يتقاسمون رغيف الخبز ويواجهون المصير ذاته، يجوعون معاً، يتألمون معاً، ومحاصرون فوق أرض واحدة، أوصاف تختصر تعايش المسيحيين والمسلمين بفلسطين، خاصة في قطاع غزة المحاصر منذ 15 عاماً، والذي يقطنه نحو 1030 مسيحياً.
تعايش المسيحيين والمسلمين في غزة
يسأل أحد الصحفيين البلجيكيين الأب مانويل مسلّم، راعي كنيسة دير اللاتين بطاع غزة سابقا، عن سبب "التعايش الإسلامي المسيحي" في غزة، ليردَّ عليه بغضب: "لا تقُل تعايش.. نحن عرب نحن فلسطينيون، نعيش على هذه الأرض منذ أن خلقنا"، يروي مسلم لـ"عربي بوست" الموقف، ويجدد رفضه مصطلح التعايش، مؤكداً أن المسيحي عربي فلسطيني وامتداد لجذوره العربية، وليس إنساناً طارئاً أو عابراً، على حد تعبيره.
وقال مسلم في شرحه لطبيعة العلاقة بين المسيحي والمسلم: "إحنا شعب واحد، نُحاصَر معاً، ونُقتل معاً، وتُدمر منازلنا معاً، نتألم معاً، ونواجه مصيراً واحداً واضطهاداً واحداً في الأرض المحتلة"، موضحاً أن "المسيحيين في قطاع غزة فتحوا أبواب الكنائس للمسلمين أوقات الحروب، وأمدُّوهم بالماء والكهرباء وما يملكون من الغذاء".
ويُقدَّر أعداد الفلسطينيين المسيحيين بـ2.300.000 نسمة، أغلبيتهم المطلقة تقيم خارج فلسطين، إذ يوجد أقل من 45 ألف مسيحي في الأراضي المحتلة عام 1967، موزعين بين الضفة الغربية التي يقطنها 40 ألفاً، وقطاع غزة الذي يقطنه 1030 مسيحياً، والقدس ما يقارب 4000 آلاف مسيحي، وفق الأمين العام للهيئة الإسلامية المسيحية لنصرة القدس والمقدسات حنا عيسى.
"الكاهن الخباز"
يروي الأب مانويل مسلم عديداً من المواقف خلال إدارته كنيسة اللاتين في غزة، وأبرز ما جرى خلال الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة عام 2008-2009، إذ فُتحت الكنائس لإيواء النازحين من القصف الإسرائيلي في المناطق الحدودية، وكان الناس يلجؤون إلى الكنيسة والمدارس المسيحية وقت الخوف، كحال المساجد؛ لكونها أماكن لا يجوز قصفها.
يقول مسلم: "في ذروة الحرب، فتحتُ مدرسة اللاتين للناس كي يتزودوا بالكهرباء ويخبزوا خبزهم، حتى لُقبت بـ(الكاهن الخباز)، وعندما بدأت الحرب كنت قد افتتحت حديثاً بئرَي مياه للشرب، ولما فقدت الناس القدرة على الحصول على هذه المياه في الحرب، أمرت بتشغيل البئرين على مدار الساعة، وإيصال المياه لأبعد منطقة ممكنة".
وأضاف المتحدث لـ"عربي بوست": "كان في المدراس التابعة للكنيسة 1400 طالب، منهم 60 طالباً مسيحياً فقط والباقي مسلمون، وكان الطالب المسيحي يُعلق فانوس رمضان، والطالب المسلم يُضيء شجرة الميلاد، وكان كلاهما يتبادل الزيارات في الأعياد وخلال شهر رمضان".
وتابع راعي الكنيسة في غزة سابقاً، أن "الطلبة والمعلمين كانوا يجمعون الأموال في رمضان؛ ليوزعوا هدايا ومواد غذائية للفقراء والأيتام والمرضى مسلمين ومسيحيين على حد سواء، بينما كان الأب مسلم يتجول في شوارع غزة ليلة عيد الميلاد؛ لتوزيع الهدايا على منازل المسيحيين والمسلمين على حد سواء".
ومن المواقف التي لا ينساها الأب مانويل مسلم في حياته بغزة، يوم أن خرج من غرفة العمليات بأحد مشافي القطاع بعد إجراء عملية جراحية خطيرة، ولم يكن أحد من أهله حوله، ليخرج من العملية مرتجفاً من البرد، ويحيطه 10 رجال مسلمين وقاموا بتدفئته بأيديهم، واصفاً المشهد بالقول: "هذا فعل خارق للوصف.. على العالم أن يفهم، أننا لسنا مسيحيين ومسلمين، بل فلسطينيون، نعيش على أرضنا، نصلّي في مساجدنا وكنائسنا، لا نختلف عن بعضنا لا في الفرح ولا في الحزن".
مصير واحد
ويتفق كامل عياد، مدير العلاقات العامة بالكنيسة الأرثوذكسية في قطاع غزة، مع الأب مانويل مسلم، مؤكداً أن فلسطين هي مهد الديانات، وعلاقة المسيحي والمسلم تسودها التسامح والاحترام، ويواجهان مصيراً واحداً ويعيشان المعاناة ذاتها.
وأكد عياد، الذي اعتُقل في السجون الإسرائيلية عام 1998 لمدة عام بسبب مشاركته في الانتفاضة الأولى، أن المسيحيين والمسلمين شركاء في النضال ومواجهة الاحتلال منذ القدم، ومنها ما يرويه له والده عن موقف حصل في حرب 1967 عندما احتل الجيش الإسرائيلي قطاع غزة، احتمى الناس بالكنيسة، ومع ذلك كانت الكنائس مستهدفة في القصف الإسرائيلي العشوائي.
تجدد المشهد إبان الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة عام 2008-2009، فتحت الكنائس أبوابها للنازحين من القصف الإسرائيلي في حي الشجاعية شرق مدينة غزة، حيث وفرت الكنائس وجبات الإفطار للمسلمين الصائمين، وأُقيمت الصلوات وصلاة التراويح في ساحة الكنيسة.
ويروي عياد في حديث خاص لـ"عربي بوست"، لحظات التعاضد يوم قصفت طائرات الاحتلال منزل عمه خلال الحرب الإسرائيلية عام 2014، حيث هب الجيران مسلمين ومسيحيين لإخراج أقاربه من بين الأنقاض، واستشهدت خلال القصف جليلة عياد، زوجة عمه، موضحاً أن القائمة تطول بأسماء وأرقام الشهداء والأسرى والجرحى من المسيحيين بقطاع غزة في دلالة على وحدة النضال ومواجهة الاحتلال والدفاع عن الأرض، مستذكراً الشهيد خضر ترزي، أول شهيد مسيحي في الانتفاضة الفلسطينية الأولى عام 1987.
من جهته، تحدَّث إلياس الجلدة، الناشط المسيحي المجتمعي، عن تأثر المسيحيين في قطاع غزة بالحصار الإسرائيلي المفروض والذي تدهورت فيه أوضاعهم الاقتصادية والتجارية، ومنهم من دخل تحت خط الفقر.
ويستذكر الجلدة في حديث خاص لـ"عربي بوست"، سنوات سجنه بالسجون الإسرائيلية عام 1990 بسبب مشاركته النضالية، يوم حاول السجان الإسرائيلي منع إقامة الأذان للصلاة في ساحة سجن النقب، ليقوم هو ويقيم الصلاة رغم أنف السجان.
وأضاف المتحدث أن "الحب المشترك والصداقة والعلاقات هي ما تُميز المسلم والمسيحي بالمجتمع الفلسطيني، ولا يجد المسلمون حرجاً مثلاً في انتخاب مسيحي بالانتخابات التشريعية عام 2006 التي شارك فيها النائب الراحل حسام الطويل بدعم من حركة حماس، أو اختيار مسيحي لإدارة مؤسسة عامة كحال اختياري رئيساً لجميعة عائشة لدعم الطفل والمرأة في قطاع غزة".
ويتحدث الجلدة عن حرية ممارسة العبادات في الكنائس والاحتفال بأعياد الميلاد بقطاع غزة، بل مشاركة المسلمين وتقديمهم التهاني للمسيحيين، من خلال كثير من المظاهر والتفاصيل الاجتماعية.
منهج مشترك
ويتنوع تعايش المسيحيين والمسلمين بفلسطين وفي قطاع غزة، ما بين المشاركة التعليمية والاقتصادية والسياسية والمجتمعية والنقابية.
وعلى الصعيد التعليمي، للمسيحيين في قطاع غزة 5 مدارس وروضة وجمعية الشبان المسيحية، يدرس فيها أكثر من 10 آلاف طالب وطالبة سنوياً من مختلف المراحل الدراسية، ويُدرَّس فيها المنهاج الفلسطيني، مع اختلاف مادة الأديان، حيث يتعلم المسلم المادة الإسلامية، ويتعلم المسيحي الديانة المسيحية.
وتقدم المؤسسات المسيحية الصحية الدعم اللازم والدور الواجب للقطاع الصحي الفلسطيني لمواجهة جائحة كورونا، وفق عياد، مؤكداً أن "المسيحيين لم يتقاعسوا يوماً عن واجبهم تجاه المجتمع الفلسطيني ولا يعتبرونه زيادة؛ بل هو واجب تجاه شعبنا وقضيتنا والمواطن الفلسطيني".
ويتفق معه المطران إليكسوس راعي كنيسة الروم الأرثوذكس بقطاع غزة، الذي يعبر عن عمق العلاقة الإسلامية المسيحية في قطاع غزة، بالقول: "المسيحيون جزء من جسد الشعب الفلسطيني ولم ينزلوا من السماء".