هُن ضحايا تطرف الزوج والثقة، قصص مأساوية تلك التي تعيشها مغربيات بمخيمي "الهول" و"الروج" في سوريا، هاجرن قبل سنوات رفقة أزواجهن بغرض "الجهاد في الثورة السورية"، لكن الواقع أصبح شيئاً آخر، أرامل وأمهات ليتامى بدون هوية ثم سبايا لتنظيم "داعش" الإرهابي.
يبلغ عدد المغاربة الذين التحقوا بداعش حسب الأرقام الرسمية التي أعلنت عنها المديرية العامة للأمن الوطني والمديرية العامة لمراقبة التراب الوطني 1060 شخصاً، قُضي على عدد كبير منهم في المعارك القتالية، في حين ينتظر عدد من ضحايا التنظيم نظرة الدولة لإعادتهم لحياتهم الطبيعية في المغرب.
بصعوبة بالغة استطاع "عربي بوست" ربط الاتصال بسرية تامة بمغربيتين محتجزتين إلى جانب الآلاف من بنات جنسهما من دول مختلفة داخل المخيمات التي تسيطر عليها قوات سوريا الديمقراطية، فالوضع هناك خطير، وضبط هاتف بحوزة إحداهن مخالفة عقوبتها قاسية قد تصل إلى حد الحجز الانفرادي والمنع من الأكل والشرب.
ضحايا الزوج و"داعش"
الحياة في المخيمات عسيرة لا شيء يهونها غير أمل منتظر قد يتحقق بقرار رسمي من طرف السلطات المغربي، وهي الجهة الوحيدة المخول لها إعادة المغربيات المحتجزات في مخيمات "داعش" بعدما قُتل أزواجهن في المعارك.
التضييق والحصار والعقوبات دفعت مغربيات محتجزات بمخيم "الهول" و"الروج" في سوريا إلى الحديث مع "عربي بوست" بهواتف سرية وبأسماء مستعارة حفاظاً على سلامتهن وسلامة أطفالهن.
جيداء (اسم مستعار) أم تبلغ من العمر 34 عاماً، واحدة من المغربيات اللائي ذهبن رفقة أزواجهن إلى سوريا من أجل العيش في "أرض الخلافة" كما رُسم في مخيلتها من طرف الزوج وتنظيم الدولة في آن واحد.
لم تكن جيداء متفقهة في الدين، كما أنها لا تحمل أي أفكار متطرفة، فهي شابة تنحدر من وسط متواضع تُسيطر عليه النزعة الذكورية، كما أن الحياة لم تُسعفها فرصة إتمام دراستها، الأمر الذي دفعها إلى اتباع اختيارات الزوج الذي دمرها وحياته بنهايته المأساوية في معارك القتال.
وجدت جيداء نفسها أرملة مسؤولة عن طفلين بعد مقتل زوجها، بعدما كانت هذه الزيجة هي الملاذ الوحيد كي لا تظل عبئاً ثقيلاً على عائلتها، لكنها لم تكن تعلم أن نهاية هذا الزواج ستكون على أرض معركة.
تقول جيداء لـ"عربي بوست": "أنا مجرد فتاة من بيئة مغربية محافظة لكن زوجي كان سلفياً ولم أكن أتخيل أنه سيصبح واحداً من مقاتلي تنظيم "داعش"، ويلقى مصرعه في ساحات القتال".
تتذكر جيداء أثناء حديثها أول أيامها في ضيافة تنظيم الدولة، فمباشرة بعد وصولها لسوريا عبر تركيا تم وضعها في منزل فاخر وعزلها عن زوجها، وسُحب منها الهاتف وجواز السفر وبطاقة التعريف الوطنية.
تحكي جيداء قصتها لـ"عربي بوست" قائلة: "كان المنزل الفاخر الذي أقيم فيه إلى جانب عدد من النساء مثل المعتقل، وكان يتوجب علينا النهوض فجراً للصلاة جماعة، كما كانت مسؤولات "داعش" يحددن توقيت أكلنا ونومنا".
وتابعت المتحدثة: "بعد أسبوع منحتني المسؤولة هاتفي، وطلبت مني أن أجري اتصالاً بعائلتي وأخبرهم بأنني بخير وألا أطيل، فقلت لها وما شأنك فيما سأقول لهم، فكان جوابها: "أتريدين العودة لبلاد الكفر؟".
ضلت جيداء في المنزل الذي يُطلق عليه اسم "مضافة" في اللغة العامية السورية، وذلك إلى حين إنهاء زوجها لـ"المعسكر العسكري والشرعي"، حينها سُلمت له شقة مؤثثة في إحدى العمارات للعيش فيها رفقة أسرته، فوجدت الشابة المغربية نفسها غريبة وسط "دولة داعش"، فالفتاة ألِفت الحرية ولم تعتد على أوامر "هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر".
فوضى "أمراء" داعش
تضاعفت معاناة جيداء بعد وفاة زوجها في ساحات القتال بعدها أصبح الوضع فوضاوياً، خصوصاً أن "داعش" كانت تُغير أمراء المنطقة باستمرار، وكان كل أمير يتخذ قرارات مخالفة لسلفه تؤثر خصوصاً على النساء.
تقول جيداء في حديثها مع "عربي بوست": "كان تغيير الأمراء يؤثر علينا بشكل مباشر، فبينما يسمح أحدهم بذهاب النساء عند الطبيب والخروج للتسوق لا يسمح آخر بذلك ويشترط تواجد محرم إلى جانب المرأة إذا أرادت القيام بأغراضها".
حاولت جيداء الهروب إلى تركيا بعد وفاة زوجها داخل شاحنة يملكها أحد المهربين، لكنه بدل تهريبها سلمها لقوات سوريا الديمقراطية رفقة عدد من النساء من جنسيات مختلفة لتبدأ بعد ذلك رحلة معاناة جديدة.
ولم يكن تعامل قوات سوريا الديمقراطية مع الموقوفات أرحم من "داعش"، فبحسب جيداء عمدت محققات قوات سوريا الديمقراطية إلى تجريد النساء من ثيابهن وتعصيب أعينهن قائلة: "قامت إحدى المحققات بإطفاء سجارتين على جسدي، ناهيك عن تعذيبي نفسياً قبل تحويلنا إلى أحد المخيمات، وهناك الحياة مزرية، فلا فضاءات تأطيرية ولا ترفيهية ولا أكل صحياً".
وأضافت المواطنة المغربية المحتجزة في سوريا: "ثلاث سنوات من الروتين القاتل قضيتها داخل المخيم أعيش حياة البهائم، وطفلاي بدون تعليم ولا أعرف مصيري ولا مستقبلي وكنت ضحية لأفكار زوجي المتطرفة".
وأقرت جيداء في حديثها مع "عربي بوست" بخطئها واعتبرت أن "كل من التحق بـ"داعش" من آباء وأمهات هم مستهترون، والخطأ لن تمحوه سنوات من الاعتذار لكن الأطفال لا ذنب لهم في ضياع الوالدين، وعلى السلطة العليا في البلاد في المغرب أن ترى من حال هؤلاء".
تشابه المآسي
الأم الشابة جيداء ليست الوحيدة العالقة في مخيمات سوريا الديمقراطية، فحسب معلومات حصل عليها "عربي بوست" من داخل مخيمي "الهول" و"روج" في سوريا فإن حوالي 200 امرأة مغربية تعيش داخل هذه المخيمات في وضعية مزرية لا تتوفر فيها أدنى شروط الإنسانية.
ياسمين (اسم مستعار) ضحية أخرى تنحدر من مدينة بني ملال المغربية، حاولت الهروب أكثر من مرة من جحيم المخيم، لكن الأسعار التي يُحددها المهربون مرتفعة جداً، وتفوق قدرتها، لذلك انصاعت لأمر الواقع وقبلت بحياة الخيام المزرية.
تقول ياسمين في حديثها لـ"عربي بوست": "لم أكن أتفق مع أفكار زوجي المتطرفة، ولم يخبرني في البداية عن نيته التوجه للقتال في سوريا، بل أخبرني بأننا سنهاجر من أجل تحسين وضعنا المعيشي فقط".
وأضافت المتحدثة: "لا أريد اليوم شيئاً غير إرجاعي للوطن، ندمت أشد الندم على الوثوق في زوجي، ولم أكن أتوقع أن أصل للحال الذي أنا عليه الآن".
ولقي زوج ياسمين مصرعه في ساحات القتال، وظلت هي في بلدة الباغوز، آخر معاقل "داعش" والتي حولها الأكراد إلى مخيمات تُعاني من سوء التغذية وغياب العلاج وانقطاع الأطفال عن الدراسة.
"أنقذونا من جحيم المخيم"
مآساة ضحايا "داعش" لا تختلف عن أسرهم في المغرب، الذين يُطرقون كل باب للأمل، ويتبعون كل خطاب رسمي أو غيره بغية استعادة أقاربهم الذين علقوا وسط المخيمات لسنوات عديدة.
عمار أمدجار مواطن يُقيم في المغرب انقلبت حياته رأساً على عقب بعد ارتماء طليقته المهاجرة بالديار الفرنسية في أحضان تنظيم "داعش" وهي حامل رفقة ابنتيه أمينة وماريا.
يقول عمار في حديثه مع "عربي بوست": "كانت طليقتي متشددة ولا تصافح الرجال، لكنني لم أتوقع أن تنضم لصفوف "داعش" وتتسبب في مأساة لأطفالي خصوصاً بعد مقتل طفلي الرضيع رفقة أمه، وإصابة ابنتي خلال غارة شنها التحالف الدولي على مواقع تنظيم الدولة الإسلامية".
وكشف أمدجار أنه لا يتواصل مع ابنتيه العالقتين في المخيمات السورية إلا عن طريق الصليب الأحمر، ويتخوف أن يطول بقاؤهن في هذه المخيمات دون تعليم وتطبيب وحياة إنسانية تضمن كرامتهن.
وأضاف المتحدث أنه توصل برسالة من إحدى ابنتيه القاصر سلمها لـ"عربي بوست" تخبره من خلالها أن والدتها توفيت وأنها أُصيبت بدورها في يدها وأجريت لها عملية جراحية، كما تؤكد أنها اشتاقت كثيراً لعائلتها وتطلب التدخل لإنقاذها من جحيم المخيم.
ولم يخف عمار تذمره من عدم إسراع السلطات المغربية بجلب ابنتيه من مخيمات داعش، مؤكداً أنه فكر أكثر من مرة في الذهاب بنفسه لمخيم "الهول" وجلبهن، لكنه لا زال يأمل أن تتحرك الحكومة المغربية لتخلصه من هذا الكابوس.
آمال الأب عمار شاركتها معه أماني المواطنة المغربية مريم، وهي أم مقاتل مغربي سابق في صفوف "داعش" يقبع حالياً في سجون قوات سوريا الديمقراطية بدون محاكمة، والتي قالت إن "أقصى ما تتمناه أن يتم ترحيل ابنها ومحاكمته محاكمة عادلة في بلده".
مريم الأم القاطنة في مدينة طنجة شمال المغرب قالت في حديثها مع "عربي بوست": "كان ابني طالب هندسة، ولم تكن تظهر عليه في البداية أي علامات التشدد أو التطرف، لكن قبل أشهر من مغادرته المغرب أصبح انطوائياً ويرتدي ملابس السلفيين".
وسردت المتحدثة طريقة مغادرة ابنها لأرض الوطن باتجاه سوريا: "ابني أخبرني بأنه سيزور صديقه في مدينة أكادير، قبل أن أفاجأ بأنه التحق بداعش، فصعقت من هول الصدمة، بعدما وصلتني رسالة تخبرني أن ابني وصل بلاد الإسلام".
وبحسب مريم، فإن ابنها وقف على حقيقة "داعش"، وحاول الهرب لكنه سقط في يد الأكراد واقتيد للسجن، حيث لا زال ينتظر ترحيله لوطنه دون جدوى.
ندم بعد القتال
أنور أديب واحد من المغاربة الذين قاتلوا في صفوف "جبهة النصرة" بسوريا ويعيش اليوم في تركيا عاجزاً عن العودة للمغرب خوفاً من اعتقاله ومحاكمته.
يقول أديب، الذي تزوج من سورية وأنجب منها طفلاً، إنه "غادر سوريا بعدما تبين له أنه يقوم بحرب بالوكالة لصالح جهات معينة وليس لصالح الشعب السوري كما رُسم له".
وأضاف أديب في حديثه مع "عربي بوست": "كنت أعتبر أن ما أقوم به عمل شرعي، خاصة أن عدداً من الشيوخ أفتوا بضرورة الجهاد في سوريا، وهو ما حملني على الذهاب لكنني ندمت على ذلك أشد الندم".
وتابع المتحدث: "أنا لم أضر بلدي، أخطأت بالقتال في سوريا، لكنني لم تكن لي أية نية للإضرار بمصالح المغرب"، داعياً الحكومة المغربية إلى مد يدها للمقاتلين الذين عبروا عن ندمهم.
أديب يعتبر نفسه ضحية للبروباغندا الجهادية التي تزامنت مع الثورة السورية، ويدعو السلطات المغربية إلى مد يد المساعدة له، خاصة أن طفله اليوم يعيش في تركيا بدون هوية.
تحرك حكومي
أمام القصص الصادمة القادمة من بلاد الشام، فكشف عبدالحق الخيام، رئيس المركز المغربي للأبحاث القضائية المكلف بمتابعة قضايا الإرهاب، أن المغرب بصدد إعداد استراتيجية لإعادة النساء والأطفال المتواجدين في مخيمات سوريا، مؤكداً أن "النساء المغربيات المحتجزات في مخيمات "داعش" لسن إرهابيات ولم يشاركن في القتال بل رافقن أزواجهن فقط إلى مناطق التوتر".
بالموازاة مع ذلك قرر مجلس النواب المغربي تشكيل لجنة للقيام بمهمة استطلاعية مؤقتة والوقوف على حقيقة ما يعانيه العديد من الأطفال والنساء والمواطنين المغاربة العالقين بسوريا في مخيمات لا زالت تخضع لإمرة تنظيم الدولة الإسلامية.
ومن المنتظر أن تشرع مهمة اللجنة الاستطلاعية في عملها ابتداءً من الأسبوع المقبل، بعدما حازت على موافقة مكتب مجلس النواب، وذلك بتشكيل رئيس لها، قصد الانتقال إلى سوريا والوقوف على وضع المغاربة العالقين هناك، بتنسيق مع الصليب الأحمر.
اللجنة المنتظر تشكيلها ستقوم بجمع المعطيات الضرورية المتعلقة بالموضوع وذلك من خلال الاستماع للأطراف المعنية، وكذا الاستماع لمسؤولي الحكومة ومؤسسات الدولة، وإعداد تقرير وتوصيات بشأن ما توصلت إليه، كما يتم مناقشة هذه التقارير بحضور الحكومة.
وجاءت موافقة مكتب مجلس النواب المغربي على تشكيل مهمة استطلاعية للوقوف على الوضعية التي يعيشها المئات من الأطفال والنساء في بؤر التوتر بناءً على طلب تقدم به النائب البرلماني عبد اللطيف وهبي.
وهبي قال في حديث لـ"عربي بوست" إن "قبول طلب تشكيل مهمة استطلاعية للوقوف على وضعية أطفال ونساء المقاتلين المغاربة في سوريا تأخر كثيراً، لكنه قُبل أخيراً، وستباشر اللجنة عملها بتنسيق مع الحكومة المغربية والصليب الأحمر من أجل الوقوف على حقيقة الوضع، وذلك في انتظار انتخاب رئيس للجنة بداية الأسبوع المقبل للشروع في المهام".
وأضاف المتحدث: "المغرب لا يمكن أن يتنكر لأبنائه في سوريا فهم يظلون مغاربة، وينبغي أن نعالج هذا الملف في إطار القانون عبر محاكمة الذين شاركوا في القتال وإعادة تأهيل الأطفال والنساء الذين لا ذنب لهم"، مضيفاً أنه "من المرتقب أن تستمع اللجنة لوزارة الداخلية ووزارة الخارجية، فضلاً عن القيام بزيارات لأماكن تواجد المقاتلين ونسائهم وأطفالهم بتنسيق مع الصليب الأحمر".
ومنذ مدة بدأ عدد من المغاربة العالقين بسوريا، نساء ورجالاً وقاصرين ببعث رسائل إلى عائلاتهم من أجل إيجاد حل لهم وإعادتهم إلى المغرب، بعدما وجدوا أنفسهم محتجزين في مخيمات يسيطر عليها الأكراد في سوريا، وذلك عقب هزيمة تنظيم الدولة "داعش".
ويأمل عبداللطيف وهبي، النائب البرلماني الذي يقود المهمة الاستطلاعية بشأن نساء وأطفال مقاتلي داعش من المغرب، أن "يحل هذا الملف بالتنسيق مع الحكومة قريباً، نظراً لأبعاده الإنسانية، مشيراً في حديثه مع "عربي بوست إلى أن "المغرب لا يفرط في أبنائه".