تشير تطورات المشهد السياسي في تونس إلى خسارة رئيس الجمهورية قيسسعيّد، معركة "الحكومة" التي اختار رئيسها، الذي تحوَّل إلى حليف لحركة النهضة، طرف الصراع الآخر.
وبدا أن فقدان سعيّد لخيوط التحكم في المشهد السياسي وفي الحكومة كان جلياً في تحركاته وتصريحاته قبل التصويت على حكومة المشيشي وحتى بعده، في الوقت الذي عمِلت فيه حركة النهضة، الحزب الفائز في الانتخابات التشريعية، على استعادة ورقة تكليف رئيس الحكومة من خلال تقديم كبير للمشيشي ومنح حكومته الثقة واستغلال توتر العلاقات بين رئيس الجمهورية ومن اختاره لتشكيل الحكومة.
وقد شهدت العلاقة بين رئيس الجمهورية قيس سعيّد وهشام المشيشي توتراً كبيراً منذ مشاورات تشكيلة الحكومة؛ بعد تدخُّل سعيّد في تركيبتها وفرضه اسم وزير الثقافة وليد الزيدي على رئيس الحكومة، قبل أن تزداد العلاقة توتراً بعد ما وُصف بالإهانة التي تعرض لها المشيشي لدى استقبال رئيس الجمهورية له ورفضه عدداً من التعيينات الحكومية لمسؤولين تعلقت بهم قضايا وتهم بالفساد.
المشيشي وجد ما يبحث عنه
يقول القيادي في حركة النهضة عبداللطيف المكي، لـ"عربي بوست"، إنه من الطبيعي أن ينسق رئيس الحكومة هشام المشيشي أكثر مع الأحزاب التي منحت حكومته الثقة والتي تدعمه في البرلمان، رغم أنه لم يستثنِ الأحزاب الأخرى في المشاورات حول عدد من القرارات.
وبيَّن المكي أنَّ دعم حركة النهضة وعدد من الأحزاب الأخرى لحكومة المشيشي ساهم في إعادة التوازن للمشهد السياسي، في الوقت الذي أبدى فيه عدد من الأطراف خوفهم من إمكانية سيطرة رئيس الجمهورية على الحكومة، مشيراً إلى أن المشيشي وجد ما يبحث عنه أيُّ رئيس حكومة، وهو حزام برلماني يمكِّنه من تمرير القوانين في البرلمان ومِن دعم ومساندة توجهات حكومته.
وأوضح القيادي في حركة النهضة، أنه حتى وإن كان هناك صراع بين عدد من الأحزاب ومن بينها حركة النهضة، مع رئاسة الجمهورية، فهو صراع بروتوكولي وليس صراعاً بالمعنى الحرفي للكلمة، مشيراً إلى أن طبيعة النظام السياسي في تونس وتوزيع الصلاحيات بين السلطات، هي ضمانة لعدم تغول سلطة على حساب أخرى وعدم تحوُّل رئيس الحكومة إلى وزير أول لدى رئيس الجمهورية.
واستشهد بالرئيس الراحل الباجي قايد السبسي، الذي حاول التحكم في الحكومة عبر إقالة رئيسها (الحبيب الصيد)، ولكنه فشل في ذلك مرة أخرى (مع رئيس الحكومة يوسف الشاهد)، وهو ما قدَّم درساً واضحاً بأنه لا يمكن أن يكون رئيس الحكومة وزيراً أوَّل لدى رئيس الجمهورية وفق النظام السياسي الحالي في تونس.
انقلاب ناعم
من جهته أكد النائب عن حركة الشعب محسن العرفاوي، لـ"عربي بوست"، أن رئيس الحكومة هشام المشيشي انقلب بالفعل على رئيس الجمهورية الذي اختاره لتشكيل الحكومة، وأصبح مرتهناً لحركة النهضة و"قلب تونس" و"ائتلاف الكرامة"، وهي مكونات الحزام البرلماني الذي يدعم الحكومة.
وأوضح العرفاوي أن المشيشي كان يهدف من وراء هذا الانقلاب إلى الحصول على ضمانات للبقاء في السلطة، من أحزاب وحزام برلماني يعتقد أنها يمكن أن تُبقيه أكبر قدر ممكن في القصبة (مقر رئاسة الحكومة) طالما نفَّذ ما تمليه عليه هذه الأحزاب من إجراءات وتوجهات.
يحاول رئيس الجمهورية منع تحوُّل الحكومة ورئيسها إلى مجرد وزراء لدى الحزام البرلماني، من خلال عدد من التحركات لعل منها استقباله الأمين العام للاتحاد العام التونسي للشغل والوزير المكلف العلاقات مع مجلس نواب الشعب علي الحفصي، للإعلان صراحة عن رفضه قرار رئيس الحكومة، هشام المشيشي، سحب مبادرة حكومية لإصلاح الهيئة العليا للاتصال السمعي والبصري، لإتاحة الفرصة لعرض مبادرة أخرى مثيرة للجدل اقترحتها كتلة ائتلاف الكرامة على البرلمان.
وكشف النائب عن الكتلة الديمقراطية أن المشيشي تأكد بعد فشل تمرير مبادرة ائتلاف الكرامة، من أن الحزام البرلماني الذي يدعمه ليس قوياً بالدرجة التي يتوقعها، خاصة بعد معارضة كتلة الإصلاح الوطني التي منحته الثقة، التصويت على مبادرة ائتلاف الكرامة.
وأوضح العرفاوي أن الكتلة الديمقراطية تسعى جاهدة للوقوف أمام ارتهان هذا الحزام البرلماني للحكومة وتمرير قوانين لصالحه.
سعيّد خسر معركة الحكومة.. وليس الحرب
من جهته أكد المحلل السياسي بسام حمدي، لـ"عربي بوست"، أن محاولات "النهضة" وحلفائها في البرلمان استقطاب رئيس الحكومة هشام المشيشي انتهت بإقناعه بضرورة تقاربه مع الائتلاف البرلماني الذي منحه الثقة، ليكون بمثابة حزام سياسي داعم له.
وأضاف أن قناعة المشيشي بأهمية انحيازه إلى الأطراف السياسية الداعمة له بدت جلية في مضمون حديثه الصحفي الذي أدلى به مؤخراً للتلفزيون الرسمي، حين أكد ضرورة التواصل مع الأحزاب السياسية فيما يخص التعيينات في المناصب العليا.
وتابع: "يمكن اعتبار الجلسات المتكررة التي عقدها المشيشي مع ممثلي حزبي النهضة وحزب قلب تونس وكتلة ائتلاف الكرامة، أحد أهم المؤشرات السياسية لانحيازه إلى هذا الائتلاف البرلماني وتجرُّده من موقف رئيس الجمهورية قيس سعيّد، الداعي إلى الاستقلالية التامة للحكومة عن الأحزاب".
وأوضح المحلل السياسي أنه يمكن كذلك اعتبار مسألة دعم المشيشي مبادرة ائتلاف الكرامة أحد أهم مؤشرات تماهي مواقفه مع مواقف الائتلاف البرلماني.
لكن هذه التطورات لا تعني بالضرورة، وفق حمدي، أن سعيّد تلقى هزيمة سياسية في صراعه مع "النهضة"؛ نظراً إلى أن عدداً مهماً من وزراء حكومة المشيشي من المقربين من سعيّد، وأهمهم وزيرا الداخلية والخارجية.
وفي سياق متصل أكد بسام حمدي أن الصراع بين "النهضة" وحلفائها من جهة وقيس سعيّد من جهة، سيحدد خلال الفترة القادمة إذا ما استمرت "النهضة" في محاولة تطويع المشيشي وإجباره على القيام بتعديل وزاري يغيّر طبيعة الحكومة من حكومة كفاءات غير منتمية إلى الأحزاب إلى حكومة متحزبة تعكس تمثيلية الأحزاب في مجلس نواب الشعب.