رأت النور في مدينة تطوان، شمالي المغرب، في أسرة دافئة أرضعتها الحب وتقديس الحياة، لتتحول بعد سنة 2012، عامَ اغتيال ابنها الجندي الفرنسي عماد بن زياتن في حادث إرهابي في فرنسا، إلى أيقونة التسامح، تنشر قيم الإخاء ونبذ العنف والتطرف.
لطيفة بن زياتن، المرأة الفرنسية من أصول مغربية البالغة من العمر 61 سنة، اكتسبت شهرةً كبيرةً في أوروبا وفي فرنسا خاصةً، بعدما تمكنت من رسم صورة مثالية عن المرأة المهاجرة المسلمة، بعد حادث فقدان ابنها عماد، خلال هجوم نفذه الإرهابي محمد مراح في مدينة تولوز قبل تسع سنوات.
لطيفة، المسلمة المحجبة، والدة الضحية الأولى الذي أُزهقت روحه في اعتداء 11 مارس/آذار 2012، كُرّمت مؤخراً بجائزة زايد للأُخوة والإنسانية لعام 2021، من قِبل البابا فرانسيس، خلال حفل افتراضي، اعترافاً لها بالدور الكبير الذي تلعبه جمعيتها "عماد من أجل الشباب والسلام" في التوعية والاهتمام بالشباب المسلم في فرنسا، ومحاربة التطرف في أوساطهم.
في لقاء خصت به "عربي بوست"، تفتح لطيفة بن زياتن قلبها، وتنفض غبار ذاكرتها المجروحة بفقدان بِكرها، تشاركنا أهم محطات حياتها ما بعد الفاجعة التي حلت بها، والتي كانت سبباً فيما هي عليه اليوم.
كان لفقدان ابنك الجندي الفرنسي عماد بن زياتن في الحادث الإرهابي تأثير كبير على حياتك ومسيرتك، كيف تفوّقتِ على الحزن والغضب، وعملتِ على تحويلهما إلى عطاء كبير تجاه الشباب المسلمين المُعرضين لخطر التطرف داخل وخارج فرنسا؟
منذ 9 سنوات فقدت ابني خلال ذلك اليوم الأسود، راح ضحية هجوم إرهابي دامٍ خلّف حزناً وجرحاً كبيرين في فرنسا بأسرها. بعد فقدان ابني عشتُ دوامة أحزان كبيرة، لم أتقبل غيابه نهائياً، وأردت أن أفعل شيئاً يجعلني أشعر باستمرار ابني في الحياة.
في خضم تلك الفترة العصيبة، استمر أصدقاء الأسرة المقربون في زيارتي ومواساتي، وعبرهم طُرِحَت فكرة تأسيس جمعية باسم عماد ابني، تُخلد ذكراه كل سنة، وتعمل لفائدة الشباب المسلم وتستهدف توعيته.
قبل أن أقرر فعلياً، اجتاحتني رغبة في الذهاب إلى تولوز، وبالضبط إلى المكان؛ حيث قُتل ابني، حينها وعدت ابني وأنا أمسح على الأرض ما تبقى من دمائه على الأرض بألّا يمر حادث قتله في صمت، وأن أخلّد ذكراه بكل الطرق.
اتّجهت بعدها للحي الذي كان يقطنه مُنفذ الهجوم، وبدأتُ أسأل الشباب هناك: هل تعرفون من هو محمد مراح (منفذ الهجوم الإرهابي)؟ كانت إجابة أحد الشباب هناك صادمة: "شهيد وأسد من أسود الإسلام".
بكيتُ بحرقة، وأخبرته أنني أُم أول ضحية من ضحاياه السبع، تغيرت ملامحهم فوراً، وبدأوا بالاعتذار لي، شرحت لهم أن ما يُردّدونه خطأ، وأن ما ارتكبه مراح جُرم تسبب في الألم، ولطّخ صورة الإسلام.
ردّ الشباب عليَّ حينها بأن تهميشهم من قِبل المجتمع والدولة هو ما حاصرهم في هذه المنطقة، وجعل منهم مساندين لمثل هذه الأفكار والأفعال. هنا قررتُ أنّ ساكني هذه الأماكن هم الذين يحتاجون عملاً، من أجل مساعدة الشباب الذين كانوا عرضة لغسل العقول، وهنا بدأت رحلة عملي الميداني مع الشباب.
لماذا هناك تركيز كبير في عملك على التصدي للتهميش المجتمعي ومحاربة التمييز العرقي والعنصرية تجاه المسلمين؟ ألهذه الدرجة تدهور حال المسلمين في فرنسا؟! ومَن المسؤول عن الأمر في نظرك؟
العديدون هنا في فرنسا يشتكون المسلمين، ويُحمّلونهم مسؤولية ما يقع، خاصة من يسكنون الضواحي والمناطق الفقيرة والهامشية. هنا أقول إن الخطأ ليس خطأهم، فلقد عانوا من التهميش، ولو أن الدولة عملت على دمجهم في المدارس والحياة الاجتماعية، وأيضاً في مناطق سكنية أفضل، وانتشلتهم من عزلتهم كانت لتمنحهم الفرصة للاندماج.
هؤلاء الشباب يرددون جملة توضح كل شيء "الدولة نسيتنا"، يعيشون منبوذين ومختلفين في كل شيء، وهذا ما يسبب لهم العزلة والانحراف. الدولة لا تقوم بواجبها، فصباغة الجدران أو توفير مساحات خضراء بجانب مناطق عيشهم لن تغير شيئاً، المفروض العمل على التقرب منهم، والتغلغل داخل هذه الأوساط، ومعرفة مشاكلهم، ومحاولة إيجاد حلول حقيقية.
ما رأيكِ فيما يُواجهه الإسلام في فرنسا والدول الأوروبية عموماً من هجمات عنصرية ممنهجة من السياسيين عبر خطاباتهم، وأيضاً عبر قوانين جديدة يتم المصادقة عليها في البرلمان الفرنسي؟ وما تأثير ذلك على المسلمين في نظرك؟
يجب على الدولة أن تعمل حتى يتمكن جميع هؤلاء المواطنين، بغض النظر عن أصلهم الاجتماعي أو الثقافي، من العثور على الطريق الصحيح، لتطورهم داخل مجتمع أكثر انفتاحاً، غني بتنوعه، ويحترم خصوصيات الجميع، ليبتعد الشباب عن الإغراءات الراديكالية أو الإجرامية، ويتحد الكل للعيش طبقاً للقيم التي تمثل شعار بلدنا: "الحرية والمساواة والأخوة".
يجب أن يتوقف هذا الخلط بين الإرهابي المتعصب وبقية المسلمين. كل هذا الإجرام لا علاقة له بالإسلام الحقيقي.
الكل له نصيب من المسؤولية، الدولة والمجتمع والأسرة، الكل أغمض عينيه عن أوضاع العديد من الأشخاص الذين تُركوا منعزلين، لا توجد هناك حلول سحرية، الحل هو التدخل الفعلي من أجل إدماجهم في المجتمع، وتمكينهم من الدراسة والتربية الجيدة، وليس نبذهم لأنهم مختلفون.
ودائماً ما أنهي محاضراتي التي تجمعني بشباب ينحدرون من الأحياء الهامشية بالقول: "افعل شيئاً وتحرّك وحاوِل، لا تنتظر من أحد أن يفعل لأجلك شيئاً، قم بالمحاولة ومؤكد أنك ستجد الفرصة".
لكِ مسيرة مشرّفة جداً في محاربة التطرف في فرنسا وفي أوروبا أيضاً، ولهذه الجهود تأثير كبير على صورة المسلمين في أوروبا، هل تنوين تطوير عملك أكثر عبر شراكات مع مؤسسات تعمل في هذا المجال وتدعمه؟
منذ 9 سنوات والجمعية تسير في تحقيق أهدافها، حققنا 9 مشاريع على أرض الواقع في المغرب، منها صالات حواسيب في مدارس وأيضاً مكتبات، وحققنا مشاريع في لندن والصين، وفي فلسطين والأراضي المحتلة، والولايات المتحدة، والكثير من الدول الأخرى.
ويركز عمل الجمعية على التبادل الثقافي بين الشباب الفرنسي الذين هم في وضعية صعبة وشباب من دول أخرى، ومحاولة جعلهم ينفتحون على ثقافات أخرى، وأن يشغلوا أوقاتهم بالتعلم والعمل الجمعوي، ونُبين لهم أنهم يمكنهم أن يكونوا مفيدين للمجتمع، وأن يبتعدوا عن طريق الانحراف والإرهاب.
دُعِمت جهودك عبر تكريمات من شخصيات مهمة، على رأسها جائزة زايد للأخوة والإنسانية من يد البابا فرنسيس، كما تم ترشيحك سابقاً لجائزة نوبل للسلام، ما انعكاس ذلك على مسيرتكِ؟
فعلاً حصلتُ على العديد من الجوائز، وآخرها جائزة زايد للأخوة والإنسانية، وذلك جعلني فخورة بما أُنجزه، ومنحني قوةً وعزيمةً أكبر على الاستمرار، فصدى عملنا مع الشباب والأمهات وصل إلى الدول العربية أيضاً في المشرق والخليج، وهو شيء مُحفّز للغاية.
ما الرسالة التي تودين تبليغها عبر عملك؟
رسالتي للأمهات: أنتن أساس التربية السليمة للطفل، وطبعاً في حالة دعم الأب وتدخله إيجاباً فالطفل سيعيش في ظروف تحميه من كل خطر. الغالبية العظمى من الشباب الذين استهدفتهم أنشطة الجمعية أُقر أنهم فعلاً تائهون، لم يُلَقنوا شيئاً عن السلام والمحبة، لم تساعدهم ظروف الحياة في المنزل ولا داخل المجتمع على تطوير ذاتهم والانفتاح على مستقبل جيد.
ساعَدت الجمعية العديد من الشباب على الخروج من قوقعتهم وأفكارهم السوداء، واستطعنا التأثير في الكثيرين ممن كانوا يفكرون في الذهاب إلى سوريا للانضمام لداعش، كما استهدفنا أيضاً العائدين منها ورافقناهم. كما نعمل مع الأمهات أيضاً على كيفية مساعدة الطفل وتربيته وتحسين رؤيته للأشياء، وسلاح ذلك الحب والتربية السليمة والحوار دائماً، وألّا نترك في حياتهم فراغاً يجعلهم يبتعدون ويتجهون نحو الخراب.