في الثامن من فبراير/شباط 2021 اهتزّ المغرب بفاجعة إنسانية، راح ضحيتها 28 عاملاً وعاملة، بعدما غمرت مياه الأمطار قبو فيلا سكنية بمدينة طنجة الشمالية، حوّله صاحبه لورشة غير مرخصة لصناعة النسيج بالمدينة.
فاجعة طنجة فتحت لأول مرة النقاش في المغرب حول المصانع غير القانونية، التي تناسلت في الأحياء السكنية أمام أعين السلطات، هذه الأخيرة التي لم تتدخل يوماً من أجل فرض تطبيق القانون وضمان حقوق العمال.
سارعت السلطات المحلية التابعة لوزارة الداخلية بسرد رواية حكومية تقول إن الورشة التي وقعت فيها المأساة "سرية وغير مرخصة"، بعد ذلك تضاربت الأقوال حول حقيقة هذه الورشة، ومعها الآلاف من الورشات التي تعمل في نفس الظروف، المنتشرة في جميع المدن المغربية دون استثناء.
فاجعة مدينة طنجة المغربية دفعت "عربي بوست" إلى البحث والتقصي بشأن ورشات النسيج غير المرخصة، التي تعتبرها السلطات سرية، كما وقفنا على وضعية العاملين فيها، وأسباب انتشارها، ومبررات بعض أصحابها.
ورشات تعمل تحت أعين السلطة
أثار وصف وزارة الداخلية المغربية لوحدة صناعة النسيج بطنجة، التي غمرتها الأمطار وراح ضحيتها 28 عاملاً وعاملة بـ"السرية" حفيظة عدد من المتابعين للرأي العام، الذين استهجنوا الأمر، معتبرين أنه لا يمكن فتح أي وحدة صناعية دون علم السلطات، فأعوان السلطة المحلية منتشرون في جميع الأحياء في المغرب.
البحث في موضوع مصانع النسيج غير المرخصة، أو التي تعتبرها السلطات سرية قادنا إلى لقاء معاد شكري، وهو ميكانيكي سابق في إحدى شركات النسيج بمدينة سلا المغربية، قبل أن تعلن إفلاسها وتدخل مسار التصفية القضائية.
يؤكد معاد شكري في حديثه مع "عربي بوست" أن جميع المصانع التي اعتبرتها السلطات سرية نمت وتناسلت تحت أعين الجميع، مؤكداً أن الأمر يتعلق بوحداث غير مرخصة وليست سرية.
ويعتبر شكري، الذي كان ممثلاً لعُمال إحدى شركات النسيج الأجنبية في مدينة سلا وأعلنت إفلاسها، أن الشركات الكبرى هي السبب الرئيسي وراء انتشار عدد من الوحدات غير المرخصة داخل الأقبية والمرائب المخصصة في الأصل للسيارات.
يقول شكري في حديثه لـ"عربي بوست" إن "عدداً من الشركات الكبرى على علاقة وثيقة بأصحاب هذه الأقبية"، مشيراً إلى أن "هذه الشركات تُفوّت لهؤلاء صناعة بعض الطلبيات التي تتوصل إليها حتى لا تضطر إلى زيادة عدد أكبر من العمال وتحمل نفقاتهم الاجتماعية".
وأضاف المتحدث "حينما أغلقت شركتنا أبوابها سنة 2010 اقترحت علينا السلطات فتح وحدات صغيرة داخل الأقبية، وقد قبل بعضنا بذلك، وذلك أمام أعين السلطات، لأنه لا شيء يتم دون علمها".
ويعتبر شكري أن انتشار الأقبية في مدينة سلا ومثلها في جل المدن المغربية أدى إلى إفلاس عدد من شركات النسيج القانونية وتشريد عمالها، الذين قبلوا بالعمل داخل هذه الأقبية في ظروف لا تضمن الحد الأدنى من الكرامة.
رافق معاد شكري، الذي مازال يشغل مهمة مراقب الدائنين كممثل عن العمال في الشركة التي أعلنت إفلاسها "عربي بوست" في جولة إلى حي الرحمة في مدينة سلا شمال العاصمة الرباط، حيث عاينا وجود 4 شركات مغلقة منذ مدة.
ويقول مرافقنا "إن الشركات التي أغلقت كانت تُشغل أكثر من 4 آلاف عامل، توزعوا بين البطالة والعمل في بعض الأقبية، التي قام بافتتاحها بعض زملائهم أو بعض الأشخاص النافذين في المدينة".
وخلال جولتنا بحي الرحمة، يوم الأربعاء 10 فبراير/شباط 2021، بعد يومين على فاجعة طنجة، صادفنا أربع عاملات مفترشات التراب، يتناولن طعام الغداء بالقرب من الشركات المغلقة.
العاملات أكدن لـ"عربي بوست" أنهُن 40 عاملة يعملن بإحدى ورشات صناعة النسيج بقبو منزل، بأجر لا يقل عن 50 درهماً لليوم الواحد، دون تصريح أو تغطية اجتماعية، إذ كشفن أن "وضعيتهن جد مزرية، ولا يحصلن على رواتبهن في وقتها".
ترفض هؤلاء العاملات وصف عملهن بالسري، معتبرن أن "كل شيء واضح للعيان، وأن الجميع على علم بالوحدة التي يعملن بها"، كما أن "ظروفهن الاجتماعية المزرية هي التي تدفعهن للعمل في أماكن تنتفي فيها شروط السلامة الصحية، فضلاً عن عدم استفادتهن من أي نوع من الحماية الاجتماعية".
أقبية النسيج هي البديل
خلال الاشتغال على هذا التحقيق تواصل "عربي بوست" مع سمية، عاملة سابقة بإحدى الأقبية المتخصصة في صناعة الملابس الداخلية للنساء، الموجودة بحي "الدار الحمراء" بمدينة سلا.
سمية امرأة متزوجة وأم لأربعة أطفال، عملت لأكثر من 20 سنة في قطاع النسيج، وخبرت دهاليز الحرفة، حكت لنا بحسرة عن الفرق بين وضعها الحالي ووضعها قبل سنة 2010، حين كانت تعمل بإحدى الشركات الإنجليزية.
تقول سمية لـ"عربي بوست": "كانت كل حقوقنا مضمونة، وكنا نحصل على علاوات ونستفيد من العطلات، إلى أن أغلقت الشركة أبوابها وغادرت المغرب، وأصبحنا عرضة للتشرد".
وأضافت المتحدثة "بعد حوالي سنة من البطالة وضيق ذات اليد، اضطررت للعمل داخل قبو أحد أعيان مدينة سلا براتب هزيل جداً، في غياب لأدنى شروط السلامة الصحية والحماية الاجتماعية"، مشيرة إلى أن "العمال كانوا مضطرين للتكيّف مع الوضع الجديد، الذي لا يضمن أي حقوق".
وتتابع حكاية تجربتها قائلة: "لم نكن نستفيد من العطلات، وكان أجرنا هزيلاً، فضلاً عن أننا كنا نقضي ساعات طوالاً داخل ورشة العمل، حسب ما يطلبه صاحب المصنع".
تؤكد سمية أنها قضت ثلاث سنوات داخل هذا المصنع دون أن تستفيد من حقوقها التي يخولها لها القانون، إذ اضطرت في النهاية لمغادرة المصنع دون الحصول على أي تعويض والالتحاق بإحدى الشركات، التي قالت إنها تضمنت الحد الأدنى من الحقوق على الأقل.
سألنا سمية عما إذا كان هذا المصنع ما زال يعمل، فأجابت بالإيجاب وأرشدتنا إلى مكان تواجده بمدينة سلا، حيث تتواجد الورشة في قبو تحت الأرض، حينها حاولنا لقاء صاحب المصنع، لكننا لم نعثر عليه، واكتفينا بتبادل أطراف الحديث مع المكلف بحراسته، الذي أخبرنا أن المصنع متوقف عن العمل بفعل التداعيات السلبية لكورونا.
وبحسب الحارس، فإن هذا المصنع كان يلبي طلبات عدد من الفنادق، وقد توقف عن العمل بسبب توقف الفنادق عن العمل جراء جائحة فيروس كورونا، التي ضربت القطاع السياحي بالمغرب.
مصانع غير مرخصة في كل حي
غادرنا المكان وتوجهنا إلى حي شعبي آخر بمدينة سلا، ولم يكن صعباً علينا العثور على المحلات المخصصة لصناعة النسيج التي تعمل دون ترخيص، إذ بمجرد وصولنا أرشدنا صاحب محل تجاري إلى ستة أقبية قريبة من بعضها البعض.
لاحظ "عربي بوست" أن أغلب هذه المحلات مغلقة، وأخبرنا بعض جيرانها أن بعضها أغلق بإيعاز من أعوان السلطة، الذين تربطهم علاقات ببعض أرباب هذه المصانع، حتى لا يتم إغلاقها من طرف لجان وزارة الداخلية، التي بدأت حملة واسعة تستهدف إغلاق المصانع غير المرخصة.
ويبدو أن حادثة طنجة دفعت أصحاب عدد من أقبية النسيج إلى محاولة توفير الحد الأدنى من شروط السلامة، إذ لاحظ "عربي بوست" وجود أشغال في أحد الأقبية من أجل تركيب مضخة لإزالة المياه تحسباً لحدوث فيضانات.
بعد دقائق من البحث عثرنا على مرأب صغير حوّله صاحبه إلى ورشة لصناعة النسيج، وبعد إطلاع صاحب المصنع على هويتنا وهدف زيارتنا لم يمانع في الحديث إلينا شريطة عدم الكشف عن هويته.
صاحب المحل كشف لـ"عربي بوست" أنه يكتري المحل بمبلغ قدره 2500 درهم (250 دولاراً)، ويشغل 3 عاملات بمبلغ 14 درهماً للساعة، وبدون ترخيص منذ سنوات، لكنه لا يمانع في التحول إلى القطاع المهيكل إذا قامت الدولة بمساعدته.
وقال صاحب ورشة الخياطة: "إذا أردت الحصول على رخصة العمل من السلطات فيجب أن أؤسس شركة، وأن أؤدي الضرائب، وأسوّي أوضاع العمال، وهذا ليس بمقدوري الآن، لا أنا ولا أصحاب المحلات الصغيرة، التي تبيع الملابس التي تصنعها في سوق الجملة بالدار البيضاء، ثم تُوزعها على محلات بيع الملابس".
ورشات "سرية" في خدمة شركات كبرى
ما أكده صاحب المصنع الذي تحدث إلينا ينطبق على كثير من أصحاب هذه الأقبية التي تعمل لحسابها، وتوجه منتجاتها للسوق المحلي، لكن ذلك لا ينفي وجود أقبية تعمل بنظام المناولة لفائدة شركات كبرى، وتصنع ملابس ماركات عالمية شهيرة.
وحسب المعلومات التي حصل عليها "عربي بوست" من مصادره الخاصة داخل الجمعية المغربية لحقوق الإنسان، فإن ورشة فاجعة طنجة، الذي وصفتها السلطات المغربية بالسرية، كان صاحبها يعمل لفائدة إحدى الماركات العالمية.
وبحسب مصدر مطلع على مجريات البحث في قضية فاجعة ورشة مدينة طنجة المعروضة على القضاء، فإن صاحب المعمل يملك شركة قانونية لصناعة النسيج، لكنه في المقابل أنشأ ملحقات أخرى تابعة لها دون ترخيص، وهو ما يسهل عليه التعامل مع الشركات الأجنبية، التي تجني بدورها أرباحاً طائلة من خلال نظام المناولة، الذي لا يضمن حقوق العمال.
في سياق متصل، يؤكد تقرير أصدرته مؤسسة "سيتيم كاتالونيا" الإسبانية، وجمعية التواصل المغربية، أن 36% من عمال مصانع النسيج المغربية التي توجه وحداتها نحو التصدير غير مصرح بهم، كما أن 60% من عمال النسيج يتقاضون أقل من الحد الأدنى للأجور.
وغير بعيد عن هذه الأرقام، فقد أكدت دراسة سابقة للاتحاد العام لمقاولات المغرب، في أبريل/نيسان 2018، أن 54% من مناصب الشغل غير القانونية توجد في قطاع النسيج.
الشركات المرخصة ليست أفضل حالاً
خلال تقصّي "عربي بوست" حول وضعية الورشات غير المرخصة لإنتاج النسيج في المغرب، وقفنا على عدد من شركات النسيج المرخص لها، والتي لا تصرح بعمالها لدى الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي.
وقد تسبب عدم التصريح بالعمال من قبل أرباب هذه الشركات في مآسٍ اجتماعية، بعد توقف العمل بسبب جائحة فيروس كورونا المستجد، إذ اكتفت الحكومة بتخصيص دعم مالي للعمال المصرح بهم لدى الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي فقط.
عائشة، صاحبة شركة تعمل في قطاع النسيج، قالت في حديثها لـ"عربي بوست" إن "القطاع غير المهيكل يضرّ بمصالح الشركات القانونية، ويدفعها نحو عدم التصريح بالعمال، مُقرة بعدم تسوية وضعية عمال شركتها، لكنها ربطت الأمر بظروف الجائحة، التي أتت على الأخضر واليابس".
"عربي بوست" عايَنَ عند دخوله المصنع الذي تملكه عائشة وجود 7 عاملات فقط، فيما كان يُشغّل حوالي 60 عاملاً وعاملة قبل جائحة فيروس كورونا، بحسب صاحبته.
ما الحل البديل؟
فرضت فاجعة ورشة النسيج في مدينة طنجة نفسها على أجندة أعلى سلطة في البلد، فقد استفسر الملك محمد السادس من وزير الداخلية خلال ترؤسه لأشغال المجلس الوزاري عن الحادث، وعن التدابير التي تم اتخاذها لتفادي تكرار حوادث مماثلة.
من جهتها، أطلقت السلطات المحلية في عدد من المدن المغربية حملة واسعة، تهدف إلى إغلاق الوحدات الصناعية غير القانونية، التي لا تحترم شروط السلامة.
وبحسب مصادر محلية فقد قامت السلطات بإغلاق عدد من المصانع في مدن الدار البيضاء والرباط، لكن هذه الحملة أثارت حفيظة عدد من العاملين في القطاع منذ سنوات، دون أن يتعرّضوا للمنع.
مصطفى أشراقا، رئيس جمعية المقاولات الصغرى والمتوسطة للنسيج والألبسة بالدار البيضاء، قال في اتصال مع "عربي بوست"، إن "الحل ليس في إغلاق الوحدات الصناعية وتشريد آلاف الأسر، بل يكمن في ضرورة تأهيلها ومد يد المساعدة إلى أصحابها، حتى يكونوا أكثر تنافسية ويندمجوا في القطاع المهيكل ما سيُدرّ على الدولة مداخيل مالية هامة من تحصيل الضرائب واستخلاص الرسوم".
وأضاف المتحدث أن جمعية المقاولات الصغرى والمتوسطة للنسيج والألبسة توصلت لـ"شكاوى عدد من أصحاب الوحدات الصناعية التي تم إغلاقها، وهو ما يستدعي البحث عن حلول ناجعة، تتجاوز المقاربة الزجرية نحو المواكبة".
أرقام صادمة
تشير دراسة حول "قياس وتطور الاقتصاد غير المهيكل بالمغرب"، نشرت نتائجها على البوابة الإلكترونية لبنك المغرب، في يناير/كانون الثاني 2021، أن استمرار الأنشطة غير المهيكلة يستلزم إصلاحات هيكلية، لاسيما تلك المتعلقة بالتعليم ومنظومة العدالة والسياسة الضريبية وسوق العمل.
ونبّهت الدراسة إلى أنه لا يمكن لسياسة واحدة أو معزولة أن تفضي إلى تسجيل انخفاض ملموس في وزن القطاع غير المهيكل. مضيفة أنه "يتعين أن تتضمن استراتيجية هيكلة القطاع إصلاحات متكاملة، تعالج تعقيدات وخصوصيات عدم الهيكلة في كل قطاع على حدة".
من جهة أخرى، أكد مصدر مطلع من وزارة الشغل والإدماج المهني، في اتصال مع "عربي بوست"، أن "الوزارة تُراقب فقط الوحدات الصناعية المصرح بها"، مشيراً إلى أن "الوزارة بصدد تقوية الترسانة القانونية المنظمة للمراقبة والتفتيش".
وبحسب المصدر ذاته فإن "عدم تصريح عدد من الشركات بعمالها يعود في جزء منه إلى عدم فاعلية ونجاعة العقوبات الزجرية بحق المخالفين، التي لا تتعدى أداء غرامة قدرها 50 درهماً عن كل شهر لم يتم التصريح به".
وأشار المصدر ذاته أن "الوزارة أعدَّت مشروع قانون جديد من أجل تقوية الترسانة القانونية، وتقوية جهاز التفتيش، الذي لا يتوفر على موارد بشرية كافية قادرة على مواكبة التطور السريع الذي يعرفه قطاع المقاولات".