"يُمكن أن يكون من الصعب العثور على مكان رعاية للأطفال لطفل عمره أقل من 6 سنوات، على الرغم من أن لكل طفل في ألمانيا حقاً في الحصول على مكان رعاية بدءاً من عمر عامٍ واحد". بهذه الكلمات اختارت مقاطعة لودفيغسبورغ الألمانية أن تُوجّه كلمتها للسائلين عن الحضانات عبر موقعها الرسمي في نسخته العربية.
كلمة المقاطعة تُترجم عُمق أزمة كبيرة تعيشها ألمانيا بسبب قلة الحضانات مقارنة مع عدد الأطفال، أزمة تعاني منها ساكنة ألمانيا على حد سواء، فإيجاد مكان شاغر لطفل يتطلب من الأسرة -أياً كانت جنسيتها- تسجيل أطفالها في لوائح الحضانات قبل ولادته.
أزمة الحضانات في ألمانيا تتضاعف لدى الأسر من أصول عربية والمسلمين، فروضات الأطفال تلجأ إلى "الحيل" لرفض أبناء العرب، وتبرر سلوكها بكون الطفل "لا يجيد اللغة الألمانية"، ولم يستطع التأقلم مع زملائه ومع المربيات.
عنصرية عرقية
كشف موقع "دويتش لاند" الألماني الرسمي، أن 40% من الأطفال دون سن 5 سنوات في البلاد ينحدرون من أصول مهاجرة. وحسب الوزيرة الألمانية الاتحادية لشؤون الأسرة والمسنين والمرأة والشباب، فإن كل ثالث طفل في ألمانيا يعيش اليوم في أسرة أحد الوالدين على الأقل من المهاجرين أو يمتلك جنسية أجنبية. وما يقرب من 4.1 مليون طفل يتربون على أكثر من لغة وثقافة واحدة.
وتختلف السن القانونية للولوج الإلزامي للطفل إلى الحضانة بين الولايات الألمانية، لكنه غالباً ما يتراوح بين 3 و4 سنوات، لكن هل بعد وصول الطفل لهذا العمر يضمن حق الحصول على كرسي في حضانة، فالأزمة في ألمانيا على الجميع، لكن الطفل الأجنبي يبقى الأكثر تأثراً بهذا.
التعامل مع الأسر الأجنبية في ألمانيا ليس سوياً بالتعامل مع أبناء البلد، فالانتماء العرقي والديني يُؤثر كثيراً، فيظهر سلوكيات عنصرية يقترفها مسؤولو الحضانات، الأمر الذي اضطر الكثير من الأسر المهاجرة إلى تسجيل العشرات من الشكاوى في القضية.
بلال شوبكي، مواطن أردني من أصول فلسطينية ومهاجر إلى ألمانيا يحكي تجربته لـ"عربي بوست" كون حضانة بمدينة بون غرب ألمانيا رفضت استقبال ابنته البالغة 3 سنوات على الرغم من أن أمها ألمانية والطفلة تحمل الجنسية منذ يوم ولادتها، لكن نسبها العربي منعها من الحصول على حقها القانوني في إيجاد مكان شاغر داخل روضة للأطفال.
يقول بلال: "وصلني إشعار عبر البريد الإلكتروني يقول إن ابنتي قُبلت في الحضانة، بعد تقديمنا للطلب بأكثر من سنة، لكن بعد اتصال هاتفي جمعني بالمسؤولة التربوية للمؤسسة، اكتشفت من خلاله تعثر لغتي الألمانية، فسألت عن تفاصيل أصولي ولغتي الأم، وسألت إذا ما كانت الطفلة تتحدث اللغة الألمانية وأنهت المكالمة على أن نتواصل ببريد إلكتروني بداية الأسبوع يحدد يوم التحاق الطفلة في الحضانة".
يضيف بلال الذي وصل إلى ألمانيا قبل 4 سنوات: "تفاجأنا برسالة إلكترونية من الحضانة مفادها أن المكان لم يعد متوفراً، وأن الطفلة لن تلج المؤسسة التربوية نهائياً، ما دفعني إلى الاتصال والاستفسار، بل والاحتجاج على هذا التراجع غير المبرر".
إصرار المديرة التربوية على عدم توافر مكان بشكل فجائي دفع بلال لربط الاتصال بإدارة ألمانية مختصة بهذه الملفات، فحلت الأزمة بإيجاد مكان آخر للطفلة في روضة أخرى لتفادي التصعيد ومشاكل إضافية.
عائق اللغة
قصة بلال ليست الوحيدة في ألمانيا، فمثله المئات من الأسر العربية، لكن الحضانات الألمانية اختارت التبرير عوض عن مصارحة الأسر بأسباب الرفض، ومن بين المبررات التي تقدمها الحضانات مشكلة اللغة، الأمر الذي تكرر مع أسر مُنع أطفالها من الاستفادة من الحضور إلى الحضانات بسبب تلعثمهم في الحديث باللغة الألمانية.
طفل آخر عربي مسلم تحدثت أمه لـ"عربي بوست" وقالت إنها فوجئت بتوقيف ابنها لأسباب جمعها الطاقم التربوي في "عدم تواصله بالألمانية بشكل كافٍ"، تقول الأم: "كل المعلومات حول ابني كانت متوافرة لدى الروضة قبل قبوله بين الأطفال المستفيدين من الرعاية ضمن هذه المؤسسة، كما أن وثائق التسجيل تُثبث أصول الطفل العربية ولغته الأم، ويعرف كلمات أساسية فقط في اللغة الألمانية، وقانونياً أصوله ولغته لا تمنعانه من متابعة الحضور".
تضيف الأم أن التركيز على اللغة الأصلية في تربية الأطفال في ألمانيا يوصي به الأطباء منذ أول لقاء بوالدين مهاجرين، وهو ما تلتزم به غالبية الأسر، كما أن الأطباء دائماً ما يطمئنون الأسرة بكون اللغة الألمانية تعد بالنسبة للطفل لغة للاكتساب في الروضة والشارع، وأن الأمر لا يتعدى بضعة أشهر من مخالطة الأطفال ليتمكن الطفل من التحدث بها بطلاقة.
منع الطفل من العودة بعد أول أسبوع له بالروضة، أصاب الأسرة التي لم يمضِ على تواجدها بألمانيا أكثر من 3 سنوات، إحساس بالإحباط، خاصة أنهما لاحظا كما نقلت الأم "منذ أول يوم للطفل في الروضة تعاملاً يتسم بالبرود في غالب الأحيان، وقسوة في التعامل المباشر مع الطفل يومياً، إلى أن صار خائفاً من ولوج الروضة فور رؤية المربيات المسؤولات".
التصرف الذي اعتبرته الأسرة العربية "عنصرياً" دفعها إلى تقديم شكوى أمام المصالح المختصة في المدينة، وبتدخل من مساعدة اجتماعية تم الاحتجاج على الروضة الأولى بسبب التوقيف غير المبرر وإضافة اسم الطفل في حضانة أخرى تتسم الأجواء فيها بتسامح أكبر مع الأطفال من أصول عربية مهاجرة.
السوري سبب الأزمة؟
تُلصق الحضانات الألمانية أسباب الأزمة الكبيرة في موضوع الحضانات، إلى الأسر المهاجرة خاصة السورية التي قدمت بأعداد كبيرة وفي مدة قصيرة بعد قرار سياسي للمستشارة الألمانية ميركل يقضي باستقبال المهاجرين السوريين بالبلاد خلال اشتداد الحرب في سوريا.
الأسر السورية، وحسب الملاحظ في المجتمع الألماني، لديها وتيرة إنجاب مرتفعة مقارنة بباقي الجنسيات المهاجرة، فأقل أسرة سورية تجد فيها طفلين في سن الولوج إلى الروضة، الأمر الذي يُرجعه المجتمع الألماني إلى رغبة الأسر في الاستفادة من 200 دولار منحة الدولة عن الطفل الواحد.
المرشدة الاجتماعية والخبيرة في شؤون الاندماج، لينا غنامة، نفت في حديث مع "عربي بوست" أن تكون المشكلة قد بدأت بقدوم السوريين، لكنها أوضحت أن الكم الهائل من اللاجئين الوافدين في فترة جد قصيرة إلى ألمانيا تسبب في تفاقم أزمة الحضانات في ألمانيا، إذ صار الطلب يفوق العرض بكثير.
وأشارت المتحدثة إلى أن "اطلاع الألمان الأوسع بالمتاهات الإدارية والمعرفة الأكبر بالقوانين، تجعل مهمة الأسرة الألمانية أسهل مقارنة مع أسرة مهاجرة"، مضيفة أن "عامل إتقان اللغة والتواصل المستمر والمحاولة الدائمة للتفاهم، أشياء تسهم في تحقيق استمرار علاقة جيدة بين المؤسسة التربوية والأسرة المهاجرة".
لينا غنامة تشرح أن "وضعية عدم توافر حضانات مشكلة تؤرق الأسر المهاجرة والألمانية على حد سواء"، قائلة: "يتلقى مركزنا الكثير من الشكاوى من أسر أجنبية تقول إنها رفضت بسبب الانتماء العرقي أو الديني، لكن لا يكون الأمر كذلك دائماً، فغالباً ما تكون الأولوية للأسر التي يعمل فيها الوالدان معاً، وهذا ما لا ينطبق على الكثير من الأسر المهاجرة".
وأضافت المتحدثة: "مهمتنا في المركز تهدئة الأوضاع وليس تأزيمها، فنحن نحاول قدر الإمكان مساعدة المشتكين وشرح الأسباب التي دفعت المؤسسة للرفض حتى نتجاوز المشكلة ونجد حلاً بديلاً، فالاندماج والتأقلم لن يتمّا بالأفكار السلبية بل بمحاولة إيجاد الحلول"، مؤكدة أن "الحالات التي يثبت فيها تمييز عنصري تكون حالات فردية، متعلقة بمربية معينة داخل مؤسسة ما وليس نهجاً مؤسساتياً معلناً".
ألمانيا تعترف بالعنصرية
"ربع التلاميذ والطلاب من أصول أجنبية يشعرون بعدم معاملتهم على قدم المساواة في نظام التعليم الألماني"، هذا ما كشفت عنه دراسة، نشرتها سابقاً وكالة مكافحة التمييز الألمانية (ADS). تم عرضها على البرلمان الألماني.
وأشار التقرير إلى "نقص في الدراسات والأبحاث العلمية المتخصصة في قضايا التمييز، سواء في مجال التعليم أو في سوق العمل".
موقع دويتشه فيله في نسخته الألمانية نقل تصريحاً لكريستينا لودرز، رئيسة الوكالة الألمانية للتمييز قالت فيه إن "هناك العديد من أشكال التمييز، وهناك أيضاً التمييز الخفي، عندما يشعر المرء دائماً بالإهانة بشكل غير مباشر مثلاً".
وتتحدث الدراسة التي تطرقت لما يُعرف بالتمييز الهيكلي، حيث يتم تفضيل التلاميذ الألمان على التلاميذ من عائلات ذات أصول أجنبية، ففي حالة تساوي العلامات الدراسية مثلاً غالباً ما يستفيد التلاميذ الألمان من توصية دخول المدرسة الثانوية.
حال ألمانيا لم يتغير منذ سنوات، فقد أعلنت مؤخراً إحدى الجمعيات التربوية الألمانية في ولاية سكسونيا عن إدراج حصص لسرد قصص وغناء أناشيد باللغة العربية في مناهج رياض أطفال، ليلقى المشروع رفضاً كبيراً وانتقادات واسعة من قبل اليمينيين.
ونقل موقع "مهاجر نيوز" الألماني أن مشروع إدراج اللغة العربية ضمن البرامج التعليمية لرياض الأطفال في ألمانيا، أثار الكثير من الجدل، إذ عمدت بعض وسائل الإعلام إلى استخدام عناوين مغلوطة حوله، ما أتاح المجال لليمين المتطرف والعنصريين للجهر برفضه.
الجمعية المعنية بالمشروع ردَّت في صفحتها على موقع فيسبوك قائلة: "المشاركة ليست إجبارية، كما جاء في بعض الصحف، ويمكن لجميع الأطفال المشاركة والتعرف على لغة أصدقائهم. نحن لا نقدم حصصاً لتعليم اللغة، وإنما نريد تعزيز التعددية اللغوية في المنطقة. وهذه المبادرة تتضمن اللغات الألمانية والصربية والبولندية والتشيكية والروسية والإنجليزية، بالإضافة إلى العربية والعديد من اللغات الأخرى".