ما زالت زينة (40 عاماً) تتذكر صيف 2010 حينما تلقت عائلتها خبر وفاة عمها في مخيمات البوليساريو قرب مدينة تندوف الجزائرية، حيث يقيم عشرات الآلاف من الصحراويين.
لم تتمكن زينة من رؤية عمها، الذي عاش في المخيمات منذ سنة 1976 إلا مرة واحدة، كان ذلك سنة 2004 في إطار برنامج تبادل الزيارات العائلية بين الصحراويين المقيمين بمخيمات تندوف، الذين يعتبرهم المغرب محتجزين، فيما تعتبرهم جبهة البوليساريو لاجئين.
ومن الملاحظ أن الانقسام الاجتماعي بسبب نزاع الصحراء يهم جميع فئات المجتمع الصحراوي، بما في ذلك عائلات قياديين كبار في الجبهة، فعلى سبيل المثال فإن عائلة عبدالعزيز المراكشي، الرئيس السابق لجبهة البوليساريو مستقرة بمدينة تادلة (وسط المغرب)، فيما يقطن أقارب الرئيس الحالي إبراهيم غالي بمنطقة الرحامنة المغربية.
شتات عائلي
بعيداً عن التسميات التي يطلقها المغرب أو البوليساريو على ساكني مخيمات تندوف، فإن النزاع بين الطرفين تسبب في تمزق اجتماعي عميق في الوسط الصحراوي، إذ إن آلاف العائلات منقسمة بين المخيمات والمدن الصحراوية التابعة للسيادة المغربية.
تقول زينة في حديثها مع "عربي بوست" "ليست لي يد في النزاع القائم، لكنني كنت واحدة من ضحاياه، إذ حُرمت عائلتي من المشاركة في جنازة عمي يوم وفاته بسبب إغلاق الحدود، كما لم نستطع زيارة قبره لحد الآن".
ليست زينة هي الوحيدة التي عاشت هذه المأساة، بل هذا حال مئات العائلات الصحراوية التي فرض عليها نزاع الصحراء الانقسام والتشظي منذ أزيد من 45 عاماً، حيث تتنوع القصص والمأساة واحدة.
الحرب التي اندلعت بين المغرب وجبهة البوليساريو ابتداء من سنة 1975 إلى حدود وقف إطلاق النار سنة 1991 كانت نتيجتها مغادرة آلاف الصحراويين إلى المخيمات تاركين أسرهم في المناطق التي بسط المغرب سيطرته عليها.
محمد سالم البيهي، نائب برلماني سابق عن دائرة العيون واحد من هؤلاء الذين كوتهم نار الحرب والنزاع القائم بين الطرفين لأكثر من 40 سنة.
يحكي سالم البيهي لـ"عربي بوست" أن والده غادر العيون إلى مخيمات تندوف رفقة أبويه وترك والدته حبلى به، "ولدت في غياب والدي سنة 1975، ولم ألتقِ به إلا في سنة 1999 رفقة جدي وجدتي"، يقول المتحدث.
وأضاف المتحدث "كان اللقاء بموريتانيا، إذ لم يكن مسموحاً بتبادل الزيارات العائلية بين ساكني المخيمات وعائلاتهم من الصحراويين في مدن الأقاليم الجنوبية للمغرب".
لا يكف سالم البيهي عن التأكيد على أن نزاع الصحراء تسبب في تمزيق أسر كثيرة، وهو ما يستدعي إنهاؤه، مشيراً إلى أنه حينما كان نائباً برلمانياً كان يتلقى دائماً شكايات عدد من الأسر المحرومة من رؤية أفراد عائلاتها بالمخيمات، خاصة عندما توقف برنامج تبادل الزيارات العائلية سنة 2009، قبل أن يستأنف ثم توقف نهائياً سنة 2014 بسبب الخلاف بين المغرب والبوليساريو.
ويشير البيهي إلى أن الزيارات العائلية التي كانت تشرف عليها الأمم المتحدة في إطار تدابير بناء الثقة بين المغرب والبوليساريو كانت فاتحة خير على عائلته، إذ كانت من ضمن العائلات المستفيدة، قبل أن يقرروا الاستقرار نهائياً بمدينة العيون، لكن ذلك ليس هو حال كل الأسر التي لا تستطيع تبادل الزيارات مع أهاليها في المناسبات الاجتماعية والدينية، مع ما يمثله ذلك من قداسة بالنسبة للمجتمع الصحراوي.
ويعود البيهي لتذكر قصته قائلاً: "تصور أنني قضيت فترة طفولتي وشبابي دون رؤية أبي وإخوتي منه، الذين وُلدوا بالمخيمات، هل هناك مأساة أكثر من هذه؟".
ويؤكد البيهي أن الصراع السياسي لا ينبغي أن يغطي على المآسي الاجتماعية والإنسانية التي ينبغي ألا يتم استغلالها في النزاع، مشيراً إلى أن عودة تبادل الزيارات العائلية في انتظار حل نهائي للملف يعتبر أولوية قصوى بالنسبة لكثير من الأسر.
ويضيف المتحدث: "في الأسرة الواحدة تجد من يدافع عن الحل المغربي ومن يدافع عن خيار جبهة البوليساريو، لكن ذلك لا ينفي أنهم من أسرة واحدة، وأن الحفاظ على النسيج الاجتماعي ينبغي أن يظل أولوية".
لم أشارك في دفن أبي وأمي
حمادة البيهي، واحد من الذين ولدوا في مخيمات تندوف التي تسيطر عليها جبهة البوليساريو، يصف نفسه بأنه واحد من "جيل المأساة" الذين دفعوا ضريبة النزاع القائم.
يقول حمادة البيهي في حديث مع "عربي بوست": "وُلدت سنة 1976 من أبوين صحراويين في مخيمات تندوف، فيما عدد من أفراد عائلتي بقوا في مدينة العيون".
وكغيره من مئات الأطفال الذين ولدوا في مخيمات تندوف سيقضي البيهي جزءاً من طفولته في ليبيا، حيث كان نظام العقيد معمر القذافي أحد الداعمين للبوليساريو، بعد ذلك سيتم إرساله إلى جانب عدد من أبناء المخيمات إلى كوبا من أجل استكمال دراسته، حيث قضى هناك 14 سنة حصل فيها على شهادة جامعية وعاد إلى المخيمات.
سنة 2014 سيلتحق البيهي بمدينة العيون بموافقة السلطات المغربية، وسيبدأ في الدفاع عن مبادرة الحكم الذاتي التي اقترحها المغرب كحل لإنهاء النزاع، لكن ذلك سيتسبب له في مأساة اجتماعية، إذ كان ذلك على حساب انقسام الأسرة.
يقول حمادة البيهي: "إن اختياره العيش كمواطن مغربي جاء اقتناعاً منه بعدم إمكانية تحقق ما كانت تعدهم به البوليساريو، وهو الآن يدافع عن الحل المغربي في المحافل الدولية، لكن ما آلمه حقاً هو عدم حضوره تشييع جنازتي والديه اللذين توفيا في المخيمات".
ويضيف: "اختياري السياسي كانت ضريبته البعد عن والدي وإخوتي"، معتبراً أن النزاع ترك تمزقات اجتماعية في صفوف الصحراويين.
ويتابع المتحدث: "أعرف أشخاصاً توفي آباؤهم وأبناؤهم في المخيمات وفي المغرب دون أن يحظوا برؤية بعضهم ولو لمرة واحدة"، معتبراً أن إنهاء المأساة الاجتماعية رهين بحل الملف برمته.
البحث عن بديل
كلما طال نزاع بين المغرب والبوليساريو حول إقليم الصحراء طالت معه معاناة العائلات الصحراوية المنقسمة، وذلك بسبب عدم السماح بتبادل الزيارات، وتوقف البرنامج الذي كانت تشرف عليه الأمم المتحدة رغم مطالبات الأمين العام للأمم المتحدة باستئنافه، الأمر الذي دفع الصحراويين إلى طرق أخرى من أجل لقاء أبناء عمومتهم.
وبحسب سالم البيهي، البرلماني السابق والمستشار الجماعي بالعيون، فإنه إضافة إلى التواصل عبر الهاتف وتطبيقات مواقع التواصل الاجتماعي تضطر بعض العائلات إلى ضرب موعد في موريتانيا، حيث يلتقون هناك.
من جهته، يؤكد توفيق البرديجي، رئيس اللجنة الجهوية لحقوق الإنسان بالعيون (رسمية) أن توقف برنامج الأمم المتحدة المتعلق بتبادل الزيارات العائلية أثر سلباً على العائلات الصحراوية، وأصبح بعضهم يكتفي بالحديث عبر الهاتف.
أما العائلات الميسورة فتقيم حفلات الزفاف والمناسبات الاجتماعية في "لاس بالماس" بجزر الكناري، حيث يحضر باقي أفراد العائلة الموزعين بين المخيمات والجزائر وإسبانيا.
ويشير البرديجي إلى أن اللجنة الجهوية لحقوق الإنسان تتلقى دوماً مناشدات من الأسر من أجل الترافع لاستئناف برنامج تبادل الزيارات العائلية، وهو ما سنسعى من أجله.
ولفت البرديجي إلى أن الحالات الإنسانية والاجتماعية يجب أن تحظى بالأولوية وتتم معالجتها بمعزل عن النزاع.
وتقول الأمم المتحدة إنه إلى حدود سنة 2012 تمكن أكثر من 12.800 شخص من زيارة أفراد الأسرة في مخيمات تندوف وفي إقليم الصحراء، في حين يبقى 42.000 من الصحراويين على قوائم الانتظار، إلا أن توقف البرنامج جاء مخيباً لانتظاراتهم.