لم يكن ممكناً أن يستمر المغرب في علاقته بدول الاتحاد الأوروبي بمنطق "الأستاذ والتلميذ"، وهو التعبير الذي وظّفته وزارة الخارجية المغربية في خطابها الشديد اللهجة مؤخراً تجاه التكتّل الأوروبي، خصوصاً بعد أن دخلت الرباط منعطفات جديدة فيما يخص قضية الصحراء، إثر اعتراف الولايات المتحدة بسيادة المملكة على الصحراء.
وشهد المغرب "توتّرات" دبلوماسية غير معلنة مع عدة عواصم أوروبية؛ كان آخرها مع ألمانيا، وقبلها فرنسا وإسبانيا اللتان تعدّان شريكين أوروبيين استراتيجيين للمملكة، الأمر الذي أرجعته مصادر دبلوماسية إلى محاولة الرباط الضّغط على دول الاتحاد الأوروبي لانتزاع موقف غير محايد في قضية الصحراء.
التّوتر المغربي الأوروبي
قبل أيام طفت على سطح العلاقات المغربية الألمانية، فجأة وبلا مقدّمات أزمة دبلوماسية بين البلدين، عندما قرّرت الدبلوماسية المغربية تعليق كل أشكال الاتصال والتعاون مع سفارة ألمانيا الاتحادية في الرباط، مبرّرة الموقف الطارئ بخلافات بشأن "قضايا أساسية" بالنسبة للمملكة، دون أن تكشف الخارجية المغربية عن هذه القضايا إلى يومنا هذا، لكن العديد من المراقبين يرجعونها إلى قضايا سيادية ومنها قضية الصحراء.
هذه القضية المحوريّة بالنسبة للمغرب، تعدّ أيضاً سبباً رئيسياً في توتّر العلاقة بين المملكة وبين إسبانيا وفرنسا، خصوصاً بعد التّطورات الأخيرة لقضية الصحراء، إذ كان من المفروض على الشريكين الاستراتيجيين مع المغرب أن يكون موقفهما واضحاً من القضية الأولى للمغاربة، وفق ما يرى مراقبون.
ويمكن اعتبار الموقف غير الودّي لإسبانيا تجاه مغربية الصحراء منذ اعتراف الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب بسيادة المغرب عليها، القطرة التي أفاضت الكأس، خصوصاً عندما أدلت حينئذ وزيرة الخارجية الإسبانية، أرانتشا غونزاليس لايا، بتصريح قالت فيه إن "قرار الرئيس الأمريكي أخذ الحكومة الإسبانية على حين غرّة".
أيام قليلة بعدها، أعلنت أرانتشا، في تصريح لإحدى الإذاعات الإسبانية، أن حل نزاع الصحراء لا يتوقف على بلد واحد، مهما كان قوياً ومؤثراً، وأكدت ضرورة التّوصل إلى حلّ يحظى بإجماع دولي في إطار العملية السياسية التي ترعاها الأمم المتحدة.
رغم ذلك، فالخطاب الذي استعملته إسبانيا كان بعيداً كل البعد عن البيان الذي أصدرته الحكومة الفرنسية، وإن كانت باريس لم تعترف حتى الآن بشكل لا لبس فيه بسيادة المغرب على الصحراء، فقد كانت واضحة بشأن خطة الحكم الذاتي المغربي.
تراكمات سلبية
ترى ياسمين الحسناوي، الباحثة في العلاقات الدولية والمتخصصة في نزاع الصحراء، أن "العلاقات بين الدول لا تُبنى على المشاعر، بل هي مبنية في الأصل على مبدأ رابح-رابح".
وتابعت الحسناوي، في تصريحها لـ"عربي بوست"، أن التّوتر بين المغرب ودول من الاتحاد الأوروبي مَردّه إلى "تراكمات سلبية شملت أكثر من قضية تمُسّ بالسيادة المغربية وبتدبير المملكة لشؤونها الداخلية".
وأكدت ياسمين الحسناوي، الباحثة المتخصصة في نزاع الصحراء، أنه "بعد الاعتراف الأمريكي بسيادة المغرب على صحرائه، كانت هناك دول أوروبية ضد هذا الطرح وقامت بخطوات تمسّ بالسيادة المغربية".
من جانبه، اعتبر عبدالفتاح الفاتحي، مدير مركز الصحراء وإفريقيا للدراسات الاستراتيجية، أنه "لا تزال عدة دول أوربية تعارض خيارات المغرب الاستراتيجية لا سيّما على مستوى قضية الصحراء، أو على الأقل تزايد عليه سياسياً داخل الفضاء الأوروبي، وجيو-استراتيجياً في العلاقات الثّنائية مع أعضاء من الاتحاد الأوروبي كما هو الحال بالنسبة لإسبانيا وألمانيا والسويد وغيرها".
لذلك، كان من الطبيعي "أن يُسائل المغرب أوروبا بعد حصوله على اعتراف قوي بسيادته على الصحراء من الولايات المتحدة الأمريكي، الأمر الذي يمنح المملكة ثقة أقوى لتطالب بمعاودة النظر في المواقف السياسية والدبلوماسية لدول الاتحاد الأوربي عن التوفيق بين زخم الشراكة الأوروبية المغربية في المجالات الاقتصادية والحقوقية وبين المواقف الدبلوماسية حيال نزاع الصحراء"، يضيف مدير مركز الصحراء وإفريقيا للدراسات الاستراتيجية، في حديثه لـ"عربي بوست".
رفض مواقف الحياد
لم يعد المغرب يقبل المواقف الرمادية المرتبطة بقضية الصحراء، وهي "السياسية التي أكسبت الرباط مواقف مهمة مثل الموقف الأمريكي، وجعل بعض عواصم الاتحاد الأوروبي مُحرجة لانتهاجها لسياسات ضبابية باتت غير مقبولة في ظل التّطورات الأخيرة التي صبّت في مصلحة المغرب"، يقول عثمان أمكور، الباحث في العلاقات الدولية.
لقد اختارت المملكة "انتهاج ربط مجهوداتها بمواقف واضحة لصالح قضية الصحراء المغربية"، وفق المتحدث نفسه، في اتصاله بـ"عربي بوست".
ويبذل المغرب مجهودات كبيرة جداً فيما يخص ملفات عديدة تشكل عامل ضغط على الاتحاد الأوروبي، على رأسها الدور الذي يلعبه من خلال تخفيف ضغط الهجرة السرية على دول الاتحاد الأوروبي، إلى جانب الشراكة الأمنية المرتبطة بمحاربة الإرهاب، إضافة إلى ملف الصيد البحري.
بهذا الخصوص، أكد عثمان أمكور، الباحث في العلاقات الدولية، أن "الاتحاد الأوروبي حاول توظيف هذا الملف حتى يضغط على المغرب في مسألة مغربية صحرائه، ولكن الرّد المغربي كان واضحاً بتعبيره عن استعداده للبحث عن شريك جديد في مجال الصيد البحري المرتبط بمياهه الأطلسية خصوصاً".
من جانبه، أبرز عبدالفتاح الفاتحي، مدير مركز الصحراء وإفريقيا للدراسات الاستراتيجية، أن "ترقي المغرب ليكون حليفاً استراتيجياً لأوروبا في المجالات الاقتصادية والسياسية، مردّه إلى أن الرباط فعالة في تعاونها على تدبير العديد من الأزمات المشتركة، لا سيّما تلك التي تهدّد الأمن والاستقرار في أوروبا، ومنها قضايا الهجرة ومحاربة الإرهاب والجريمة العابرة للحدود".
وأوضح المصدر نفسه أن "أوروبا وجدت في المغرب متعاوناً جيداً ونوعياً على أكثر من مستوى، ما يجعل دور المملكة ضرورياً لأوروبا، خصوصاً أن هذه القضايا من أكبر أوراق ضغطه على ألمانيا وإسبانيا وعموم أوروبا".