وجه الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، الجمعة 10 يوليو/تموز في خطابه التلفزيوني مباشرة بعد قرار تحويل "آيا صوفيا" من متحف إلى مسجد، العديد من الرسائل، لكن أبرز ما شد انتباه عدد من متابعي الخطاب، استشهاد رئيس تركيا بأبيات لشاعر يسمى عثمان يوكسل سردنغتشي، الذي حكم عليه بالإعدام، خلال ثمانينيات القرن الماضي، بعد أن ناضل من أجل إعادة فتح آيا صوفيا مسجداً.
أُعدم من أجل آيا صوفيا: عثمان يوكسل كان صحفياً وشاعراً ومناضلاً تركياً خلال العقد قبل الأخير من القرن الماضي، وقد حمل لقب "سردنغتشي" من المجلة التي سهر عليها، حيث كان يناضل من أجل إعادة آيا صوفيا مسجداً جامعاً، بدلاً من متحف، وهو الأمر الذي أدى إلى سجنه وحكم عليه بالإعدام.
أما النص الشعري الذي اقتبس منه أردوغان لهذا المناضل التركي الشهير، فهو ذاك التي تم الحكم عليه بسببه بالإعدام، والذي قال فيه: "آيا صوفيا! أيها المعبد العظيم، لا تقلق سيحطم أحفاد الفاتح كل الأصنام، ويحولونك إلى مسجد، ويتوضؤون بدموعهم ويخرون سجداً بين جدرانك، وسيصدح التهليل والتكبير ثانية بين قبابك، وسيكون هذا الفتح الثاني، وسيكتب الشعراء عنه الملاحم، وسيصدح الأذان من جديد وأصوات التكبير من تلك المآذن الصامتة اليتيمة، وستتوهج شرفات مآذنك بالأنوار تقديساً لله وشرف نبيه، حتى إن الناس سيظنون أن الفاتح بعث من جديد. كل هذا سيحدث يا آيا صوفيا، والفتح الثاني سيكون بعثاً بعد موت، هذا أمر أكيد لا تقلق، وهذه الأيام باتت قريبة، ربما غداً أو أقرب من غد".
ففي الخطاب المتلفز، الذي ألقاه أردوغان، الجمعة، بعد قرار المحكمة الإدارية العليا التركية إلغاء وضعه متحفاً، وتوقيعه مرسوم تحويله، قال إن آيا صوفيا تحدث عنه الكثير من الأدباء والمفكرين والفنانين التركيين، وعبروا عن أسفهم لما آل إليه حاله بعد أن حرم من العبادة.
كما استشهد أيضاً، بمقولة للدبلوماسي والشاعر التركي يحيى كمال بياتلي، الذي كتب مقالاً سنة 1922، قال فيه: هذه الدولة لها أساسان معنويان: أولهما الأذان من مآذن آيا صوفيا والتي ما زالت تصدح، والثانية تلاوة القرآن الكريم أمام الخرقة الشريفة (بردة النبي الكريم في قصر طوب كابي في إسطنبول) وهي ما زالت تتلألأ".
محاكمته التاريخية: وفق تقرير لصحيفة "haber7" التركية، فإن عثمان يوكسل لم يشتهر فقط بالأبيات التي ألفها بخصوص آيا صوفيا، بل أيضاً بمرافعته الشهيرة خلال محاكمته.
إذ قال في دفاعه عن نفسه خلال محاكمته:
"القضاة الشرفاء! (..) كما قلت في الكتاب، فقد أحضر الادعاء هذه القضية إلى المكان الخطأ. كان من الأفضل لو أرسل الملف إلى اليونان.
في حين أن الحكومة اليونانية، التي تقول إن إسطنبول وحتى إزمير يونانيتان، والذين يكتبون القصائد والأشرطة عليها يشجعون شعرهم اليوناني، فإنهم يحولون الشخص الذي يريد سماع صوت واحد وصوت الأذان في آيا صوفيا إلى محاكم جنائية شديدة.
هذه المقارنة تدفعني للجنون! يبدو الأمر كما لو أنني أرى ممثل أثيناغوراس، وليس تركياً مسلماً، في النيابة. أنا أرتجف!..
في هذا البلد، الذي نجا بجهد الدين، بجهد الإيمان، وبلاد الشهداء والمحاربين القدامى، لماذا ولماذا يعتبر صوت ضميرنا وإيماننا وتاريخنا جريمة؟".
سيادة تركيا: أردوغان شدد أيضاً على أن "آيا صوفيا" ستبقى تراثاً مشتركاً للإنسانية، وستواصل احتضان الجميع بشكل أكثر صدقاً وأصالة، داعياً الجميع إلى احترام القرار الذي اتخذته الهيئات القضائية والتنفيذية في تركيا بخصوص "آيا صوفيا"، واصفاً أي موقف يتجاوز التعبير عن الآراء، بأنه "انتهاك للسيادة".
كما أشار إلى أنه من المخطط افتتاح "آيا صوفيا" للعبادة في 24 يوليو/تموز الجاري، بإقامة صلاة الجمعة.
وأكد أنه سيتم إلغاء رسوم الدخول إلى مسجد "آيا صوفيا" عقب رفع وضعية المتحف عنه، لافتاً إلى أنَّ حق التصرف بـ"آيا صوفيا" أمر متعلق بسيادة تركيا، مشيراً إلى أنها تتقبل جميع وجهات النظر الدولية حول هذه المسألة.
إحياء وبشرى: الرئيس التركي أوضح قائلاً: "هناك أكثر من 453 كنيسة وكَنِيساً في تركيا، وهذا المشهد يعد تجلياً لإدراكنا أن اختلافاتنا تزيدنا ثراء".
كما أكد أن حق الشعب التركي في "آيا صوفيا" لا يقل عن حق من أنشأه قبل 1500 عام، مضيفاً أن "آيا صوفيا" تشهد اليوم إحياءً جديداً كالذي شهدته مراراً عبر التاريخ، مذكِّراً بأن قرار تحويل "آيا صوفيا" إلى متحف والذي اتُّخذ إبان حكم الحزب الواحد، "إهانة للتاريخ وانتهاك للقوانين".
إذ صرح في هذا الخصوص قائلاً: "عودة العبادة إلى آيا صوفيا بعد 70 عاماً، بعثٌ جديد قد تأخر، وإعادة افتتاحه بشارة نحو عودة الحرية للمسجد الأقصى"، معتبراً أن افتتاح "آيا صوفيا" كمسجد للعبادة هو حفاظ على التراث الثقافي المشترك للإنسانية، وأردف: "آيا صوفيا رمز عزمنا للحفاظ على أمانات شهدائنا ولو كان الثمن أرواحنا".
المتحدث نفسه شبَّه منطق المُصرّين على إبقاء "آيا صوفيا" متحفاً بمنطق المطالبين بإغلاق الفاتيكان أمام العبادة وتحويله لمتحف، كما اعتبر أن "آيا صوفيا" بعد 86 عاماً، سيعود للخدمة كمسجد كما بُيّن في الوقف التابع للسلطان محمد الفاتح، متمنياً أن يجلب قرار إعادة "آيا صوفيا" إلى أصله، الخير للأمة الإسلامية والبشرية جمعاء.
كما أكد أن وزارة الثقافة والسياحية، ورئاسة الشؤون الدينية في البلاد باشرتا فوراً بالترتيبات اللازمة في هذا الإطار.
ما قصة آيا صوفيا التاريخية؟ يُعد متحف "آيا صوفيا" من مواقع التراث العالمي لمنظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة (يونسكو)، كما أنه ارتبط بالإمبراطورية البيزنطية المسيحية والإمبراطورية العثمانية الإسلامية، وهو اليوم أحد أكثر المعالم الأثرية التي يقبل الناس على زيارتها في تركيا.
بُنيت كنيسة آيا صوفيا في القرن السادس بعهد الإمبراطورية البيزنطية المسيحية، وكانت مقراً لبطريركية القسطنطينية، الاسم السابق لإسطنبول. سنة 1453، أمر السلطان محمد الفاتح بتحويل كنيسة آيا صوفيا إلى مسجد، وبُنيت المآذن الإسلامية حول قبتها البيزنطية.
وبقيت آيا صوفيا مسجداً إلى ما بعد انهيار الإمبراطورية العثمانية، وفي منتصف الثلاثينيات أمرت السلطات التركية الجديدة في عهد مؤسسها العلماني أتاتورك بتحويل المسجد إلى متحف مفتوح للجميع.
ويعتبر مبنى آيا صوفيا صرحاً فنياً ومعمارياً فريداً من نوعه، وهو موجود في إسطنبول بمنطقة السلطان أحمد بالقرب من جامع السلطان أحمد. ومسجد آيا صوفيا كان من قبلُ كنيسة ضخمة بناها جستنيان الأول البيزنطي سنة 537، وقد سقطت قُبتها عدة مرات، وآخر مرة أُعيد بناؤها سنة 1346، وقد أُجريت عدة تقويات وترميمات للمبنى في العهد العثماني.
وكان مبنى آيا صوفيا في إسطنبول على مدار 916 عاماً كاتدرائية، ولمدة 481 عاماً مسجداً، ومنذ عام 1935 أصبح متحفاً، وهو من أهم التحف المعمارية في تاريخ الشرق الأوسط. وقد غيَّر السلطان محمد الفاتح المبنى ليكون مسجداً، وأضاف إليه منارة، ثم أضيفت إليه منارة أخرى زمن السلطان بايزيد الثاني، إلى أن قام بتحويله كمال أتاتورك، مؤسس تركيا العلمانية، إلى متحف سنة 1934.