ذكرت صحيفة The Times البريطانية، أن السلطات الفرنسية لجأت إلى برنامج "غير مسبوق" في تعاملها مع من وصفتهم بـ"المتطرفين" العائدين من مناطق تواجد تنظيم الدولة الإسلامية "داعش"، بهدف مكافحة النزوع إلى التطرف داخل السجون وإعادة تأهيل "المتشددين".
تقرير للصحيفة البريطانية أوضح، الأربعاء 27 يناير/كانون الثاني 2021، أن كلاً من بريطانيا وفرنسا تستعينان بأشخاص محترفين، منهم شيوخ ومرشدون دينيون، لمحاولة الحد من خطر عودة المتطرفين إلى عملهم العنيف.
عائدة من داعش إلى السجون الفرنسية
الصحيفة البريطانية أوردت شهادة فرنسية عائدة من "داعش"، وقالت إنه بعد ثلاث سنوات من مغادرتها فرنسا إلى سوريا لتصبح الزوجة الثانية لشخص كان ينتمي إلى "تنظيم الدولة الإسلامية" (داعش)، سئمت ليلى مما اعتبرته حياة مليئة بالوحشية وسفك الدماء.
فرّت ليلى من سوريا إلى تركيا عبر الحدود، ومعها طفلاها الصغيران اللذان يبلغان من العمر الآن 8 و6 أعوام، وبرفقتها "زوجها" وزوجته الأولى. ثم أمضت 4 أشهر في سجن تركي، قبل أن تُنقل جواً إلى باريس، حيث كان في استقبالها وحدة من قوات الشرطة الخاصة الفرنسية في المطار، ووُجّهت إليها تهمة الانتماء إلى تنظيم إرهابي، ليعاد حبسها.
خلال ستة عشر شهراً قضتها ليلى -ليس اسمها الحقيقي- في سجن "فلوري ميروجي" خارج العاصمة الفرنسية، قبل الإفراج عنها بكفالة، خاضت مقابلات مع شيخ مسلم دعاها لإعادة التفكير في نهجها ورؤيتها المتطرفة للدين، التي كانت تتبعها حتى هذه اللحظة.
تروي ليلى في المقابلة التي أجرتها عبر الهاتف مع صحيفة The Times البريطانية، أن الشيخ قال لها: "لديكِ عقل، يمكنكِ التفكير بنفسك".
قالت ليلى للصحيفة: "كانت فترة السجن شاقة عليّ، لأنني انفصلت خلالها عن أطفالي، لكني أعتقد الآن أنه كان عليّ الذهاب إلى هناك وخوضها لأتحرر من كل ذلك، وإن كان بعد فوات الأوان، لكني أعتقد أن الأمر أفادني".
ليلى، البالغة من العمر 26 عاماً، تعيش الآن مع وَلَديها في محل ميلادها الأصلي شمال فرنسا، في انتظار المحاكمة، وتُعتبر واحدةً من بين مئات من النزلاء الذين خاضوا ما تدّعي السلطات أنه منهج غير مسبوق لدفع المتطرفين الإسلاميين إلى التخلي التدريجي عن نزوعهم إلى التطرف العنيف.
شيوخ ومرشدون دينيون لمواجهة العودة إلى التطرف
تقول الصحيفة البريطانية، إن ما تسعى إليه الحكومة الفرنسية معضلةٌ تكافح معها العديد من البلدان في جميع أنحاء العالم.
تخشى الحكومات أن يؤدي سجن المتطرفين الدينيين إلى منحهم الفرصة لتحويل زملائهم الآخرين إلى التطرف أيضاً. ومع ذلك، فإن حبسهم في وحدات خاصة -زنازين معينة أكثر تقييداً داخل السجون- يفضي بهم غالباً إلى أن يصبحوا أشد تطرفاً.
لمواجهة ذلك، تستعين كل من بريطانيا وفرنسا بأشخاص محترفين، منهم شيوخ ومرشدون دينيون، لمحاولة الحدّ من خطر عودة المتطرفين إلى عملهم العنيف.
غير أن الفرنسيين يدعون نجاحهم فيما فشل فيه الآخرون، ويُرجعون ذلك إلى حد كبير إلى أن تجربتهم الكبيرة مع الهجمات الإرهابية مكّنتهم من تطوير إجراءات أشد تعقيداً لتعيين المخاطر وحجمها وإبعاد السجناء الأقل خطورة عن المتطرفين الأشد راديكالية.
الاستفادة من التجربة البريطانية
يوضح جول بويادجيان، مدير قسم العدل في Groupe SOS Solidarités، وهي إحدى الجمعيات المنخرطة في البرنامج، بالقول إن خصوصية النهج الفرنسي تتمثل في عمله على "تفكيك مراجع التطرف"، التي يتأثر بها المتطرف وينتهج آراءها.
في بريطانيا، يقول جوناثان هول، وهو مفتش حكومي معني بمراجعة تشريعات مكافحة الإرهاب، إن تجربة الإخضاع للسجن كانت تفشل، لاسيما مع الإرهابيين المدانين، الذين كانوا يستمرون في الدعوة إلى التطرف والتحريض على العنف داخل السجن.
كما أعلن عن نتائج تحقيق أجراه، وتبيّن فيه أنه في نوفمبر/تشرين الثاني 2019، وفبراير/شباط الماضي، نفّذ متطرفون كانت السلطات قد أطلقت سراحهم إطلاقاً مشروطاً هجمات في لندن وقتلتهم الشرطة بالرصاص.
على الجانب الآخر، يعرف الفرنسيون جيداً هذه الصعوبات. يقول فرانسوا توتين، رئيس فريق مكافحة التطرف العنيف بإدارة السجون في باريس: "حتى في السجن لا يزال المتطرف الأصولي مشبعاً بأيديولوجيته، ويستمر في دعوة رفاقه في السجن إليها. مهما كان اتجاه الشخص الواقف أمامه سيحاول المتطرف الترويجَ لفكره لديه، حتى لو واجه شخصاً من دعاة تفوق العرق الأبيض فسيحاول دعوته إلى أيديولوجيته".
مخاوف من المتشددين داخل السجون
يشير توتين إلى أن هؤلاء السجناء يشكلون خطراً كذلك، لأنهم يستمرون في الاستجابة لدعوات تنظيم الدولة الإسلامية بـ"توجيه الضربات [للعدو] أينما كنت"، حتى لو داخل السجون، والتي شن فيها متطرفون بالفعل 6 هجمات، معظمها على ضباط، منذ عام 2016.
مع ذلك، يزعم المسؤولون الفرنسيون أنهم طوّروا مخططاً يُقلِّص من مخاطر النزوع إلى التطرف ودعواته. وينطوي هذا المخطط على تقييم للسجناء المتطرفين قبل إيداعهم السجون، بحيث يوضع الأشد تطرفاً في الحبس الانفرادي، وأولئك ممن هم أقل تطرفاً بدرجة ما يودعون في وحدات "منع التطرف"، حيث يُبعدون عن السجناء الآخرين، أما الأقل خطورة فيودعون بالزنازين العادية.
يتبع هذا التقييم برنامجٌ لمكافحة النزوع إلى التطرف (deradicalization) يخضع خلاله المتطرفون الدينيون للإشراف من قبل فريق متخصص من ضباط المراقبة وعلماء النفس والاستشاريين ومتخصص الدراسات الإسلامية -غالباً من الشيوخ- الذين يسعون جميعاً إلى دفع هؤلاء المتطرفين إلى مزيد من الاعتدال وإعادة الاندماج في المجتمع.
هناك من يُشكك في جدوى البرنامج الفرنسي
مع ذلك، أبدى المشككون في جدوى البرنامج قلقهم من أنه يمثل محاولة غير واقعية لإعادة تثقيف المتطرفين، قبل تركهم يعودون إلى التطرف مرة أخرى.
لكن المسؤولين في باريس يزعمون أن منهجهم يبدو فعالاً، إذا بعد ثلاث سنوات من إطلاق برنامج مكافحة النزوع إلى التطرف، لم يتورط أي من السجناء الذين خضعوا له في شبهة أو إدانة بارتكاب جريمة إرهابية أخرى.
من جانبه، يقول نوفل جيد، نائب رئيس فريق مكافحة التطرف العنيف، "نحن نحتوي الخطر"، مضيفاً أن فرنسا اضطرت إلى التعامل مع هذه المعضلة بسبب تجربتها الطويلة والمؤلمة مع الإرهاب، حيث قُتل أكثر من 260 شخصاً في هجمات لمتطرفين منذ عام 2015.
فيما تحتوي السجون الفرنسية على نحو 1100 متطرف إسلامي، أقل من نصفهم بقليل مسجون لصلته بجرائم إرهابية. بالإضافة إلى اضطلاع دائرة المراقبة بمتابعة ما لا يقل عن 700 متطرف بعد إطلاق سراحهم بكفالة أو تحت المراقبة.
يأتي من بين هؤلاء المفرج عنهم نحو 90 شخصاً صدرت لهم أوامر بالانخراط في برنامج نظمته Groupe SOS Solidarités، وهو البرنامج الذي اختارته الحكومة لمواصلة العمل على مكافحة النزوع إلى التطرف بين السجناء بعد مغادرتهم السجن.
إذ يقول بويادجيان: "لدينا أنواع مختلفة من الأشخاص، منهم المقاتلون المدربون إلى المراهقين المتمسكين بتدين متطرف، وليس نهاية بالفتيات والمراهقات اللواتي يحلُمن بأزواج من الأمراء الملتحين".
لكن باريس تُواصل التأكيد على نجاح خطتها
يؤخذ المشاركون في البرنامج إلى جناح الفنون الإسلامية في متحف اللوفر، على سبيل المثال، بهدف التشديد على أن "هناك مكاناً للإسلام في فرنسا". كما يقول بويادجيان إن لقاءات يجري تنظيمها مع متخصصين في الدراسات الإسلامية، يقدمون للسجناء تفسيرات أخرى للقرآن، لبيان كيف أن المتطرفين "يقتطعون الآيات ويخرجونها من سياقاتها".
من جانب آخر، رفض أحد المشاركين في البرنامج الآراء التي تقول إن المتطرفين يمكن أن يستغلوا البرنامج للتظاهر بتخلِّيهم عن التطرف، مع الحفاظ سراً على التزامهم بالتطرف العنيف.
كما قال المصدر إن المتطرفين في برنامج Groupe SOS Solidarités يخضعون للمتابعة من قِبل مجموعة من أعضاء الفريق، لمدد تتراوح بين 3 إلى 20 ساعة في الأسبوع بعدة أشهر، مضيفاً: "يجب أن تكون ذا مهارة خاصة لتتمكن من خداع الجميع طوال الوقت".
بالعودة إلى ليلى، تؤكد هي أنها تغيرت عما كانت عليه في 2013، وأوضحت أنها الآن تستطيع ممارسة الإسلام دون تشدد أو تقييد، وأنها تعيش حياة سلمية دون أثر للحروب والصراعات فيها.