تمر تونس بأزمة اقتصادية كبيرة صنَّفها الخبراء بالأسوأ منذ 10 سنوات، إذ سجَّل مؤشر التنمية أدنى مستوياته، بالإضافة إلى عجزٍِ في الميزانية العامة للدولة عام 2020 بلغ قرابة 7 مليارات دينار تونسي (1.4 مليار دولار)، وارتفع منسوب الاحتقان الاجتماعي الذي تُرجم بتحركاتٍ واحتجاجاتٍ في عدد المناطق، الأمر الذي أدى إلى اقتراح مبادرة الحوار التونسي.
وأمام هذه الأزمة الاقتصادية تعددت الدعوات في تونس لعقد حوار وطني يضم مختلف الأطراف السياسية والمنظمات الوطنية الكبرى من أجل الوصول إلى حلول جدية لإخراج البلاد من هذه المرحلة الخانقة التي تمر بها.
وكانت أبرز هذه المبادرات، تلك التي كشفت عنها أكبر منظمة نقابية للشغل في تونس وهي الاتحاد العام التونسي للشغل، والتي كانت أحد أطراف الحوار الوطني الذي عرفته البلاد في سنة 2013.
نشر الاتحاد العام التونسي للشغل على موقعه الإلكتروني الرسمي، يوم 1ديسمبر/كانون الأول 2020، تفاصيل مبادرة الحوار التونسي التي تقدم بها، والتي كانت محور لقاءات عديدة بين أمينه العام، نور الدين الطبوبي، ورئيس الجمهورية التونسية قيس سعيِّد، آخرها لقاء الإثنين 30 نوفمبر/تشرين الثاني 2020.
وقدّم الاتحاد مبادرة الحوار التونسي التي أطلق عليها اسم "مبادرة الخروج من الأزمة في اتجاه خيارات وطنية جديدة" (قدم) إلى رئيس الجمهورية قيس سعيّد، باعتباره "الضامن لتطبيق الدستور ووحدة البلاد، والسَّاهر على أمنها وسلامة شعبها وأرضها"، وذلك بغرض احتضان المبادرة والإشراف عليها وتوفير شروط نجاحها.
مبادرة الحوار التونسي
واعتبرت مبادرة الحوار التونسي للمنظمة النقابية للشغل التي اطلع "عربي بوست" على تفاصيلها أن "تونس تعيش اليوم وضعاً دقيقاً ومنذراً بأخطار جسيمة على الدولة والوطن، وعلى جميع المستويات السياسية والاجتماعية والاقتصادية والأمنية، وازداد الوضع تأزّماً بعد تفشّي جائحة كورونا في موجتيها الأولى والثانية".
وحمّلت مبادرة الاتحاد الطبقة السياسية المسؤولية الكبرى عن الوضع بسبب "أزمة الحكم والتشتّت الحزبي، والتنافر بين السلط"، معتبرة أن " المزاج الشعبي صار سلبياً ويسوده فقدان الثقة في السياسيين، والخوف من المستقبل، وتطغى عليه مشاعر الإحباط والنّفور بسبب تنامي الصراعات العبثية والعنيفة تحت قبّة البرلمان حتّى صار العمل داخله ما يشبه المستحيل، كما أن الحكومات المتعاقبة قد عجزت عن تجسيد الاستحقاقات الاجتماعيّة والاقتصاديّة التّي نادت بها الثورة".
واعتبرت المنظمة النقابية أن "مبادرة الحوار التونسي هذه أصبحت ضرورية من أجل إنقاذ الوضع، وهي مفتوحة على كلّ القوى الوطنية التي تؤمن بالدّولة المدنية الديمقراطية الاجتماعية، وتنبذ العنف وترفض الإرهاب وتدافع عن السيادة الوطنية، ولا تصطفّ مع الأحلاف الخارجية مهما كان عنوانها".
تغيير النظام السياسي
نادت مبادرة الحوار التونسي للاتحاد العام للشغل بـ"ضرورة مراجعة قانوني الأحزاب والجمعيات، من أجل فرض مزيد من الرقابة على مصادر تمويلها ومدى التزامها بأحكام الدستور، خاصّة مع تبادل الاتهامات بين عدد من الأطراف السياسية حول التمويل الأجنبي واستغلال الجمعيات لأغراض سياسية، وهو ما أكّده جزء من التقرير الأخير لمحكمة المحاسبات حول تمويل الحملات الانتخابية الرئاسية والتشريعية للعام 2019، بالإضافة إلى مراجعة القانون الانتخابي لنفس الأسباب".
وترى مبادرة الحوار التونسي أنه "من الضروري الانطلاق في فتح حوار مجتمعي واسع بسقف زمني مفتوح من أجل البحث في تعديل النظام السياسي أو تغييره، وهو النظام الذي أقرّه الدستور التونسي الصادر في يناير/كانون الثاني 2014، وتمت المصادقة عليه بـ200 صوت من أصل 217 من أعضاء المجلس الوطني التأسيسي".
ويرى الاتحاد في مبادرة الحوار التونسي أنه من الضروري عقد حوار وطني من أجل بحث جملة من القضايا الاجتماعية والاقتصادية التي دعت لها المبادرة، مقترحاً "إرساء هيئة حكماء من كافّة الاختصاصات، تتكون من الشخصيات الوطنية المستقلّة وتعمل تحت إشراف رئاسة الجمهورية".
وتتولّى الهيئة التي لا يمكن لأعضائها تحمّل مسؤوليات سياسية أو الترشّح للانتخابات المقبلة، إدارة الحوار وتقريب وجهات النّظر والتّحكيم بين كلّ الأطراف المعنية بالحوار وفق روزنامة زمنية معقولة.
تجربة صعبة
سبق للاتحاد العام التونسي للشغل رفقة 3 منظمات وطنية تونسية (اتحاد الأعراف، وهيئة المحامين، ورابطة حقوق الإنسان)، أن قاد حواراً وطنياً سنة 2013 للخروج من الأزمة السياسية التي عاشتها البلاد، إثر اغتيال النائب المعارض محمد البراهمي.
وخلال هذه مبادرة الحوار التونسي تم التوصل إلى خارطة طريق والمصادقة على دستور جديد، وقانون انتخابي، وتشكيل حكومة تكنوقراط لإدارة البلاد بعد استقالة حكومة "الترويكا" التي كانت تقودها حركة النهضة وتنظيم انتخابات رئاسية وتشريعية.
وقد يرى البعض أن هذه التجربة ملهمة للاتحاد من أجل لعب دور خلال هذه المرحلة، إلاّ أن آخرين يرون أن الوضع السياسي مختلف عمّا كان عليه في العام 2013، بالإضافة إلى الاستحقاقات التي ينادي بها الشارع التونسي.
واعتبر المحلل السياسي التونسي، الحبيب بوعجيلة، أن "مبادرة الاتحاد آفاقها محدودة نظراً لوضعية الانقسام السياسي الحاد الموجودة حالياً في البلاد، والتي تُظهر الاتحاد العام التونسي للشغل كطرف في الصراع الموجود، إذ إن مبادرته ستظهره عند الأطراف المختلفة معه كأنه طرف يحاول أن يبرز في صورة الحَكم ولكنّه حَكَم وخصم في نفس الوقت".
ويرى بوعجيلة في تصريح لـ"عربي بوست" أن "مبادرة الحوار التونسي لا يمكن أن تذهب بعيدا، خاصّة أنها تطرح قضايا النقاش والحوار حولها سيطول جداً، مثل مراجعة أو تعديل النظام السياسي، وهو ما يقتضي توافقاً واسعاً في البرلمان أو الذهاب لاستفتاء، وهذا الأمر أصعب من الذهاب إلى انتخابات جديدة".
أما علاقة موقف رئيس الجمهورية قيس سعيّد بالمبادرة، فبحسب بوعجيلة فإن "رئيس الدولة لا يقدم نفسه الآن كحَكم أو ضامن لوحدة التونسيين، وإنما يقدم كطرف سياسي مقابل فشل الطبقة السياسية الحالية واعتبار نفسه خصماً لها، وخصماً للمنظومة السياسية القائمة بأحزابها ونظامها السياسي الحالي، وكذلك خصم لأطراف سياسية محددة دعا لاستثنائها من الحوار الوطني، وبالأساس أتوقع أنه يقصد حزب "قلب تونس" نظراً للخلاف الجذري معه".
ترحيب حَذِر بمبادرة الحوار التونسي
أمام تباين الآراء حول مبادرة الحوار التونسي وموقف الرئيس من الوضع السياسي للبلاد، عبَّر الأمين العام للحزب الجمهوري، عصام الشابي، عن ترحيبه بمبادرة الاتحاد العام للشغل للحوار الوطني، قائلاً إن "مؤسسات الدولة اليوم وصلت إلى درجة من الضعف والوهَن والتنازع فيما بينها بالإضافة إلى ضعف الحكومة وغياب أي تصور، وللخروج من الأزمة يُحتم الجلوس حول طاولة الحوار من أجل الاتفاق حول سياسات جديدة، والمطلوب اليوم هو تغيير السياسات وليس تغيير الحكومات، فقد جربنا تغيير الحكومة فتغيرت الأسماء دون أن يتغير شيء في واقع التونسيين".
وعبّر الشابي في حديثه مع "عربي بوست" عن عدم تفاؤله حول إمكانية الوصول إلى عقد هذا الحوار الوطني التونسي، إذ قال: "نعتقد في حزبنا الجمهوري أن الظروف لم تنضج بعد حتى ينعقد مثل هذا الحوار رغم حاجة البلاد لذلك مع الأسف، إذ لم يتضح بعد من هي الجهة التي ستشرف عليه، رغم أننا نرى مثل الاتحاد أن الرئاسة هي الجهة المؤهلة أكثر، ولكن هذا ليس محل اتفاق بين مختلف الفرقاء السياسيين".
وأضاف الشابي: "نحن ندعو إلى إنضاج الظروف من أجل عقد هذا الحوار الوطني، وندعو رئيس الجمهورية قيس سعيد إلى الاتصال بكل الأطراف السياسية البرلمانية وغير البرلمانية، والمنظمات الوطنية والشخصيات الوطنية، لتهيئة المناخ لانعقاده وبلورة أهم التصورات الكبرى حول مخرجاته".
وأمام تأويل حديث رئيس الجمهورية حول "الفاسدين الذين لا يمكن الحوار معهم واستثنائهم من الحوار الوطني"، توجَّه البعض بالاتهام لحزب "قلب تونس" بدرجة أولى وحركة النهضة بدرجة ثانية، إذ اعتبر الشابي أنه "من غير الممكن إقامة مبادرة الحوار التونسي دون مشاركة حركة النهضة باعتباره حزباً له قوة سياسية رئيسية اليوم رغم منافستنا له".
وأضاف المتحدث أن "خلق استثناءات أخرى بحجة الفساد، فلا يمكن أن يحددها رئيس الجمهورية منفرداً، في نفس الوقت هل سيقع استثناء أعداء الديمقراطية والذين لا يؤمنون لا بالثورة ولا بالدستور ويدعون للعودة إلى ما قبل الثورة؟ وهل سيقع استثناء التطرف اليميني الشعبوي الذي يمثل ائتلاف الكرامة مثلاً؟ هنا الرقعة تتسع لذلك يجب أن يقوم رئيس الجمهورية باتصالات للتعبير عن وجهة نظره والاستماع إلى مختلف الآراء".