تُمثل الحدود المسيّجة الفاصلة بين مدينتي سبتة ومليلية الخاضعَتين للحكم الذاتي تحت السيادة الإسبانية والمغرب صورة مصغرة عن حجم الفوارق الشاسعة على مستوى التنمية الاجتماعية والاقتصادية والبشرية بين المغرب وإسبانيا، رغم أن البلدين لا تفصل بينهما سوى بضعة أمتار على مستوى الحدود البرية والبحرية.
الخلل البنيوي لم يعد سراً لدى الدولة المغربية التي تعترف به، وتبحث عن كيفية معالجته مع الحفاظ على السلم الاجتماعي في المناطق المحيطة بسبتة (تطوان والفنيدق) ومليلية (الناظور وبني أنصار)، إذ إن السياجات الحدودية أصبحت تفصل بين عالمين مختلفين وغير متساويين تنموياً؛ جانب إسباني يمتاز بالرفاهية مقابل جانب مغربي تغلب عليه الهشاشة.
وبين الجانبين المغربي والإسباني تنتشر كل أنواع الأنشطة غير المشروعة وغير القانونية، بدءاً من التهريب المعيشي، والهجرة غير النظامية وشبكات تهجير الشباب براً وبحراً، وتهريب المخدرات، قبل أن تتراجع هذه الأنشطة بعد الإغلاق الشامل للحدود بين الجانبين في مارس/آذار 2020، لكن إمكانية العودة بعد إعادة فتح الحدود تبقى واردة، ما دامت لم تعالج أسباب وجودها.
حدود غير متساوية
كشف تقرير صدر نهاية سنة 2020 عن المركز الإسباني للأمن والثقافة أن فارق القدرة الشرائية بين المغرب (حيث لا يقل الحد الأدنى للأجر الشهري عن 300 أورو) وسبتة ومليلية (1100 يورو كحد أدنى للراتب الشهري) هو الأكبر في العالم، متجاوزاً الفارق الموجود بين المكسيك والولايات المتحدة الأمريكية.
ورغم هذا الاختلاف البيِّن، يعتقد التقرير ذاته أن "وجود مليلية والخدمات التي تقدمها لمحيطها المغربي، يَضمنُ الاستقرار والأمن في منطقة (مغربية) تعرف صعوبات على المستوى الاقتصادي والرعاية والمساعدات، لكن مليلية تستفيد أيضاً من محيطها المغربي، إذ إنه من الضروري إبراز الإضافة الكبيرة التي يقدمها المغرب فيما يخص العمال الحدوديين الذين يشتغلون في المجال الخدماتي وفي البيوت والبناء".
أسماء بندريس، إسبانية من أصول مغربية تعيش في مدينة سبتة منذ 17 سنة، تقول إن التاريخ الذي تعلمته في مدارس المغرب يقول إن المدينة مغربية محتلة من طرف إسبانيا، في الوقت الذي يتلقى أطفالها الآن تعليماً يؤكد على أن سبتة مدينة إسبانية، رغم إيمانها العميق بمغربية الصحراء.
أسماء هي أم وزوجة تشتغل في عيادة لطبيبة أسنان إسبانية في المدينة، في حين أن زوجها يشتغل كمهندس معماري في نفس المدينة، تقول في حديثها لـ"عربي بوست" إنها تزور عائلتها باستمرار في المغرب، خصوصاً أنها من أصول شمالية، أي أن فارق المسافة بين بيتها في سبتة ومنزل أسرتها في مدينة تطوان ليس سوى بضعة الكيلومترات.
وأضافت أسماء أن فرق مستوى العيش بين داخل سبتة وخارجها كالفرق بين السماء والأرض، ولا تُفكر نهائياً في مغادرة المدينة للاستقرار في الجانب المغربي، ففي الداخل تعيش حياة أوروبية بحقوقها وامتيازاتها، كما أنها تضمن لأطفالها مستوى تعليمياً مرتفعاً مقارنة بنظيره المغربي
هذا الوضع المختل بين الجانبين لخصه جلياً التقرير السنوي للمجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي (CESE) الصادر يوم 22 أكتوبر/تشرين الأول 2020 حول الوضعية الاقتصادية والاجتماعية للمناطق المحاذية بمدينتي سبتة ومليلية المحتلتين، قائلاً إن "الناتج الداخلي الإجمالي للفرد الواحد قد بلغ، في جهة طنجة- تطوان- الحسيمة، ما مجموعه 24.965 درهماً (2600 دولار)، وهو أقل بكثير من المتوسط الوطني البالغ 30.510 درهم (3000 دولار) في سنة 2017، أي الرتبة الحادية من بين 12 جهة (مغربية).
أمّا إقليم الفنيدق (المحاذي لسبتة)، الذي يعتمد أكثر على نشاط التهريب السلع من سبتة، فيحتل مرتبة أدنى بكثير على مستوى الدخل الفردي بحوالي 3.308 دراهم (300 دولار) للفرد الواحد، أي ما يمثل 1/9 من المتوسط الوطني"، وفي مدينة مليلية بلغ "نصيب الفرد الواحد من الناتج الداخلي الإجمالي أقل من المتوسط الوطني، أي 28.865 درهماً (2300 دولار) سنة 2017، وثاني أعلى معدل بطالة على المستوى الوطني، أي 16.3%، كما تسجل الجهة نسبة فقر أعلى من المتوسط الوطني، أي 5.2%، مقابل 4.8% على التوالي".
أمحمد بنعيسى، رئيس مرصد الشمال لحقوق الإنسان، أوضح في حديث مع "عربي بوست" أن "السلطات الإسبانية تولي أهمية كبيرة لمستوى الرفاهية بالمدينتين المغربيتين المحتلتين سبتة ومليلية، تفوق تلك الأهمية التي توليها للمدن الإسبانية الأخرى حتى تمنع قيام أية نزعة للعودة إلى أرض الوطن لدى السكان المغاربة الأصليين".
وأضاف المتحدث أنه "بعد انتهاء الحماية عملت السلطات الإسبانية على إيلاء أهمية للمدينتين على مستوى البنية التحتية ومستوى معيشة السكان والصحة والتعليم والتنقل، إذ يستفيد ساكنة المدينتين من امتيازات عدة خصوصاً الإسبان الأصليين لتشجيعهم على الاستيطان من جهة، وحتى لا يكون هناك ميل للسكان الأصليين المغاربة على المستوى الديمغرافي".
ويعتقد أمحمد بنعيسى أن الاهتمام الإسباني بتحقيق التنمية الاجتماعية والاقتصادية والثقافية في مدينتي سبتة ومليلية يخفي وراءه أهدافاً سياسية تتمثل في "منع قيام أي نزعة مغربية نحو استقلال السكان الأصليين، خصوصاً أن الفرق بين المدينتين ومدن المغرب واضح، إذ تعاني المناطق المحاذية لسبتة ومليلية من الفقر والهشاشة والبطالة وغياب مرافق صحية وتعليمية ذات جودة، بالإضافة إلى انتشار مجموعة من الظواهر الاجتماعية ذات الطابع البنيوي".
أزمة التهريب المعيشي
لا يمكن اليوم التكهن بكيف سيكون واقع حال المناطق المحاذية لمدينتي سبتة ومليلية في حالة استمرار إغلاق المعابر الحدودية من جهة المغرب، ومنع التهريب المعيشي من المدينتين إلى المغرب، في سياق غير عادي تطبعه المرونة من جانب السلطات العمومية المغربية والإسبانية، وتعايش الساكنة المحلية في المناطق الحدودية مع هذه الوضعية.
وفي فاتح أغسطس/آب 2018، قامت السلطات المغربية بإغلاق معبر بني أنصار الجمركي مع مليلية في وجه السلع المهربة بهدف إنعاش ميناء مدينة الناظور المجاورة، وفي 9 أكتوبر/تشرين الأول 2019 قامت، أيضاً، بمنع التهريب المعيشي من سبتة ومليلية، وذلك قبل إغلاق الحدود بشكل كامل يوم 13 مارس/آذار 2020.
وحسب إدارة الجمارك والضرائب غير المباشرة، فإن تدفق السلع عبر المدينتين يمثل ما بين 15 و20 مليار درهم في السنة، أي ما يعادل 2% من الناتج الداخلي الإجمالي. وفي ما يخص الحجم، فيقدر دخول 800 طن من البضائع في المتوسط كل يوم عبر كل ثغر، ما يعني دخول 1600 طن من السلع يومياً عبر الثغرين معاً.
وتتمثل غالبية السلع المهربة في بالأساس في المواد الغذائية، والملابس المستعملة، والسجائر، والمشروبات الكحولية، وإطارات العجلات المستعملة، وقطع غيار السيارات، وأدوات التجهيز، والمنتجات الصحية، ومستحضرات التجميل، ومواد التبليط، والأجهزة المنزلية، علاوة على منتجات النسيج ( الملابس الجديد، وأقمشة الأسرة، الأغطية، وغير ذلك)
عمر الناجي، ممثل الجمعية المغربية لحقوق الإنسان في الناظور، قال في حديث مع "عربي بوست" إن "تجارة التهريب المعيشي بين المغرب والمدينتين التابعتين للحكم الإسباني، متجذرة في المنطقة منذ القرن الـ19، إذ كانت تدخل السلع إلى مليلية بدون جمارك ثم تهرب إلى المغرب، وعلى طول هذه السنوات كانت مليلية تشكل قطباً اقتصادياً مهماً للجهة الشرقية".
ويرى المتحدث أن التهريب المعيشي "لا يسمح للجهة الشرقية ومدينة الناظور خاصة من بناء اقتصاد وطني قوي، إذ كان هدف السلطات الإسبانية منذ إعلان قبل قرن ميناء مليلية منطقة حرة وكذلك ميناء سبتة، ممارسة هذا التأثير على اقتصاد المغرب وضمان حياة اقتصادية وعرقلة بناء أي اقتصاد محلي مهيكل بهذه المناطق المغربية المهمشة طيلة هذه السنوات".
ويظن عمر الناجي أن 80% من السلع التي تصل ميناء مليلية تهرب إلى المغرب، بينما 20% فقط منها يبقى في داخل المدينة، مؤكداً أن السلطات المغربية كانت متسامحة مع التهريب في السنوات الماضية، وكانت تعتبره مسألة عادية، بل أكثر من ذلك كان يعترف المغرب بحدود مليلية كحدود تجارية، حيث كانت تدخل تلك السلع بشكل قانوني إلى المغرب، وهذا الوضع ظل لعشرات السنين إلى غاية أغسطس/آب 2018 عندما أغلق المغرب معبر بني أنصار في وجه السلع المهربة.
ويعتبر المستفيد الأول من التهريب المعيشي على الحدود بين مدينتي سبتة ومليلية هم المنتجون الإسبان، الذين يوجهون منتجاتهم بكيفية غير قانونية إلى المغرب عبر المدينتين، ناهيك عن تداعياتها على الأنشطة الأخرى (النقل الحضري، المطاعم والمقاهي، الخدمات، وغير ذلك).
ويعتمد النشاط الاقتصادي لكل من سبتة ومليلية، بصورة أساسية، على السوق الاستهلاكية المغربية، التي تمتص حوالي 80% من السلع القادمة من المدينتين، مقابل ذلك يبقى التجار الكبار، أيضاً، من أكثر المستفيدين من التهريب، فيما يبقى ممتهنوه أكبر الضحايا.
فبالإضافة إلى العمل في ظروف غير لائقة وغير إنسانية ومحفوفة بالمخاطر، يكسب كل ممتهن ما بين 100 و150 درهماً في اليوم (حوالي 20 دولاراً)، مع الأخذ بعين الاعتبار أن كل واحد يشتغل يومين فقط في الأسبوع.
الطبيعة الشاقة للعمل، والتهديد الذي يمثله التهريب على حياة وصحة ممتهناته وممتهنيه، وانعدام الحماية الاجتماعية التي تكرس هشاشة وضعف الأسر التي تعيش من التهريب، كلها عوامل تهدد حيوات واستقرار الحمالات والحمالين وأسرهم.
وإذا كان التهريب يضمن آلاف فرص الشغل المؤقتة وغير القارة ويعتبر مصدر رزق آلاف الأسر، فإنه، في الوقت نفسه، يؤثر سلباً على خزينة الدولة المغربية، لأنه "يؤدي إلى خسارة ضريبية لا يستهان بها قُدرت في سنة 2018 بما بين 4 و5 مليارات من الدراهم"، كما أن "تشغيلاً واحداً في ميدان التهريب يدمر خمسة مناصب شغل في القطاع المنظم
ولا تقتصر أضرار التجارة "غير النمطية" على ما هو إنساني وحقوقي ومالي واقتصادي، بل تشكل أيضاً خطراً على صحة المستهلكين المغاربة للمنتجات المهربة، لأن أغلبها ممنوع من التسويق داخل سبتة، "بسبب عدم احترامها لمعايير السلامة الغذائية"، ومما زاد طين هذا الوضع بلة، "لجوء بعض الموزعين إلى تزوير مغلفات المنتجات المهربة التي يكون تاريخ انتهاء صلاحيتها وشيكاً جداً".
الهجرة النظامية وغير النظامية
وعلى غرار التهريب المعيشي، تعتبر مدن الناظور وبني أنصار والفنيدق المحاذية منصة تسلل إلى المدينتين منذ سنة 2000 تقريباً، لكن تلك المشاهد غير الإنسانية لمهاجرين من إفريقيا جنوب الصحراء وهم يتسلقون السياجات والتي تسبب لهم أحياناً في جروح وربما حتى في سقوط ضحايا، تقلصت بشكل كبير، بحيث تراجع عدد المقتحمين لسياجات سبتة بنسبة 61.8% وفي مليلية بنسبة 45% في السدس الأول من 2020.
وبشكل عام، فمن أصل 39 ألفاً و474 مهاجراً غير نظامي وصلوا إسبانيا هذه السنة، 1693 مهاجراً فقط وصلوا براً إلى سبتة ومليلية، وفق أرقام الحكومة الإسبانية، هذا التراجع الذي يعزى بشكل كبير إلى إغلاق الحدود مع الثغرين، وفرض السلطات المغربية لحالة الطوارئ والحجر الصحي، ما يجعل تحرك المهاجرين غير النظاميين المنحدرين من إفريقيا جنوب الصحراء صعباً.
وربما قد تتراجع هذه الاقتحامات في حالة القضاء بشكل نهائي على التهريب المعيشي وعلى شبكات تهجير الشباب انطلاقاً من شمال المغرب صوب إسبانيا.
وجاء في التقرير أن هذه الدينامية البشرية والتجارية حول المعابر الحدودية مع الثغرين أدت "إلى حصول تحوّل اجتماعيّ كبير في هذه المناطق، بسبب الهجرة المحلية من مختلف جهات المغرب، بالموازاة مع انتشار المهاجرين القادمين من بلدان جنوب الصحراء، الراغبين في العبور إلى أوروبا".