مجموعات جنائزية فريدة لسلاطين وأمراء المماليك وأسرهم، من أروع ما أنتجته العمارة المملوكية في العالم الإسلامي، تجاورها قباب منفصلة متناغمة معها، بجانب مقابر العائلات الأرستقراطية المصرية الحديثة والتي لا تقل روعة في عمارتها وحسن بنائها وتفردها عن مقابر المماليك.
أصرت الحكومة على هدم المقابر لسبب يقول خبراء آثار إنه لا يخطر على بال عاقل "بناء محور مروري"! بعد قرار بتوسعة طريق صلاح سالم لإقامة محور الفردوس وذلك بإزالة 6 أمتار من أحواش المقابر بالطريق، وإزالة 8 أمتار بشارع الغفير، لوقوعها في خط سير أعمال تطوير وتوسعة الطريق وفق مخطط تطوير الطرق غرب العاصمة.
بلغت حالة الغضب ذروتها، فحراس المقابر استيقظوا فجر السبت ١٨ يوليو/تموز على صوت البلدوزرات واللودرات وهي تزيل الرصيف الموازي للجبانات وبعض البوابات والغرف الملحقة للزوار، وقال المنفذون إنهم سيكتفون بالتوغل لمسافة 5 أمتار، لكن الحراس فوجئوا في اليوم التالي بتوغلهم لمسافة تزيد عن 8 أمتار والدخول في كنف المدافن فانهارت الأحجار وكسر السلم المؤدي إلى غرف الدفن وتم انتهاك حرمة الموتى.
في التقرير نعرض لكم أبرز الشخصيات التاريخية التي تم دفنها في مقابر المماليك والمقابر المجاورة لها
الكلام الذي تم تداوله على صفحات التواصل جعلنا ندقق في تطابق ما تم نشره مع ما يحدث على أرض الواقع، مع الاتفاق على حالة الدمار والخراب التي أصابت منطقة "قرافة المماليك" والتي أطلق عليها البعض "غراس الجنة".
رصد "عربي بوست" ارتفاع حصيلة القبور المهدمة الخاصة بشخصيات أعلام معاصرة لهم قيمتهم التاريخية، إلى 9 شخصيات (حتى كتابة التقرير)، فقد قامت الجرافات بهدم قبر الكاتب الراحل محمد التابعي، المُلقب بـ"أمير الصحافة".
وهدمت جزءاً كبيراً من قبر محمد مصطفى نديم مدير مطبعة دار الكتب المصرية والذي لولاه لضاع تراث أمير الشعراء أحمد شوقي، حيث كان نديم أول مَن يطبع دوواين أمير الشعراء، كما قامت البلدوزرات بهدم جزء من سور المقبرة التي تضم رفات الكاتب إحسان عبدالقدوس وزوجته ووالده الفنان محمد عبدالقدوس.
وهدمت أسوار "مقبرة مدفن حسن باشا صبري (رئيس وزراء مصر وقت الحرب العالمية الثانية والذي رفض دخول مصر في الحرب وجنبها ويلاتها، وقد توفي وهو يلقي خطاب العرش أمام مجلس النواب عام 1940 أمام الملك فاروق).
وبالمثل دمرت واجهة قبر أحمد باشا لطفي السيد، الفيلسوف والمفكر المصري وأحد مؤسسي الحزب الوطني مع مصطفى كامل باشا، والمعروف تاريخياً بلقب أستاذ الجيل، حيث عمل مديراً للجامعة المصرية، كما أسس عدداً من المجامع اللغوية والجمعيات العلمية، وتوفي عام 1963.
تم هدم سور المدفن الخاص بأحمد عبود باشا أحد أعمدة الاقتصاد المصري في القرن العشرين ومن مؤسسي بنك مصر، وأول مصري في مجلس إدارة شركة قناة السويس العالمية.
ومدفن مراد باشا محسن (ناظر الخاصة الملكية في عهد الملك فاروق الأول والذي تسمى باسمه شارع مراد الشهير بالجيزة)، وتم هدم السور الخارجي لمدفن نازلي هانم حليم حفيدة محمد علي باشا الكبير، وانضم زكي محمد المهندس إلى ضحايا المقابر المهدوم أسوارها وكان يعمل عميداً لدار العلوم الأسبق، ووالد الفنان فؤاد المهندس والإذاعية صفية المهندس.
وزارة الآثار في مصر تملك سجلاً أسود في التعامل مع ما تسميه (مقابر حديثة)
الغريب أنه حتى الآن لم يعلن أي مسؤول مصري من اتخذ قرار الهدم، هل محافظة القاهرة أم هيئة الطرق والكباري أو وزارة النقل،؟ فوزارة الآثار ليس من صلاحيتها الهدم لكنها تطوعت لتبرير وتخفيف غضب الناس ببيان ينفي "أثرية" ما تم هدمه باعتباره أمراً عادياً يحدث كثيراً في مصر.
والمحير لأهالي المنطقة أنهم لا يعرفون ما هي حدود أعمال الهدم وهل سيتم الاكتفاء بصف المقابر المطلة على صلاح سالم أم سيتم التعمق أكثر؟ مع تخوفهم من بيان وزارة الآثار، مؤكدين أنه ليس معنى أن المقابر غير أثرية فهذا مبرر لهدمها، فبعضها قيمته تتجاوز القيمة الأثرية إلى قيمة أدبية لا تعوض تتمثل في أهمية الشخص الذي دفن فيها.
تجول "عربي بوست" في الشارع الذي يشهد إزالة جزء من المقابر لتفنيد ما قيل إنه تعرض للهدم، وتأكدنا من أن الهدم لم يمس بعد المقابر "الأثرية" المسجلة كآثار وعددها 36 أثراً فضلاً عن قبر الأميرة شويكار التي يمتد نسبها لإبراهيم باشا الابن الأكبر لمحمد علي وكانت الزوجة الأولى للملك فؤاد.
لكن ماذا عن المقابر التراثية التي تم ضمها إلى كشوف الحصر والتوثيق كمبانٍ من الطراز المعماري المتميز والفريد ومن الممكن أن ينال منها معاول الهدم في الأيام القادمة تحت ذريعة أنها "ليست أثراً"؟
فهناك ضريح الشهيد الطالب المصري محمد أفندي عبدالحكم الجراحي الذي اغتيل برصاص الإنجليز في مظاهرة لطلبة الجامعة المصرية عام 1935، والذي تحدثت الكثير من المواقع عن أن مقبرته تم هدمها لكنها لم تمس إلى الآن.
بجوارها مقبرة منى محمد عبدالكريم الخطابي (ابنة المجاهد المغربي محمد عبدالكريم الخطابي الشهير بأسد الريف، مؤسس لجنة تحرير المغرب العربي وقائد المقاومة الريفية ضد الاستعمار الإسباني والفرنسي للمغرب).
ومقبرة علي بك بهجت (عالم التاريخ والآثار المصري صاحب الفضل في استخراج آثار الفسطاط بالقاهرة، وقبر عثمان باشا مرتضى (رئيس ديوان الخديو عباس حلمي الثاني)، ومدفن فائقة هانم عزت ابنة الخديو إسماعيل بالتبني، وزوجها محمد عزت باشا، ومرقد إبراهيم باشا حليم.
متحف صحراء المماليك..
وإلى جانب المقابر التي تأثرت بشكل مباشر عبّر كثيرون من المهتمين بالآثار عن خوفهم من تأثر المنطقة بالمحور الجديد، وحتى إن تم تنظيم التعامل مع الآثار من خلال جهة واحدة، كما طالب جميع المهتمين بتاريخ القاهرة، سيفتقد القاهريون منهم تحديداً متحف صحراء المماليك المفتوح بقبابه المميزة وما يمثله من تاريخ يتحدى التوحش العمراني المحيط به، بخلاف مقابر العشرات من العائلات المعروفة والشهيرة التي تضم أعلاماً تركوا بصماتهم في القرنين الماضيين.
تشير سهير زكي حواس إلى أنه في عام ٢٠١٢ قام فريق عمل تحت إشرافها بالجهاز القومي للتنسيق الحضاري بعمل خريطة رقمية تتضمن حدود المقابر والجبانات ذات القيمة المتميزة طبقاً للقانون ١١٩ لسنة ٢٠٠٨ وتم إرسال الخريطة مرفقة بقوائم المقابر المقترحة للتسجيل طبقاً للقانون رقم ١٤٤ لسنة ٢٠٠٦ إلى اللجان الدائمة وكان عدد المقابر المقترحة حوالي ٦٠٥ في مناطق المجاورين والغفير وقايتباي والشهداء وتم تسجيل كل من مقبرة الأميرة شويكار ومقبرة إبراهيم حليم كآثار.
الأمين العام للمجلس الأعلى للآثار وجَّه بتشكيل لجنة لدراسة قيمة المقابر بعد هدمها!
محمد العراقي، باحث أثري، قال إن وزارة الآثار في مصر تمتلك سجلاً حافلاً بالكوارث في التعامل مع ما تسميه (غير أثرية)، فحين قررت محافظة القاهرة تطوير منطقة باب النصر تقرر هدم عدد من القبور بحجة أنها غير أثرية لتظهر بعد سنوات فضيحة ثقافية تمثلت في أن من ضمن الشخصيات التي سويت قبورها بالأرض المؤرخ تقي الدين المقريزي، والعالم الإسلامي الكبير عبدالرحمن بن خلدون.
ففي عام 2002 تمت توسعة الشارع الموازي بمقابر الصوفية فى باب النصر والتي دفن فيها ابن خلدون، وتم اقتطاع جزء من المقابر لصالح الطريق كما يحدث الآن في مقابر الغفير، وتشير روايات إلى أن مقبرة ابن خلدون في الجزء الذي تم اقتطاعه.
وقتها خرج الكاتب والشاعر الكبير فاروق جويدة يبكي رفات الأجداد على صفحات مقال له بالأهرام، مذهولاً من أن يتم تسجيل مقبرة "أبوحصيرة" كأثر تاريخي على مساحة ثلاثة أفدنة بدمنهور، في الوقت الذي ننهش فيه رفات هؤلاء العلماء ونلقي بهم تحت عجلات آلات الحفر والهدم!
لكن هذا لم يمنع تكرار تدمير الآثار وأزيلت وكالة العنبريين بشارع المعز والتي يرجع تاريخها إلى عصر السلطان قلاوون الذي بناها لتكون سجناً، ثم حوّلها العثمانيون إلى وكالة لصانعي العطور، ورغم توصية وزارة الآثار باتخاذ إجراءات تسجيل المكان كأثر، تم هدم العقار منذ ما يقرب من عام ونصف ببيان من وزارة الآثار نفسها تؤكد خلاله عدم أثرية العقار وأنه لا يملك فقط إلا واجهة أثرية، ويبدو أن الدور الآن على آثار مقابر المماليك.
لم يطمئن الباحث لبيان وزارة الآثار بقدر ما أزعجه، حيث أكد الدكتور أسامة طلعت، رئيس قطاع الآثار الإسلامية والقبطية واليهودية، أن ما تم تداوله عن أعمال هدم بمنطقة "جبانة المماليك" بما فيها من مقابر تاريخية وآثار إسلامية، عار تماماً عن الصحة، وأنه لم يتم هدم أي أثر، وأن المقابر الموجودة بالصور المنشورة غير مسجلة في عداد الآثار الإسلامية والقبطية وأنها مقابر حديثة وخاصة بأفراد.
قيمة فنية وأدبية لا تقل عن القيمة الأثرية..
ويعلق الباحث على بيان الآثار بقوله إن هناك مئات المباني غير المسجلة كأثر برغم مرور أكثر من مئة عام عليها، وهناك مبانٍ لم يمر عليها مئة عام لكنها ذات قيمة فنية وتاريخية وحضارية وتراثية، ومعظم هذه المباني مسجلة بالجهاز القومي للتنسيق الحضاري كمبانٍ ذات قيمة تراثية ومعمارية وفنية وتاريخية.
ويستكمل العراقي ساخراً أن الأمين العام للمجلس الأعلى للآثار وجَّه بتشكيل لجنة علمية فنية لدراسة الأمر، دون أن ينتبه إلى أن المقابر تعرضت للهدم بالفعل، فأين كانت هذه اللجنة قبل هدم التراث؟ ولماذا لم تشكل؟!
ويوضح أن الأمين العام يناقض نفسه عندما أقر أن اللجنة ستكون مهمتها معاينة الشواهد والأحجار التي تشتمل على نقوش زخرفية أو كتابية لتتم دراستها وبحث إمكانية عرض جزء منها ببعض المتاحف كجزء من تراث مصر المتميز، وهذا يعني أن هذه الزخارف والكتابات ذات قيمة تراثية وتاريخية وحضارية بعكس ما ادعاه في بيانه.
ويكشف الباحث أنه سمع من مصادر أن هناك خطة لهدم الكثير من المقابر التراثية بداية من يوم السبت المُقبل الموافق 25 من يوليو/تموز الجاري، وأن هناك غموضاً يحيط بمصير قبة السلطان الظاهر أبوسعيد قانصوه.
تقنياً يبدو بيان وزارة السياحة والآثار دقيقاً، حسب خبير الآثار الإسلامية يوسف أسامة، فالمباني التي هدمت لم تكن مسجلة كآثار، وإن كانت تضم مقابر لشخصيات هامة في التاريخ المصري الحديث.
ويقول أسامة إن عملية تسجيل الآثار في مصر معقدة للغاية، فضلاً عن أن التعامل مع الأثر يتفرق بين العديد من الوزارات: مثل الثقافة والآثار والأوقاف والداخلية والتخطيط بالإضافة إلى مجالس المحليات ودواوين المحافظة.
كما يوضح أسامة أن المهتمين بالتاريخ كانوا يأملون أن يقام في القاهرة مشروع لتوضيح أماكن دفن الشخصيات المؤثرة في تاريخ مصر الحديث على غرار مشروع "هنا عاش" الذي يوضح أماكن سكن الشخصيات المؤثرة بوضع لافتة على أماكن سكنهم.
مقابرالمماليك الشراكسة تضم مجموعة من العمائر الدينية، والقباب لم تجتمع في مكان واحد مثلما اجتمعت هناك
يتعامل العالم بأسره مع المقابر التاريخية بقدسية مفرطة لكن في مصر فالأمر مختلف، فعلى الرغم من أنها تمتلك إرثاً هائلاً يجعل بكل منطقة متحفاً جنائزياً، فإن المسؤولين يتعاملون معه وكأنه "عدو"، وأصبح من الشائع تناثر تلك المقابر سواء كانت أهرامات أو مقابر ملكية أو مدافن تراثية بدون حراسة تؤمّنها من السطو أو تحميها من النبش والدمار.
كانت صحراء المماليك الممتدة من قلعة الجبل إلى ميدان العباسية بشرق القاهرة عبارة عن ميدان فسيح للعب الكرة عرف بميدان القبق حتى أوائل القرن الثامن الهجري، عندما بدأ ملوك مصر وأمراؤها في إنشاء المساجد والخوانق فيها وألحقوا بها مدافنهم، فباتت تعرف كمنطقة مقابر أو جبانات.
ويوجد في القاهرة قرافتان تاريخيتان هما القرافة الصغرى الممتدة من جبل المقطم وحتى منطقة الإمام الشافعي، والقرافة الكبرى التي تمتد من شارع صلاح سالم الذي يستقبل القادمين من مطار القاهرة الدولي، حتى أول منطقة مدينة نصر حالياً، وبين القرافتين تتفرع جبانتان، أولاهما "المجاورين" وتقع خلف قلعة محمد علي، والثانية جبانة الغفير الشرقية وتقع في المسافة بين المقطم والعباسية وبها مدافن الغفير ومنشأة ناصر والدويقة.
وتشير المصادر التاريخية إلى أن أغلب المقابر في تلك المنطقة والتي بُنيت في عصر المماليك الشراكسة مع نهاية القرن الثامن الهجري تضم مجموعة من العمائر الدينية والقباب لم تجتمع في مكان واحد مثلما اجتمعت هناك، وأكثر من عُني بإنشائها السلطان الملك الأشرف أبوالنصر قايتباي، لذلك فإنها تُعرف بـ "ترب قايتباي".
وتعبِّر المقابر في المنطقة عن حقبة زمنية تمتد لحوالي ألف وأربع مئة عام، من العصر الفاطمي حتى أسرة محمد علي، وتضم تلك القرافة مثوى سلاطين مصر في العصر الإسلامي وزوجاتهم (الخوندات/السيدات الأول).
كانت "صحراء المماليك" كما تسمى المنطقة مورداً خصباً لخيال أدباء مصر وشعرائها، بدءاً من نجيب محفوظ الذي دارت معظم معارك فتوات روايته الشهير "الحرافيش" فيها، إلى الراحل خيري شلبي الذي كتب رواية بذات الاسم "صحراء المماليك".
ومن أبرز المعالم التي تتضمنها منطقة صحراء المماليك مسجد وخانقاه فرج برقوق، ومسجد وخانقاه السلطان الأشرف برسباي، ومسجد السلطان قايتباي وملحقاته، وقبة جاني بك الأشرفي، وقبة قرقماس، وربع قايتباي، وتكية أحمد أبوسيف، والكثير من أضرحة السلاطين والعلماء والمشاهير.
هل ستلقى قبة السلطان الظاهر أبوسعيد قانصوه مصير من سبقوها؟
المثير للقلق والذي رصدناه خلال جولتنا هو المصير الغامض لقبة السلطان الظاهر أبوسعيد قانصوه، حيث إنها نموذج أثري يتردد منذ بدء الهدم خوفاً أن تطالها معاوله، رغم تأكيد وزارة الآثار أن المباني الأثرية في أمان من تلك الإزالات ولم تصَب بسوء، وأن قوة القانون تضمن ذلك، لكن البعض يهمس بأن قبة قانصوه ستعترض مسار المحور المروري الجديد وبالتالي سيكون مصيرها الإزالة حتى لا تعكر صفو العاصمة الإدارية الجديدة.
القبة الضريحية التي تقع في تقاطع أول شارع أحمد سعيد مع طريق صلاح سالم أيضاً، تستوقفك بتفردها العمراني، فهي بديعة المظهر، تزخر بالأطباق النجمية ذات النقوش النباتية، مُسجل بها اسم السلطان، ما يميزها بسهولة وسط قباب المماليك المصطفة يُمنة ويُسرة مثل مجموعة السلطان إينال الذي حكم قبل قانصوه بنحو ثلاثين عاماً، لكن الأخير أصر على تشييد قُبته في منتصف الطريق حتى يراها الذاهب والآيب من وإلى القلعة، وقد انتقد المؤرخون في هذا الزمان بناء السلطان قبته على هذا الحال "معترضة الطريق العام وحركة الدواب".
ويعرف أهل المنطقة تلك القبة بأنها تخص سلطاناً لُقب فعلاً باسم "السلطان معرفش"، حيث أطلق على قانصوه الذي تولى حكم مصر عام 904، ولقب بالسلطان الظاهر، تلك التسمية لأنه كان مُقيداً بسلطة الأمراء المماليك، ورغم أنه كان وافر العقل، لكنه كان مسلوب الإرادة معهم، فإذا ما سُئل عن أمر قال "بخشى" وهى كلمة تركية تعني "معرفش" فسماه المصريون بالسلطان "بخشى أو معرفش".
وبعد أعوام طويلة من رحيل قانصوه أصبحت مسكناً لأحد خفراء المقابر بصحراء المماليك، لتعرف القبة باسم "قبة الغفير"، وسرعان ما تحول اسم المنطقة من مقابر المماليك إلى قرافة الغفير، ليتساوى الغفير بالملوك لكن ليس ليتساوى بالأرض من أجل كوبري "الفردوس".
ممنوع الكتابة..
في الأثناء ووسط كل التخوفات من الإضرار بالآثار، انتظر القراء المقال الذي تكتبه الكاتبة الصحفية ماجدة الجندي المعنية مثل زوجها الراحل جمال الغيطاني بالتراث المصري، بجريدة الأهرام الحكومية، إلا أن العدد الذي يحمل المقال ظهر من دونه، وتبين بعد ذلك أن المقال "ممنوع من النشر" وهو ما يتم مع المقالات التي لا تتوافق مع السياسة التحريرية للجريدة.
منع المقال كان بسبب تساؤل الكاتبة عن أسباب هدم المقابر التراثية في "قرافة المماليك الأثرية" وكتبت أنها تريد إجابة لا يشهر فيها سلاح "أثر مسجل" أو "غير مسجل"، فالاثنان لا فرق بينهما وبالنسبة لها البناء "الأثري" له شرط مساحة من الزمن ليتحقق له التسجيل والحماية مئة عام و"التراثي" غير مشروط بهذا البعد الزمني لتتحقق له القيمة التي تستوجب الحماية، لكن له قيمة تاريخية وفنية ومعمارية، تضعه في مصاف الكنز.
لكن يبدو أن الكلام بالسلب أو الانتقاد لمشروعات الحكومة "ممنوع"، خاصة أن الكاتبة أشارت لبيان وقَّعه مجموعة من المعماريين منهم جليلة القاضي أستاذة التخطيط العمراني بالجامعات الفرنسية، تعبيراً عن صدمتهم في الكيفية التي تم التعامل بها مع جزء من نسيج القاهرة القديمة في نطاق عمليات التجديد والتطوير، والتي بدا فيها التراث "يتيماً".
ومن خلال المقال الممنوع استنجد المعماريون بـ "متخذ القرار"، ويقولون إنهم يتفهمون متطلبات المنفعة العامة، إلا أنه لا ينبغي أن تكون على حساب ذاكرة التراث الثقافي، ويؤكدون أن نطاق القاهرة التاريخية -وليس الأثر المفرد- مسجل على قائمة التراث الإنساني منذ 1979، وطبقاً للقانون المصري رقم 119 لسنة ٢٠٠٨، وأن العديد من المباني المرتبطة بشخصيات تاريخية لها طرز معمارية مميزة مسجلة طبقاً لقانون الفنون والتراث ١٤٤ لسنة ٢٠٠٦.
وأضاف البيان أن إزالة عشرات المدافن، الغنية بتراثها، يقطع التجانس العمراني الذي احتفظ به نطاق القاهرة التاريخية في هذه المنطقة واحتفظت به لأكثر من قرن كما أنه يقطع الهوية البصرية للمنطقة ويدمر وحدتها.
متخذ القرار لا يدرك أن تدمير جبانة تاريخية لتنفيذ محور مروري أمر يثير سخرية العالم
مهندسة معمارية بجهاز التنسيق الحضاري -اعتذرت عن ذكر اسمها- قالت لـ"عربي بوست" إن مشروع "محور الفردوس" هذا طرح منذ عدة سنوات وتمَّ تعطيله من قِبَل الجهاز القومي للتنسيق الحضاري، حفاظاً على الشكل المعماري للمنطقة التي تضم مجموعات جنائزية فريدة لسلاطين وأمراء المماليك وأسرهم، تعتبر من أروع ما أنتجته العمارة المملوكية في العالم الإسلامي، كمجموعات قايتباي وبرقوق وأينال وقرقماش، تجاورها قباب منفصلة متناغمة معها، بجانب مقابر العائلات الأرستقراطية المصرية الحديثة والتي لا تقل روعة في عمارتها وحسن بنائها وتفردها عن مقابر المماليك.
وتساءلت المعمارية بتعجب شديد عن سر إصرار الحكومة على بناء المحور بهذا الشكل على حساب منطقة أثرية قيمة، والتعدي على المنطقة الأثرية وإزالة كنوز معمارية تخص المصريين من مختلف الأجيال.
وأضافت: "رغم مشاركتنا في التوقيع على بيان يندد بما يحدث، فإنني في الحقيقة غير متفائلة باستجابة متخذ القرار لما طالبنا به، وذلك بناء على موقف متخذ القرار من بيانات سابقة متعددة في مواقف وطنية متعددة تقدم بها مثقفون وطنيون ونقابيون وأثريون، فما يحدث في مصر في السنوات الأخيرة يعكس ثقافة القائمين على الأمر فيها وهو بناء الجديد على هدم تراث الماضي دون قدرة على استيعاب قيمة القديم الذي يهدمه، بدليل أن متخذ القرار لا يدرك أن فكرة تدمير جبانة تاريخية أو أثرية لتنفيذ محور مروري هو أمر ليس فقط لا يخطر على بال أحد عاقل، وإنما أيضاً يثير سخرية العالم منا كمصريين، مثلما حدث قبل سنوات حين صدم العالم بقادة طالبان الأفغانية وهم يهدمون تماثيل أثرية مسجلة في اليونسكو بدعوى أنها أصنام".