرة الحدوث في العراق، لكن هذا الهجوم دفع عشرات حسابات فيسبوك وتويتر المرتبطة بجماعات مدعومة من إيران إلى نشر تعليقات طائفية منتظمة، متهمين أهالي منطقة الأعظمية ذات الأغلبية السنية باستهداف الحجاج الشيعة.
يقول زعيم سياسي شيعي بارز مقرب من الكاظمي لموقع MEE: "كان من الواضح أن الجبهات [ضد الحكومة] كانت تفتح واحدة تلو الأخرى. وكان الكاظمي مثل رجل إطفاء، كلما أغلق مصدراً للنيران يُفتح باب آخر".
هذه الأزمة لن تكون الأخيرة
رغم أهمية اتفاقيات الهدنة، فإن اتفاقيات الهدنة الأخيرة لن تضع حداً للصراع بين الولايات المتحدة وإيران من جهة، ولا الفصائل المسلحة والحكومة العراقية من جهة أخرى.
قال مسؤولون عراقيون لموقع MEE إن أزمة الأسبوعين الماضيين لم تكن الأولى ولن تكون الأخيرة. وقد أعلنت مجموعات مسلحة صغيرة تحمل أسماء لم يسبق لها أن ظهرت على الساحة، مثل "سرايا أولياء الدم" وميليشيا "أهل الكهف، مسؤوليتها عن الهجمات على أهداف أمريكية خلال الأسابيع الأخيرة.
فيما قال مسؤولون إنه تكتيك جديد تتبناه فصائل معروفة لشنِّ هجمات دون تحمل العواقب.
يقول الخبير في الشؤون العراقية: "كل هذه المجموعات [الجديدة] مزيفة وغير موجودة. تلك الهجمات نفذتها فصائل معروفة لكنها لا تريد تحمل العواقب لذلك ينسبونها إلى مجموعات وهمية".
كما أشار الخبير إلى أن الرسائل المتضاربة التي تأتي من إيران في بعض الأحيان يكون الهدف منها في الواقع خدمة أغراض طهران، وتكون جزءاً من استراتيجية أوسع نطاقاً.
أضاف أن الخطوط الإيرانية تجيد لعبة المناورة. ففي حين ينفي أحد الخطوط علاقته بهذا الهجوم، يتبنى خط آخر المسؤولية عنه. إنهم يلعبون لعبة الشرطي الجيد والشرطي السيئ مع الأمريكيين والحكومة العراقية. هذا التكتيك يؤتي ثماره دائماً.